محمد سعيد يكتب:عن “القِمَري” والهابطين من الطائرة إلى السجن

تقول القصة إن شابا معارضا للسلطة العسكرية يدعى إسماعيل القِمَري خرج من مصر عقب انقلاب الثالث من يوليو، مكث فترة، لم يتحمل الغربة. يتبع

محمد سعيد

تقول القصة إن شابا معارضا للسلطة العسكرية يدعى إسماعيل القِمَري خرج من مصر عقب انقلاب الثالث من يوليو، مكث فترة، لم يتحمل الغربة،  فلم يلبث أن عاد مرة أخرى إلى الوطن، ألقي القبض عليه في المطار، عُذِبَ، وقُطِعَ أحد شراينه، والآن يبيت في زنزانة.

أعلم شخصا مثل “إسماعيل” تماما، فعل ذلك مرتين وليس مرة واحدة، خرج وعاد، ثم خرج وعاد، في المرتين كان يعلم تمام العلم أنه لن يخرج من صالة الوصول منها إلى بيته، بل إلى قبوٍ مظلم في بناية شرطية معلوم عنها “أن داخلها مفقود والخارج منها مولود”، ورغم ذلك فعل.

إسماعيل وصديقي هذا، يرى البعض أو ربما الكثير أن فعلهما بالعودة هو أمر “أهوج”، كيف يعود إلى وطن كهذا، كل شيء فيه رائحته دم؟!،  ربما لدى متهمي “إسماعيل وصديقي” حق فيما يقولون، ولكنهم نسوا أن هناك بشرا مختلفين عنهم لا يقيسون الأمور بالمقاييس العامة، بشرا ضعفاء،  يجذبهم الوطن بطريقته الخاصة، جاذبية لا يفهمها إلا “إسماعيل وصديقي ومن على شاكلتهما”.

صديقي الذي فعل فعلة “إسماعيل” يروي لي قصته: قيل لي عند سفرتي الأولى أنك إذا سافرت لن تعود، لن ترى عائلتك، جيرانك، أصدقاءك، قبر أبيك، قلت لهم إني مستعد لكل ذلك، وفي قرارة نفسي كنت ابتسم ابتسامة ماكرة قائلاً لنفسي، سأعود عندما يغلبني الشوق، سأعود مهما كلفني الأمر.
يكمل صديقي: مع أول ليلة لي في بلد كنت لم أتخيل أني سأزورها يوما أردت أن أعود، عفوا ليست أول ليلة بل مع هبوط الطائرة على المدرج، لا  لا قبل ذلك  عند مروري من منطقة الجوازات إلى الطائرة، كنت قد أعدت كل شيئ، أغاني السفر وتراتيلها ” وإحنا فايتين ع الحدود، ويعني إيه كلمة وطن، أهاجر وأسيبك لمين، أنا مهما خدتني المدن، وغيرهم”.
صديقي يقول: قضيت أطول ليلة في حياتي في غرفة فندقية لم استسغها، كل يوم أُمنّي نفسي  فيه بالعودة، وأن فرجا سريعا سترسله السماء، سريعا قتل عدد من أصدقائي في تظاهرة، فقررت أن أهرب من البلد الذي أعيش فيه لبلد آخر، لم أفلح، قررت العودة إلى الوطن، قيل لي ستبيت ليلتك الأولى في القبو الأمني إياه، لن تخرج، لم استجب لكل النصائح، وخضت غمار طائرة مجنونة تقلني إلى بلد أعلم أن مصيري فيها “رصاصة” تذكرة عودتي أثمن منها بكثير. انتهى هنا  كلام صديقي “المجنون”.
“إسماعيل وصديقي” ربما لم يتحملا تلك الطاقة الجاذبة للوطن، فقررا أن يضعا قلبهما في “ثلاجة” وكذلك “أعصابهما” وعادا إلى الوطن، أو قل السجن، “إسماعيل” في السجن الصغير، وصديقي في السجن الكبير الذي يضيق كل يوم عن سابقه.

لك أن تتخيل “إسماعيل وصديقي” في رحلة  عودتهما،  لقطة درامية فريدة، قرار العودة نفسه لحظة تراجيدية،  لحظة تقرر فيها أن تنسى كل شيء سوى تجاوزك لحاجز ضابط الشرطة الذي يختم جوازك بخاتم أزرق وأحيانا رمادي “وفي اللونين حكمة”، ترى حياتك عند اللحظة التي ستتجاوز  ضابط الجمارك، وتسحب حقائبك إلى الطريق خارج صالة الوصول، إلى “التاكسي” الذي ستستقله لكي تعود إلى بيتك، وتمر به على كل موضع تمنيت أن تراه،  تتخيل لحظة مفاجأة أهلك بوصولك، ولكن كل هذا ينتهي بأن إسمك ظهر على الحاسوب مع الذين قررت السلطة ” أن تترقب وصولهم على أحر من الجمر”، ثم تخرج في سيارة ترحيلات  ترى من “شبّاكها” كل ما تمنيت أن تراه وأنت مستقل “التاكسي”.

لقطة أخرى لن يفهمها سوى “إسماعيل وصديقي”، هي لقطة “مشهد الوصول” من الجو، لقطة دخول الطائرة  الأجواء المصرية، ويا حبذا إن كان الوصول من الشمال وفي المساء، إسكندرية مثلا، ترى الكورنيش من بعيد، تدقق في المشهد، هنا المعمورة، وهناك أحمد حسنين “بتاع الهريسة”، وفي الأسفل قلعة قايتباي و”شعبان بتاع السمك اللي بيقولوا عليه”،  وشارع خالد بن الوليد في المشهد، تدخل الطائرة أكثر إلى القاهرة، ترى كارتة “كارفور”، المحور، الدائري، ميدان النهضة، مقابر الإمام الشافعي، يرون موضع بيتهما، الأزهر والحسين، مسجد رابعة، تسلسل لمشاهد سريعة وكأن “إسماعيل وصديقي”  في جولة سياحية ختامية تنتهي في مطار القاهرة ثم زنزانة.

ربما حظ “إسماعيل” العاثر أنه لم يصادف حظا أفضل كحظ “صديقي” الذي مر من كل هذه الحواجز بصعوبة ولكنه في النهاية مر، ويبقى هناك العشرات  وربما  المئات  من منتقدي تهور “إسماعيل وصديقي” أرواحهم معلقة في “السماء”، نفوسهم تسكن طائرات تنتظر الهبوط، لا يهابون “كلابش الوصول” . 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها