“عصمت زين الدين” مؤسس قسم الهندسة النووية الذي عاش رمزا للمعارضة

د. عصمت زين الدين

بالطبع فقد كنا نتمنى أن يكون العنوان مؤسس البرنامج النووي المصري!  لكننا للأسف الشديد سنرى السبب الجوهري في عدم تأسيس البرنامج، ومن المدهش أن سيرة حياة هذا الرجل الذي رزق طول العمر حتى بلغ ستة وتسعين عاما هي النموذج الأمثل لمعاناة العلماء الذين انضموا للتنظيم الطليعي من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان التنظيم الطليعي نفسه هو سبب معاناتهم، وذلك لأن التنظيم الطليعي نفسه ليس شيئا واحدا وإنما هو صورة مما هو خارجه، وسنقدم في حديثنا عن هذا العالم الشهير والجهير صورة لما يمكن تسميته ذكريات الدكتور عصمت زين الدين 1924- 2018 عن حياته و مشاركاته في السياسة والبرنامج النووي من خلال عملنا على بناء ما  قد يوصف بأنه  نص متماسك ومرتب معتمد على ما كان يرويه الدكتور عصمت نفسه للصحافة في أخريات عهد الرئيس مبارك وبعد ثورة يناير، مما كان الصحفيون يخضعوه لأولوياتهم من الحديث  ومناسبته، و لما يرونه هم من الأهمية، لكننا نقدم هنا من خلال نصوصه المتدفقة في إجاباته المتفرقة وغير المترابطة ما يكفل تصوير ملحمة حياته الطويلة. وسوف نعتمد على روايات ذلك العالم الكبير نفسه وردوده على أسئلة الصحفيين في أحاديثه الصحفية قبل وبعد ثورة يناير 2011 و من أهمها حواره مع الأستاذ نبيل أبو شال في المصري اليوم 25 فبراير 2008 وحواره مع الأستاذ محمد عبد السلام الذي  نشر في البوابة نيوز في  ٤ سبتمبر 2013 .

بداية اتصاله بالهندسة النووية

“… بعد تخرجي من جامعة الإسكندرية بكلية الهندسة عام 1948، ذهبت إلى لندن للقيام بأبحاث الفيزياء والمواد وتأثير الإشعاعات عليها وبالفعل حصلت على الدكتوراة في هذا المجال، وفي عام ١٩٥٢ [اعتزمت] جامعة لندن إنشاء أول قسم هندسة نووية بإنجلترا، فاختارت اثنين من زملائي في الدراسة وهما ماسي فيلد ، وهوتيست يو، وكلفوهما بإنشاء هذا القسم، وكانا من نفس تخصصي، وبدءا في إنشاء أول مفاعل نووي، وكنت أتابع معهما، وعرفت كيف يبنى المفاعل، ولم يكن واردًا لي أني سأتجه لإنشاء قسم هندسة نووية.

“… في عام ١٩٥٩ اتخذت قراراً بإدخال إنتاج الطاقة النووية في [المقرر الدراسي] الذي أقوم بتدريسه، وخلال عامي ١٩٦٠ و١٩٦١ سعيت إلى تأهيل نفسي لاتجاهات الطاقة النووية، وعملت في ثلاثة مواقع منها المركز النووي لشركات الطاقة بنيوكاسيل.

يتحدث عن تكوينه العلمي في بريطانيا
“…. تم تدريبي تدريبًا جيدا في المركز النووي لشركات الطاقة بمانشستر، وتدربت على الفيزياء النووية داخل هيئة الطاقة الذرية البريطانية، ودخلت المفاعلات الثلاث الموجودة في لندن، فقد كنت على أتم الاستعداد. علماء الهندسة النووية في جامعة لندن عرضوا علي عروضا مغرية لاستمر في بريطانيا وقالوا لي:  ماذا ستفعل في مصر؟ لن تجد هناك أبحاث أو دوريات أو تمويل، ولكنني رفضت وبمجرد عودتي لمصر عام 1964 كنت [متشبعا] بأمل إدخال العلوم النووية في الجامعات المصرية”.

إنجازه في دراسة الطاقة

“…..  أدخلت لأول مرة تخصص هندسة الشبكات الكهربائية الموحدة بعد أن كانت كل محافظة لها شبكة منفصلة واتجهت للطاقة النووية وركزت علي تأثير الإشعاعات النووية علي خواص المواد تحت الضغط العالي وتعرفت علي تكنولوجيا الإشعاعات النووية” ..

البرنامج الدراسي لقسم الهندسة النووية في عهده

“… يوم الإثنين من كل أسبوع من الساعة العاشرة صباحا حتى الساعة الثانية ظهرا: حوار فكري: يجتمع جميع الطلاب في القسم وجميع الأساتذة المنتدبين والمعنيين والمعيدين ورئيس القسم في دائرة، ونبدأ في حوار قائم على النقد والنقد الذاتي بدءا من رئيس القسم حتى الطلاب”..

تجربته في منظمة الشباب

“….. عام 1964 في مؤتمر الميثاق الوطني، تم تكوين التنظيم الطليعي وكان داخله تنظيم سري تشرف عليه مباحث أمن الدولة وجهاز المخابرات وشعراوي جمعة وزير الداخلية الأسبق، وكان الليثي عبد الناصر علي رأس التنظيم السري في الإسكندرية..

“… عملت معهم في منظمة الشباب ، هذا صحيح.. وقد واجهت حربا من الفساد الانتخابي الذي بدأ يتشكل في مصر منذ عام 1958”

بداية المشكلات الحقيقية

“…بدأت المشاكل الحقيقية بمجرد انتهاء مرحلة الفرقة الثانية، فالفرقة الثالثة والرابعة تبدأ بمرحلة التخصص الدقيق، والجامعة ليس بها أي أستاذ واحد متخصص، فاضطررت للاستعانة بأساتذة أقرب ما يكون من التخصص، وهنا حدثت المفاجأة الكبرى، فقد قام صراع سياسي ضخم بيني وبين التنظيم السري المسيطر على الجامعة، فالجامعات المصرية لم يكن بها عميد حقيقي، بل عمداء مجرد ديكور أو شكل، والمتحكم الحقيقي في الجامعة هو التنظيم السري” ..

عضويته في المكتب الاستشاري للبحث العلمي في الرئاسة

“….  أنشأت قسم الهندسة النووية في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية وتوليت رئاسته وقدمت عام ١٩٦٦ أول دراسة لتشغيل محطة كهرباء السد العالي، وأول برنامج نووي للطاقة في مصر عن كيفية عمل محطات نووية وتحديد أماكنها … حضر الرئيس عبد الناصر اللقاء الثاني لنادي هيئة تدريس جامعة الإسكندرية، ومن باب الزهو أعلن رئيس الجامعة عن هذه الدراسات، بعدها بأسبوعين تلقيت خطابًا من رئاسة الجمهورية بانتدابي كمستشار في المكتب الاستشاري للبحث العلمي في رئاسة الجمهورية برئاسة صلاح هدايت، لم يكن ترشيحا بقدر ما كانت تقارير متميزة كتبها البعض عني ..

إنجازه الأكبر تخريج دفعة ١٩٦٧

“….. للتاريخ فقد كانت هذه الدفعة من صفوة عباقرة مصر ففي مشروع البكالوريوس كنت قد أدخلت شيئاً جديداً اسمه الدراسات الخاصة لتطبيقات الهندسة النووية وفوجئت بالطلبة يقدمون لي أبحاثاً خطيرة منها تصميم مركز نظائر مشعة والوقود النووي وطلبت منهم عمل مشروع محطة إنتاج طاقة نووية عبر استخدام التفجيرات النووية في الأنفاق”.

تغير موقفه بعد هزيمة 1967

“….بعد هزيمة 1967 اكتشفنا كل المفاسد بعد حرق نظام عبد الناصر، وبدأت في 1968 بعض المظاهرات لمحاكمة ضباط الطيران بعيدا عن محاكمات مارس الكاذبة.

قيادته اعتصام الطلبة في 1968

” …. وفي نوفمبر 1968 قامت حركة داخل الجامعة، عبارة عن اعتصام مفتوح للتغير الديمقراطي وتحدي عبد الناصر وهتافات بسقوط عبد الناصر واستمرت 3 أيام وامتدت لأحياء الإسكندرية وشوارعها بالإضافة إلى ستة آلاف معتصم داخل الحرم الجامعي. هذه الحركة أقلقت عبد الناصر بالطبع.. ”

عبد الناصر يواجه الحركة بالصاعقة والطيران

” …..  عبد الناصر اضطر للجوء إلى فرقة صاعقة ووضعها في استاد الإسكندرية للهجوم على كلية الهندسة في الظلام، رغم إنني شكلت لجنة لإدارة الاعتصام حتى لا تخرج عن الصف. عبد الناصر كان سيضرب طلاب وأساتذة كلية الهندسة..هذا صحيح وعندما علمت بذلك ذهبت إلى محافظ الإسكندرية أحمد كامل وكان ضابط مخابرات سابق وقلت: له أقسم بالله لو الصاعقة هاجمت كلية الهندسة ستحدث مجزرة بين الطلاب والعساكر.. أرجوك نحن أحرص الناس على أن تتم العملية بطريقة سلمية، فاتصل المحافظ بعبد الناصر أمامي وحدث اتصال لأول مرة في حياتي بيني وبين عبد الناصر من خلال المحافظ، وكانت أول جملة قالها عبد الناصر لمحافظ الإسكندرية إيه يعني لو نقفل الجامعات 3 سنوات، على العموم النهارده مفيش هجوم”..

“….  ولكن في اليوم الثاني اشتعل الموقف بشكل أكبر.. لم يف عبد الناصر بوعده للمحافظ.. والغريب أنني قرأت في مذكرات قائد الطيران المصري في الإسكندرية أن عبد الناصر قال له: اضرب كلية الهندسة بالقنابل فرد عليه كيف أضرب أساتذة وطلاب الطيران، فقال له عبد الناصر : عصمت زين الدين عايز يشيلني من الحكم”.

قصة يوم الإثنين الأسود الذي قبض عليه في نهايته

” …. وفي اليوم الثاني لوعد عبد الناصر؟ يوم الإثنين الأسود، هاجمت بالفعل الطائرات كلية الهندسة ولكن بالقنابل المسيلة للدموع، ووقعت إصابات وحالات قتل بين الطلاب والأساتذة، فاضطرب الشارع السكندري ودبت الحرائق وانتشرت أعمال التخريب، وهذا لم يكن بفعل الشارع السكندري، ولكنه نتيجة تآمر عملاء المباحث ليعطوا لعبد الناصر الدافع لنزول الجيش للشارع، رغم إننا أعلنا وقف الاعتصام حفاظا على الإسكندرية لأننا رفضنا عمليات التخريب.

”   مساء ذلك اليوم تم القبض عليَّ أنا و 500 شخص بينهم 480 من منظمة الشباب، ودخلت السجن لمدة عام كامل لا أعلم لماذا تم اعتقالي،

وفاته

توفي الدكتور عصمت زين الدين في الإسكندرية في 10 نوفمبر 2018 عن 94 عاما ، و ترك ابنين و عددا من الاحفاد  والحفيدات الناجحين .