السيسي والحقوقيون: “من ورط الجنرال”؟

السيسي

لعل الجنرال عبد الفتاح السيسي الآن، يتمثل قول الفنان سمير غانم، في مسرحية «المتزوجون»: «أموت وأعرف مين زقني»، وهو يعالج ملف الحقوقيين الثلاثة، وقد أُجبر على الإفراج عنهم بعد مدة حبس قصيرة!

كانت الممثلة «شيرين» في «المتزوجون» تبدي امتنانها لسمير غانم، لأنه أنقذ حياتها، واعتبرت أن هذا جميلًا منه، وشجاعة منقطعة النظير، لكنه روى الحقيقة بشكل فكاهي، فقد وجد زحامًا، عندما اقترب منه، وجد سيارة وقد سقطت في حفرة، وهناك من دفعه فسقط فيها، واعتقدت «شيرين» أنه تطوع لإنقاذها لكنه كان مشغولًا بالإجابة على سؤاله «أموت وأعرف مين زقني»!

وإذ لا نعرف الجهة التي ورطت الجنرال في القبض على الحقوقيين الثلاثة، فإنني أستبعد أن يكون هذا قراره، فقد مر بتجربة قاسية، في فترة حكم المجلس العسكري، عندما كان يشغل موقع مدير المخابرات الحربية، وقدمت قضية لحقوقيين لقاضي التحقيق، وكان من بينهم أمريكان، وأصدر القاضي قرارًا بمنعهم من السفر، ولأنه لم يكن مقبوضًا عليهم فقد اعتصموا بمبنى السفارة الأمريكية، وبدأت التدخلات الأمريكية في فترة حكم الرئيس أوباما تأخذ شكل الرجاء، لكن جماعة الحكم رفضت تقديم أي تنازلات، بما في ذلك ضمان عدم دخول المتهمين إلى القفص، وهو الطلب الأمريكي الذي جاء مشفوعًا بالقول إن هذا يمثل عقوبة والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن الحاكم العسكري رد بأنه المحكمة، والقضاء في مصر مستقل، ولا يمكنهم تقديم أية ضمانات في هذا الشأن!.

بعد مفاوضات عقيمة انتقل الخطاب الأمريكي من الرجاء إلى الأمر

كان واضحًا أنهم ولكونهم بعيدين عن الحكم في عهد مبارك، قد اعتمدوا الخطاب الإعلامي عند التدخلات الخارجية عن القضاء المصري المستقل، من دون أن يكون لديهم الإلمام الكافي بما كان يتم عبر أسلاك الهواتف، فهل كان مبارك يتحدث فعلًا عن القضاء المستقل، وهل هذا الدفع يمكن أن يقبل به الأمريكان!

بعد مفاوضات عقيمة انتقل الخطاب الأمريكي من الرجاء إلى الأمر، وبالصيغة التي تصلح للتعامل مع عسكر يفتقدون للخبرة السياسية، وفي مواجهة هذا الأمر كانت الاستجابة السريعة له، وكانوا في حالة ارتباك لم يجعلهم يهتمون بفكرة الإخراج، فمن الواضح أن القاضي الذي أمر بمنعهم من السفر فعل هذا مضطرًا، وتنفيذًا لتوجيهات صدرت له، ويبدو أنه ناقش من أصدر له الأمر في عدم معقولية ذلك واتخذه مضطرًا، ولهذا رفض الاستجابة لطلب إلغاء قراره، فتم استدعاء قاض آخر للقيام بالمهمة وبالمخالفة للقانون، فمن أصدر القرار هو من يلغيه!

وفي الفترة من بين صدور القرار بمنع المتهمين من السفر إلى إلغاء القرار، عاش المجلس العسكري في أجواء احتفالية بهذا الموقف الشجاع، الذي لا يقدر عليه سوى العسكر، بما عرف منهم من شدة وحسم، حتى ولو في مواجهة الأمريكيين أنفسهم، وكتبت أن هذا القرار سيلغى للأسف، وأنه تصرف لا لزوم له!

وقد بلع أعضاء المجلس العسكري بصفتهم سلطة حكم ألسنتهم، ولم يكن لديهم ما يقولونه بعد الورطة

وعندما وقعت الواقعة، كان البرلمان بأغلبيته الإخوانية يبحث عن «كبش فداء» بعد أن شارك في الزفة سابقًا، فكان طلب استجواب وزير العدل، الذي رد أنه لا علاقة له بالأمر، فطلبوا استدعاء رئيس الحكومة، الذي قال إنه لا صلة له بكل ما جرى، وكتبت أنا لقطع الطريق عليهم بأن المتهم معروف وهو المشير محمد حسين طنطاوي بصفته، وإلا فليتوقفوا عن هذا العبث!

وقد بلع أعضاء المجلس العسكري بصفتهم سلطة حكم ألسنتهم، ولم يكن لديهم ما يقولونه بعد «الورطة» التي نصبت لهم، وعندما نقل الأمر إلى مبارك في محبسه قال إن المشير لا يمكن أن يكون وراء هذا القرار، لأنه يعرف طبيعة علاقتنا بالأمريكيين، وكان في دهشة- حسب الراوي- ليس لقرار الإلغاء ولكن لقرار المنع من السفر، ولم نكن بحاجة إلى دليل لنعلم أن المسؤول عن هذه «الورطة» ليس المشير ولكن مدير المخابرات الحربية!

وكانت التجربة الثانية التي مرت على الجنرال بعد حبس ثلاثة صحفيين من قناة الجزيرة الإنجليزية، وما أثاره هذا من ضجة دولية بسبب كون أحدهم أسترالي الأصل والجنسية، وبعد مناورات كان يسمح بهذا التصرف على قاعدة الغربال الجديد له شدة، اضطروا في النهاية للإفراج عنهم لتلافي الضغوط الدولية، والتي جعلت سمعة حكمه في مجال حرية التعبير على المحك مبكرًا.

لقد جاء في التسريبات ندمه على هذه الخطوة، وأنه لو كان يعلم حجم هذه الضغوط لما أقدم على ذلك أبدًا!

ثم مر بتجربة سجن الناشط السياسي حسام بهجت، ولم يكد الأمين العام للأمم المتحدة يقول إنه يشعر بالقلق لاعتقاله، حتى تم الإفراج عنه!

لتجد الأجهزة الأمنية نفسها بين أمرين أحلاهما مر

وهذه التجارب تدفع واحدًا مثلي للقول إنه قد لا يكون على علم مسبق بالقبض على الحقوقيين الثلاثة، فربما كان هذا تصرفًا من قبل جهاز أمني، لأنني وأنا لست من الحكام كنت أدرك منذ اللحظة الأولى أنه تصرف متعجرف يتبعه ندم، وكتبت إن لم يفرج عنهم اليوم فسوف يكون الإفراج في الغد! قد يكون دافع الجهاز الأمني الذي قام بهذه العملية هو الانتقام، لكن في المقابل فقد كانت السلطة في وضع لا تحسد عليه، لأنها وإن كانت نجحت على مدى ثماني سنوات هي عمر الانقلاب العسكري في تأميم المجال العام، وفي إجبار المنظمات الحقوقية على الصمت، فقد بدا أن القائمين على المبادرة المصرية يستغلون الأجواء الجديدة بعد فوز بايدن وسقوط ترامب، فكانت دعوتهم مجموعة من السفراء والدبلوماسيين الأجانب لندوة عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر بمقر المنظمة.

لتجد الأجهزة الأمنية نفسها بين أمرين أحلاهما مر: إن غضت الطرف فإن هذا يغري بالمزيد من النشاط، فضلًا عن دفع المترقبين من القائمين على المنظمات الأخرى ليحذوا حذوها. وإن تم إلقاء القبض عليهم، ستحدث ضجة. هل كانوا يتوقعون أن بإمكان النظام أن يناور لفترة أطول في هذه الأجواء العاصفة؟ على أية حال رجال الأمن لا يفكرون بعقلية رجال السياسة، فكانت الهزيمة!

وكأني بالمهزوم وهو يهتف: «أموت وأعرف مين …»!.