عن الحروب الموجهة وفرضياتها

ممثلون يؤدون عرضا عسكريا بمناسبة الذكرى السبعين للحرب العالمية الثانية

الأسباب والعوامل التي تدعو الوحدات السياسية وتجبرها لخوض غمار الحروب، قد تكون عوامل ومتغيرات سياسية أو اقتصادية أو أيدلوجية أو أطماعا توسعية أو مزيجا من ذلك كله، وهي تختلف باختلاف المكان والزمان وبحسب المستجدات والأحداث المتغيرة، بعبارة أخرى فإن الواقع يفرض على الوحدات السياسية الدخول بالضرورة في الحروب.

في ذات المعنى يعتقد “مورجانثو” أن التطلع إلى السلطان من جانب دول عدة تسعى كل واحدة منها إما إلى الحفاظ على الوضع القائم أو إلى الإطاحة به بحكم الضرورة، يؤدي إلى صورة أو تشكيلة تسمى بتوازن القوى، وإلى سياسات تهدف إلى الحفاظ عليه.

مع ذلك فان الوحدات السياسية تتبع عدة سياسات أو استراتيجيات للحفاظ على القوة أو زيادتها وتعظيمها، لما للقوة من أهمية قصوى في منازلة الخصوم، هذا إذا لم تكن السبب الرئيس في وجودها وبقائها.

من هذه السياسات أنه إذا حاربت الدولة خصومها ومنافسيها بغرض تعظيم القوة، فإن الطرف الآخر يفترض أن يكون أقل منها قوة ولديه من الثروات والموارد الطبيعية الضخمة مما يغري الطرف الأول بالدخول في الحرب، وتكون المحصلة هي الاستحواذ على تلك المصالح والموارد الطبيعية بما يزيد من ثروة الدولة، ومن ثم تعظيم القوة (الثروة هي أهم مكون للدولة في بناء قوتها سواء خاضت الحروب للحفاظ على القوة أو لتعظيمها وزيادتها لأن القوة الاقتصادية هي أساس القوة العسكرية. بقاء الدولة والنمو الاقتصادي هما وجهان لعملة واحدة كما ذهب إلى ذلك “فيبر” وكما نحى “ابن خلدون” في مقدمته).

أما كون الدولة المنافسة في نفس حجم القوة، وسواء لديها ثروات وموارد طبيعية أم ليس لديها، فإن دخول الحرب هنا إنما يكون للحفاظ فقط على مستوى القوة لا لزيادتها، ولا تحارب في هذه الحالة إلا لتثبيت بقاءها ووجودها.

وعندما يكون هدف الدولة هو الحفاظ على القوة في الوضع الراهن، فإنها تستخدم سياسة التحريض والاستنزاف

السياسات الأخرى تتمثل في أن تنأى الدولة بنفسها عن الحرب، ويكون هدفها في هذه الحالة هو الحفاظ على القوة، يتضح ذلك في سياسة الاسترضاء أو الوقوف على الحياد، أو مسايرة الدول العظمى وعدم مشاكستها، أو تمرير مسئولية الحرب إلى آخرين (الحروب بالوكالة أو الحروب الموجهة) أو دعم الحروب الاستنزافية بين الدول المنافسة، أو التحريض وإيقاد الفتن أو الابتزاز المادي، كل هذه السياسات الغرض فيها هو الحفاظ على قوة الدولة.

وعندما يكون هدف الدولة هو الحفاظ على القوة في الوضع الراهن، فإنها تستخدم سياسة التحريض والاستنزاف وتمرير المسؤولية للآخرين، ومن ثم فإنها تقوم بالتحريض بين دولتين تقفان حجر عثرة أمامها,وتدخل الاثنين معا في موجة حروب طويلة الأمد بهدف إفقارهما وتدميرهما معا ,وخلو الجو (إن جاز التعبير) للدولة المحرضة. ومن اجل انجاز تمرير المسئولية للآخرين وتحويل عبء الدخول في الحرب لدولة أخرى، بما ينطوي عليه دخول الحرب من أعباء مالية واقتصادية ضخمة تؤثر تأثيرا بالغا في ميزانيتها فإن الدولة المحرضة تتصرف ببراءة كاملة مع الدولة المنافسة فضلا عن إقامة علاقات دبلوماسية جيدة معها في ظاهر الأمر، شأنها في ذلك شأن كل علاقتها مع الدول الأخرى وتدفع الدولة التي ستخوض غمار الحرب إنابة عنها من غير أن تشعر الأخيرة بأنها مدفوعة للحرب. هناك فرضيتين إما أن تنجح الدولة (ب) في الحرب على الدولة (أ) المنافسة والخصم الرئيس، وإما أن تهزم هزيمة نكراء. نجاح الدولة (ب) في الحرب وتحقيق نصر كاسح على(أ) هو مطلب الدولة الممررة للمسئولية ,أما إذا تضخمت قوة الدولة (ب) بعد هذا الانتصار الكاسح فربما يكون هذا في حد ذاته قلقا جديدا للدولة الممررة  إذ أنها تكون في واقع الامر أمام قوة جديدة أو خصم جديد بما يشبه انقلاب السحر على الساحر, وإذا فشلت الدولة (ب) في الحرب على الدولة (أ) فسوف تبدو الدولة الممررة أمام المجتمع الدولي كأن لم تفعل شيئا رغم أنها في الخفاء بذلت الغالي والنفيس ,لذلك فهي تحرص على أن تكون أسباب الحرب أسبابا منطقية وعادلة ,يستحيل التنازل فيها مثل مشاكل الحدود, أو السيادة أو أي سبب آخر يبدو منطقيا ولا يقبل التفاوض فيه ,على سبيل المثال في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789 كانت محاولات روسيا آنذاك لإغراء النمسا وبروسيا لبدء الحرب مع فرنسا ,هي بهدف توسيع قوة روسيا في أوروبا الوسطى . الزعيمة “كاثرين” قالت وقتها: أفكر جديا في تأليب قادة فيينا وبرلين على فرنسا.. ثمة أسباب لا أستطيع التحدث عنها، أريد أن أحرضهم على ذلك لكي تصبح يداي طليقتين فلدي أعمال كثيرة لم تكتمل ولا بد أن ينشغلوا بعيدا عن طريقي.

ربما تنطبق سياسة التحريض التي تستنزف كلتا الدولتين بما تكون محصلته خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات وبنية الدولة الاقتصادية، خاصة إذا كانت الضربات الاستباقية والاستراتيجية تستهدف المكون الاقتصادي في مفاصل الدولة ,ربما تنطبق على كثير من الحروب التي اندلعت بين دول المنطقة شمالها وجنوبها ,شرقها وغربها ,بل إنها ربما تنطبق حتى داخل حدود الدولة الواحدة التي تندلع فيها الحروب الداخلية.  إذا أرجعنا البصر مرتين فإن الأمثلة أكثر من أن تحصى.