المقاطعة .. أبعاد وآماد

مسلمو أندونيسيا يدينون تصريحات ماكرون

ليس في آراء الناس أَخْيَبَ ولا أَعْيَبَ من رأي يقلل من قيمة المقاطعة ومن وقعها المؤثر؛ ذلك لأنّ المقاطعة عندما تتوفَّر أسبابُها وتَبْرُزُ على الساحة مبرراتُها تكون واجبة ولازمة وحتمية، وما كان كذلك لا يقول عنه إنّه ضعيف الأثر إلا مَنْ لا تُجَاوِزُ رُؤْيَتُهُ أَرنَبَةَ أَنْفِه، فتَرْكُ الواجب اللازم الذي حتمته معطيات الواقع وأكدته الشواهد المتكررة تَضْيِيع وتَمْيِيع، والقيام به إحياءٌ وبعثٌ، ومَدٌّ للجذور في الأعماق، ونقلٌ للأقدام إلى الأمام، حيث تكون المواجهة استجابة من هذا النوع المثمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24).

لا أبالغ إذا قلت: إنّ الأمّة اتخذت من هذا الموقف منصة انطلاق جامعة؛ للتحرك الرشيد السديد في مواجهة الظلم والطغيان، وإنّها بهذا السلوك الراقي استطاعت أن تتجاوز الأنظمة لتصنع موقفاً للأمة يبرز فيه دور الشعوب، ونجحت في تثبيت صورةٍ ربما هي المصدر الأكبر للهلع الذي أصاب ماكرون وأمثاله من المتطرفين، صورةِ الأمة الواحدة التي تهتدي إلى غايتها وتتحرك صوب هدفها في نسق جماعيّ مُلْهَمٍ، كما تتحرك أسراب الطيور المهاجرة في جو السماء، لاتضل طريقها ولا يتحكم أحد في مسارها.

  إنّ لهذا الموقف التلقائي المشرف من جموع المسلمين – بغض النظر عن النتيجة المباشرة – آثارا كبيرة وعميقة وممتدة، وإنّه يمثل استهلالا للتحرك الواسع الواعي

إنّ المكتسب الأعظم للمقاطعة شيء آخر غير الأثر الاقتصاديّ الذي تعاني منه فرنسا وتحاول أن تخفيه وتركب كل صعب في سبيل التظاهر بالْجَلَدِ تجاهه، إنّ المكتسب الأعظم يتمثل في أنّ الأمة بدأت تسترد ثقتها بنفسها، وتتعلم كيف تهتدي إلى السبل والوسائل التي تعبر بها عن غضبها، وتنفض يدها من أنظمة ومنظمات لَطَالَمَا وقفت على بابها مستجدية بلا جدوى، لقد بَدَتْ الأمة الإسلامية في مظهر مشرف من الوحدة والإيجابية والتحرك الجماعي الواعي والتجاوب مع دعوات المخلصين، ولم تُعُدْ ذلك الجسد المنهك الذي لا يحسن إلا التوجع والتأوه، وظهر للعالمين أجمعين مدى حب هذه الأمة لرسولها وتعلقها به؛ بما سيحرك رغبة الخلق في معرفة المزيد عنه وعن دينه ودعوته، هذه هي المكتسبات العظيمة التي تلوح وتتبدى من وراء الأحداث.

إنّ لهذا الموقف التلقائي المشرف من جموع المسلمين – بغض النظر عن النتيجة المباشرة – آثارا كبيرة وعميقة وممتدة، وإنّه يمثل استهلالا للتحرك الواسع الواعي في اتجاه التحول الحضاريّ الحتميّ القادم، حيث تتجه أنظار الكثيرين في الغرب إلى أنّ التحول القادم سيتخذ من الإسلام بديلا؛ فهذا على سبيل المثال مفكر ألمانيّ يقول بصراحة: “عندما تنافس العالم الغربيّ والشيوعية على قيادة العالم كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربيّ، يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم … فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربيّ، بل هو البديل”([1]).

إنّ لهذا التحرك المبارك أبعاد وآماد، أبعاد تَنْسَرِبُ في أعماق التشريع والتكوين الإسلاميّ، وآماد تذهب في الآفاق البعيدة والغايات الرشيدة، وإنّ ما يتمتع به هذا الحراك من تلقائية وبساطة وانسيابية وإخلاص ورشد ووعي لَيُؤكد عمقَ الروح السارية في أوصال الأمة والنابعة من أصولها العريقة، وامتدادَ الأنفاس الصادرة منه والصاعدة في سماوات المجد والسؤدد الذي تستشرفه الجموع الواعدة.

لقد استلهمت الجموع الإسلامية تلقائياً مبدأ المفاصلة مع العدو المحارب لدين الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلقت به دون أن تقف على أعتاب أُناسٍ متفلسفين أو متحذلقين ليفسروا أو يبرروا لها ما تقوم به، أو ليلقنوها ما ينبغي عليها أن تفعله، واستلهمت كذلك مبدأ الولاء والبراء، الولاء لرسولهم ودينهم وشرعهم وأمتهم، والبراء من كل الذين يمارسون العدوان والبغي على الحرمات والمقدسات التي لا يصح الاعتداء ولا البغي عليها، والمفاصلة مع العدو المحارب والبراءة منه وممن يدعمه جذر عقديّ منغرس في عمق الخطاب العقديّ في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة: 55) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 57)، وهذه بعض الأبعاد التي تجعل الحراك مستندا إلى خلفية عقدية غاية في الحزم والجزم.

أما الآماد فهي غاية في العلو والامتداد، ها هي الأمّة المباركة تسعى بخطوات وئيدة نحو الهدف السامي النبيل، نحو القمة السامقة الوضيئة، وها هي الإنسانية التي شقيت طويلا بهيمنة القوى الاستعمارية الإمبريالية تنتظر قيام الأمة الإسلامية، التي تمتلك المنهج الربَّانيَّ الكريم، ذلك المنهج الذي يحرر الناس ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، هذا الانتظار – وإن كان مبهما – موجود ويفصح عن نفسه في صيحات المفكرين، “إنَّ أعداداً متزايدة من الأفراد المهتمين تعلو أصواتهم بقناعة جماعية مفادها أنّ العالم لا يحتاج سوى نظرة جديدة للمستقبل، تعتمد على نظام قيميّ جديد”([2]).

لقد أفلست الحضارة المعاصرة التي تدعي أنّها إنسانية من كل ما يحقق سعادة وأمن الإنسان، إنّ إحصائيات سابقة موثقة تقول: “في أمريكا تحدث جريمة كل 12 ثانية، وجريمة قتل كل ساعة، وجريمة اغتصاب كل 25 دقيقة، وجريمة سرقة كل خمس دقائق، وزيادة معدلات الجرائم الخطرة تتزايد بسرعة أكبر 14 مرة من سرعة النمو السكانيّ”([3])، ولقد نشرت منظمة الصحة العالمية في جنيف سنة 1978م قائمة مقارنة لنسب حوادث الانتحار … وكان الانتحار هو السبب الثالث من أسباب الوفاة … وفي تقرير للمنظمة سنة 1970م يبرز بوضوح: “أنّ هذه الظاهرة تتوازى مع التصنيع والتحضر وانهيار الأسرة”([4]).

   وقد أثبتت الأحداث الأخيرة ابتداء من الربيع العربيّ وانتهاء بحملات المقاطعة أنّ هذه الأمة لا تموت، وأنّ قوى الدفع فيها تستكنّ فقط ريثما تحين لها الفرصة

إنّ الأمة الإسلامية وإن كانت مرهقة وممزقة تمتلك من المؤهلات ما يمكنها من طيّ الطريق طيّاً وصولاً إلى الدور المنوط بها، وإذا كانت الأنظمة الحاكمة الآن والتي تمثل الامتداد للاستعمار الأجنبيّ ومعها النظام الدوليّ الجائر تمارس القمع والقهر من أجل الحيلولة دون الوثبة المنشودة فإنّ هذه الوثبة قادمة لا محالة، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة ابتداء من الربيع العربيّ وانتهاء بحملات المقاطعة أنّ هذه الأمة لا تموت، وأنّ قوى الدفع فيها تستكنّ فقط ريثما تحين لها الفرصة؛ فإذا سنحت لم تتلعثم في العبور من خلالها إلى ما قدره الله لها من الخير.

إنّ هذه الأمة لا تموت، وإنّ هذا الدين لا يفنى ولا يبيد، ولو كانت الأمة الإسلامية تموت وتنتهي، أو كان هذا الدين يفنى أو يبيد لوقع هذا يوم أن اجتاحت جحافل المغول والصليبيين العالم الإسلاميّ، وأسرفت في القتل حتى غاصت الخيل إلى الركب في الدماء التي اصطبغ الفرات بلونها الأحمر القاني، ولسوف تنهض من جديد وتبدد الهموم كما تبدد الشمس ظلال الغيوم، وهذا وعد من الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)، صدق الله، وكذبت دعاوي المحبطين والمثبطين والناشرين بالإرجاف روح اليأس والبؤس في محيط المسلمين.

——
([1]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 1997م – صــــــ9
([2]) التغير العالميّ من أجل بشرية أكثر إنسانية – إيدموند . ج . بورن – ترجمة سماح خالد زهران – المركز القومي للترجمة – مصر – ط 2015م – الهيئة العامة للمطابع الاميرية صــــــ 38
([3]) الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – ترجمة محمد يوسف عدس – دار النشر للجامات مصر – مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام – ط ثانية 1997م صـــــــ117
([4]) الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – مصدر سابق صـــــــ123