الآثار الفرعونية هل تنفي أو تثبت وجود الأنبياء؟!

زاهي حواس في واحدة من رحلات التنقيب عن الآثار القديمة، لكنه ليس فقط لن يعثر على أثر للأنبياء ولكنه أيضًا لن يعثر على أثار تدون الهزائم (غيتي)

عناوين ومنانشيتات، بين الحين والآخر تخرج على ألسنة مختصين بالآثار الفرعونية، مفادها: أنه لا توجد -إلى الآن- أدلة في آثار الفراعنة على وجود أنبياء مروا بمصر، مثل: إبراهيم، ويوسف، وموسى، وعيسى، عليهم السلام، ويثور الجدل حول علاقة النص الديني الثابت والمستقر، بالأثر التاريخي البشري، من يثبت من؟ ومن ينفيه؟ وبخاصة أن الحديث عن أنبياء ونبوة، جلهم من أولي العزم من الرسل.

ولا يعنينا القائل لهذا الكلام، ومدى درجته العلمية من حيث صلته بالتاريخ، ولكن لما يترتب عليه من بلبلة عند البعض، كان من المهم تناول هذه المسألة، حيث إن الثفافة المحدودة عن مصادر التاريخ، تؤدي إلى الإرباك في مثل هذه القضايا المهمة، وبخاصة من لا يعتمدون على المصادر سوى المصادر البشرية المادية، ومثل هؤلاء مساحة الالتقاء معهم ستكون محدودة مع من يمثل لهم الوحي الإلهي المصدر الأول والأخير، وما عداه فهو مصادر ثانوية.

فالطبيعي أن مصدر المؤمن بالأنبياء، هو الوحي الذي جاءه به هذا الرسول، فهو مصدره، وما عداه يعد موضع نقاش، وهو أشبه بشهود الإثبات، لا النفي، حيث إنه لا حاجة له بإثبات المثبت اليقيني، أو التشكيك فيه. ومع ذلك تحتاج هذه الجملة التي تخرج كل فترة، إلى توضيح علمي منصف، بعيدًا عمن يحاول توظيفها من هنا أو هناك.

نسبة ما اكتشف من آثار

أولا: ما نسبة ما اكتشف من آثار العالم، سواء الفرعوني منه أو غيره؟ إن أقصى تقدير أعلنه المكتشفون أنهم لم يكتشفوا أكثر من ثلاثين بالمائة من هذه الآثار، وأن باطن الأرض يحوي سبعين بالمائة على الأقل مما تبقى من آثارها، وهذه تقديرات أيضا نسبية، تزيد أو تقل، لكنها تدور في فلك الاحتمالات والحدس العلمي.

وهو نفس ما يقال عن عالم المخطوطات العلمية، فقد كانت الكتابة على أدوات الكتابة البسيطة منذ مئات السنين، منذ فجر الإسلام مثلًا، ثم ما تلاها من سنوات أخرى، اكتشفت فيها وسائل أخرى للكتابة، لم يكتشف من هذه المخطوطات أيضًا إلا مساحات محدودة، وكثيرًا ما تجد في الكتب المعنية بفهرسة الكتب، أن المخطوط الفولاني كتبه صاحبه وهو مفقود، ثم بعد سنوات من البحث نكتشف نسخة غير كاملة، أو كاملة، في بلد أوروبي، أو في مكان ما، والسبب: هلاك هذه المخطوطات، أو سرقتها من بلدانها، أو ضياعها ضمن الحروب والمعارك، كما في حروب التتار والتي وضعوا فيها مكتبة بغداد في نهر دجلة والفرات، حتى تغير لون البحر إلى لون الحبر، كما يذكر أهل التاريخ.

الملوك لا يدونون هزائمهم

ثانيًا: النقطة الأهم هنا، هو: ماذا يدون الفراعنة في معابدهم وآثارهم؟ إنهم يدونون حياة الملك، والملك فقط، وندر جدًا أن تجد بجانب الملك أي شخصية أخرى بارزة، إلا من باب الحاشية، وما يدون في حياة الملك هو انتصاراته وإنجازاته فقط، فلا يدون هزائمه، وقد كتب في ذلك وأسهب الدكتور سليم حسن في موسوعته الكبرى والمهمة: مصر القديمة. كما أنه لو تم إنجاز قام به الشعب، أو قامت به الفئة المحيطة بالفرعون فلا ينسب إلا له، ولا يتم ذكر هؤلاء الأشخاص.

ولو جئنا نمر على الأنبياء الذين وجدوا في مصر، سنجد معظمهم يتعلق بنقاط ضعف للفرعون، وليست نقاط قوة، ومواضع هزيمة لا انتصار، فنبي الله إبراهيم عليه السلام، عندما زار مصر، ومر بها مرورًا سريعًا، ومعه زوجه السيدة سارة، ومحاولة الملك الاعتداء عليها، ثم أصابه الله بالشلل، كي لا يقترب منها، هل سيذكر فرعون أو غيره هذا الموقف لو كتبه في سجل حياته؟ وهل لو أن الموقف مع مؤلف معاصر يكتب سيرته الذاتية، لو تعرض لمثل هذا الموقف سيذكره؟ خاصة لو لم يكن عليه شهود يحرجونه بذكره؟ غالبًا، لن يذكر مواطن الضعف، ولا يجبر الإنسان على ذكر مواضع ضعفه إلا وجود شهود يملكون ما يملك من أدوات التاريخ والكتابة.

ونبي الله يوسف عليه السلام، جاء في مرحلة الهكسوس -كما يذكر المؤرخون- وقد حل مشكلة كبرى مرت بها مصر، وكان عزيز مصر بعد ذلك، فهل سيدون الملك أو عزيز مصر آنذاك ما قامت به زوجه من مراودة فتاه عن نفسه، لقد انتقمت منه بالسجن، لأنه أظهر ضعفها أمام مجموعة من النسوة، فما بالنا بالزوج نفسه، وهل من ألقى ببريء في السجن، سيذكر في تاريخه وسجله ذلك؟ هل وجدنا طاغية أو ظالمًا عاش ومات ولم يتب من ظلمه، دون أو ذكر مظالمه للناس؟! رغم أن نبي الله يوسف كان السبب الرئيس لاستيطان العبرانيين لمصر، وقد ظلوا بها لفترة طويلة، ومع ذلك لم نر آثارًا تدل على هذا السبب، رغم أنه تولى منصبًا من أكبر المناصب في مصر، لكنه لم يكن الرجل الأول، الذي تهتم به الآثار والمدونات وقتها.

وكذلك نبي الله موسى عليه السلام، كل مواقفه مع الفرعون هي مواقف انتصار لموسى وقومه، وهزيمة نكراء لفرعون، انتهت بموت الفرعون وهلاكه، وما يقال عن موسى عليه السلام، يقال عن امرأة فرعون، أشهر امرأة مؤمنة من بيت كفر وطغيان، ومع ذلك لن تجد لها ذكرًا في الآثار، رغم موتها على يد فرعون.

هنا نجد تدوين الانتصارات عند المنتصر، فستجد في تاريخ العبرانيين كيف خرجوا من مصر؟ وكيف نجاهم الله في يوم عاشوراء، وخلدوا اليوم بصومه، وكذلك سنجد تاريخ هزائم الفراعنة عند من انتصروا عليهم، فنموذج إخفاء الهزائم، وإنكارها، ومحوها من التاريخ عادة متأصلة ليست عند الفراعنة فقط بل عند غيرهم كذلك، ولكنها ملاحظة بشكل أوضح عندهم.

فمثلا: هزيمة الفراعنة على يد الأشوريين، ولا تجد في تاريخ الفراعنة أي تسجيل لهذه الهزيمة مطلقًا، رغم أن الأشوريين كانوا أصحاب حضارة آنذاك وشهرة واسعة في العراق، وهي ممملكة قديمة عراقية معروفة، ولكننا نجد تفاصيل هذا الغزو والهزيمة الفرعونية في مدونات وآثار الأشوريين، وبالتالي من الطبيعي أيضًا ألا نجد عند آثار الفراعنة ذلك، فهل معنى عدم ذكر هذه الأحداث الثابتة تاريخيًا، أنها لا وجود لها لأن الآثار الفرعونية لم تذكرها؟!

معارضة الأنبياء للحكام

الأنبياء كانوا بالنسبة للملوك والحكام يمثلون معارضة، في أشد حالاتها، لأنهم يأتون بدين وتعاليم تخالف ما هم عليه بنسبة تسعين بالمائة على الأقل، وأولها: أن الملوك والبشر سواسية، وأنهم كلهم عبيد لله تعالى، ففي حالة وجودهم، لن يذكرهم الملوك، وفي حالة انتصار الأنبياء عليهم كما هو المنصوص في القرآن، فمن الطبيعي أنه لن يتم ذكر هزيمة الأنبياء لهم، كنموذج قوم لوط، وقوم صالح، وقوم هود، والفراعنة أنفسهم، وهو نفس الحال الذي يذكر عن النمروذ في العراق مع نبي الله إبراهيم، فهل سيدون ملك أو مملكة أن فتى في سن الشباب المبكر، قام بتحطيم أصنامهم، وأنه قام فجادل ملكهم الذي يدعي أنه يحيي ويميت، فأفحمه، وعاقبوه بذلك، فألقوه في النار، ومع ذلك لم تصبه النار بأي أذى، وانتصر عليهم؟!

وجود التزوير والسطو في الآثار الفرعونية

كما أن الآثار الفرعونية لم تخل من تزوير، ومحو لأمجاد سابقين، ونسبتها لفراعنة آخرين، فتجد الفرعون يقوم بمحو اسم آخر سابق، على تماثيل، أو إنجازات، أو رسومات، وأحيانًا يريد بناء معبد، أو مقبرة، فيقوم بتفكيك معبد سابق لآخر، وهذا مشهور بشكل فج في التاريخ الفرعوني، على عظمة منجزه في الآثار، لكنها حقيقة تاريخية معروفة.

وهي عادة فرعونية مشهورة، كتب عنها جل من عني واهتم بالتاريخ الفرعوني، ولم تخل منها الجينات المصرية خاصة لدى حكام العسكر، فكنا ندرس في تاريخنا في المدارس المصرية، كتاب التاريخ بالصف السادس الابتدائي، وكانت دروس التاريخ تأتي عند فترة 23 يوليو/تموز سنة 1952، فنجد مجمل الدروس: قامت ثورة يوليو، وحكم الرئيس جمال عبد الناصر، ومعروف أن عبد الناصر لم يتمكن من الحكم المباشر إلا في سنة 1954م، وتم محو اسم أول رئيس رغم أنه عسكري مثلهم، وكان قائدًا لهم، وهو الرئيس محمد نجيب.

وهناك نقاط أخرى في نقاش قضية الآثار الفرعونية والإنسانية، ومدى ونسبة صدقها ودلالتها على التاريخ، وهي مصدر من مصادر التاريخ، وليست المصدر الوحيد الذي نثبت أو ننفي به وجود شخصيات مهمة، فضلًا عن الأنبياء والمرسلين.

 

المصدر : الجزيرة مباشر