كذب أم مُجاملة!

شارل شابلن

في بعض الأحيان نمر بأوقاتٍ جُل همنا هو الابتعاد عن الآخرين والانعزال بفقاعة تطفو فوق جميع مشاكلنا وخاصة تلك المتعلقة بمن يُحيطون بنا، ولكن طبيعة النفس البشرية الاجتماعية وطبيعة الكون تُحتّم علينا أن نُكَون علاقات إنسانية تناسب الطبيعة السوية التواقة للتعارف والاختلاط.

“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)” صدق الله العظيم.

ولأن لا فرصة لنا بالانعزال فلا بد لنا أن نتقن فن الحوار مع الآخرين؛ كيف نتحدث مع أحدهم؟ وما طبقة الصوت المناسبة؟ ومتى علينا الانسحاب من  الحوار؟ وما إلى ذلك من منهجيات الحديث مع الأخر.

وبما أنّ طبائعُنا تختلف فلا شك بأن في الكثير من الأوقات علينا أن نتحدث مع الآخرين بأساليب مختلفة تليق بهم وبعقلياتهم لدرجة قد تصل بنا إلى الكذب في سبيل مسايرتهم بالحديث أو الاكتفاء بمجاملة سطحية تكسر حاجز الصمت وتضعنا على عتبات الحديث الاول.

الاضطرار للمساومة على أمور الحياة قد تُحيلنا إلى وسائل عدة ومنوعة، وقد تجبرنا أحيانا على التصرف خارج نطاق مبادئنا التي تعهدنا بعدم الخروج عنها أو التهاون فيها، ولذلك نرى المجاملة الآن ثقافة منتشرة ورائجة، بل أصبحت إلى حد ما ملاصقة لمعاملاتنا وحتى شخصياتنا التي تتبلور نتيجة الاحتكاك مع الآخرين.

لستُ مع الكذب ولا أدعو للمجاملة ولكنّ الحياة تحتم علينا بعض الأحيان هذه الأساليب

والفرق بين الكذب والمجاملة هي تلك الشعرة الرفيعة التي تفصل بينهما لتوضح مدى جدية العلاقة وأهميتها، ولأننا مجتمعات تعشق المظاهر وتُحارب من يتخلف عنها وكأنها “دستور العيش” في بلادنا العربية؛ فلا بد لنا أن نتقن فن المجاملة إلى حد الإسراف بالكلام؛ فالكلام “المعسول” أصبح يؤتي أكله حتى وإن لم يكن صادقًا أو واقعيًا، لدرجة أن التاجر أصبح شاعرا يستعرض بضاعته ويُقنع الشاري، والغريب أصبح موثوق الكلمة وصديقًا حتى الخبيث قد يتلون بأطيب الكلام ويصبح حبيبًا وقريبًا.

لستُ من هواة المجاملة ولكن بعد اتساع نطاق معارفي وتشعبه أصبحت أدرك كم أن هذا الأسلوب مطلوب وكأنه ماء يُنعش العلاقات ويزهرها بعيدًا عن نوايا هذه المجاملات، فتأثيرها بالعادة واضح وجلي للعيان.

لستُ مع الكذب ولا أدعو للمجاملة ولكنّ الحياة تحتم علينا بعض الأحيان هذه الأساليب، ولكنها قد تتحول بلمح البصر إلى كتلة من النفاق الاجتماعي المبتذل الذي يُتاجر بمشاعر الآخرين إن لم نعترف بحدود هذا الأسلوب المتعارف عليه في التقرّب من الآخرين.

الكذب مُحرّم و”نفاقُ” المجاملة قد يصُيره البعضُ حلالا، فإن أردنا علاقات اجتماعية صحية حقًا فأمامنا إحدى وسيلتين إما الصدق -بعيدًا عن الوقاحة- أو الصمت، أو كما يقول شارلي شابلن البائس الضاحك “لا تُبالغ في المجاملة حتى لا تقع في بئر النفاق، ولا تُبالغ في الصراحة حتى لا تقع في وحل الوقاحة”.