المهندس محمود يونس جلس على كرسي ديليسبس ثم ذهب وراء الشمس

محمود يونس

يعرف المهندس محمود يونس ١٩١٢- ١٩٧٦ في التاريخ المصري المعاصر بأنه المسؤول الذي عهد إليه الرئيس عبد الناصر بتنفيذ قرار تأميم قناة السويس. ومن العجيب أن ذكر المهندس محمود يونس  أصبح لا يأتي إلا مرتبطاً بتنفيذ قرار التأميم، ولا يأتي مرتبطاً بإدارة تلك القناة نفسها مع أن دوره الحقيقي والكبير كان في إدارة القناة من 1956 وحتى 1965 حين انتقل ليكون نائبا لرئيس الوزراء زكريا محيي الدين وليفقد بعد فترة قصيرة وجوده في الحياة العامة للأبد، ولينطبق عليه التعبير الشائع في ذلك الوقت عن الذين يذهبون وراء الشمس، فبعد أن كان الرجل نائبا لرئيس الوزراء أصبح وزيراً بارزاً في وزارة الرئيس عبد الناصر بعد هزيمة 1967 ثم اختفى تماماً واختفى اسمه أيضا تماما من الحياة التنفيذية والعامة حتى أصبح ذكر اسمه شبيها بمن يبعث ذكر أسمائهم على الخوف.

باستثناء ما نشره الدكتور حسين مؤنس من حوار حاد ومتوتر من جانب الرئيس عبد الناصر معه وهو الحوار الذي سنعرض له ،  فإن أحدا لا يعرف على وجه التحديد جوهر الخطأ أو الخطيئة التي نُسبت إلى المهندس محمود يونس أو وجه الرأي او الرؤية الذي اختلف فيه مع عبد الناصر أو مع أجهزته، ذلك أن عصبية عبد الناصر في هذا الحوار كانت واضحة لكنها كانت كفيلة بان تفرغ طاقات غضبه، فينتهي الخلاف بانتهاء الحوار، ومع هذا فقد ذهب محمود يونس وراء الشمس، و إذا بهذا المهندس الأشهر بين المهندسين العسكريين بل بين المهندسين جميعا في عهد عبد الناصر يختفى تماماً، حتى توفي في 1976، ثم بعد أن توفى.

من الجدير بالذكر أن اختفاءه واكب اختفاء زكريا محيي الدين والقيسوني وعبد العزيز السيد وأحمد خليفة وهم مجموعة توصف في السياسة بأنهم من الأكثر ميلا الى الغرب عن الشرق.

هل تتصور ذلك الممثل المسرحي الذي يقتصر دوره مهما طال على الفصل الأول من المسرحية فيكون في حل من أن ينصرف إلى بيته عندما ينتهي من أداء دوره في الفصل الأول، ولا ينتظر إلى نهاية المسرحية حيث يكون من الوارد أن يخرج الممثلون لتحية الجماهير بعد أن يغلق الستار على المسرحية، ثم يفتح عليهم ليؤدوا هذا الدور المحبب لهم من تحية الجمهور؟

هذا بالضبط هو ما حدث للمهندس محمود يونس في عهد الرئيس عبد الناصر، ولم يكن هذا استثناء لكنه كان المثل الأبرز.

لا نملك خبرا يقينيا عن السبب الحقيقي للافتراق بين نظام عبد الناصر من ناحية وبين محمود يونس من ناحية أخرى

هل كان الأجدر والأصلح للمهندس محمود يونس أن يبقى في هيئة قناة السويس بعيداً عن القاهرة وجوها الذي لم يكن قادراً على النجاح فيه بالقدر الذي ينجح فيه من واصل العمل فيه؟ أم أنه كان من حق المهندس محمود يونس على نفسه أن يأتي إلى القاهرة ليشارك في المسؤولية الوزارية في موقع متقدم كنائب لرئيس الوزراء مع زكريا محيي الدين؟ سابقاً بهذا المهندس صدقي سليمان ١٩١٨- ١٩٩٦ الذي كان حتى ذلك الحين وزيرا فقط وإن كان بعد أقل من عام قد أصبح هو نفسه رئيس الوزراء الذي خلف زكريا محيي الدين بناء على اتفاق ترضية حصل به الرئيس جمال عبد الناصر على انهاء تململ  القادة العسكريين ، و الحصول على رضا المشير عبد الحكيم عامر والقوات المسلحة .

مع أننا حتى هذه اللحظة لا نملك خبرا يقينيا عن السبب الحقيقي للافتراق بين نظام عبد الناصر من ناحية وبين محمود يونس من ناحية أخرى، ولا نملك أيضاً يقينا عن السبب الحقيقي الذي جعل المهندس محمود يونس يترك هيئة القناة ويقبل العمل كنائب لرئيس الوزراء، فإننا نملك الخبر الذي لا يتطرق إليه شك وهو أن خليفتيه في المسؤولية عن قناة السويس لم ينزلقا إلى أي رغبة أو إغراء بالانتقال إلى مواقع السلطة في القاهرة ، وإنما بقيا في موقعيهما في القناة إلى أكثر مما كان يتيحه القانون، وهكذا بقي المهندس مشهور أحمد مشهور حتى جاءت بداية عهد الرئيس حسني مبارك بما اشتهر فيها عن ميله إلى عدم المد بعد الستين (ولم يكن هذا في واقع الأمر صحيحا تماما بدليل ما حدث بعد ذلك من مد خدمة المهندس محمد عزت عاما آخر بعد آخر حتى 1996).

ومن الطريف الذي يصور مأساة محمود يونس أن المهندس مشهور أحمد مشهور كان حريصا تماما على الصمت التام أثناء توليه لمنصبه وبعد أن خرج منه، وكان من المستحيل بل من رابع المستحيلات أن يخرجه صحفي عن هذا الصمت، كان هذا الأمر مشهوراً كشهرة المهندس مشهور نفسه، بل كاسمه اللصيق به والذي هو على اسم عائلته ، وكان الذين يعرفون طبيعة ذلك العهد وامتداده يعرفون أنه لم يكن يريد أن يدخل في طور الأسطورة مثل سلفه حتى لا يعاني مثل سلفه، ومن الحق أن نقول إنه نجح في هذا نجاحاً منقطع النظير، ومع هذا فإني اذكر موقفا غاية في الغرابة حدث معي في المرة التي أسعدني الحظ فيها باللقاء معه في زيارة لقناة السويس، وقد كنت حريصا حرص الشباب الطموح على أن أحاول استدراجه لأي نوع من أنواع الأحاديث، فأسعدتني الصدفة من حيث لم أحتسب، فقد كان من الحاضرين لهذه الزيارة في نهاية عام 1980 الأستاذ حاتم نصر فريد المحرر في مجلة أكتوبر، وبينما هو يتحدث نظرت إلى المهندس مشهور ، وقلت : إنه لولا “أكتوبر” ما عادت قناة السويس إلى العمل ، فإذا بالرجل الصموت برد فعل عفوي يصرح بسر لم يكن معروفا في ذلك الوقت، وينظر إليّ بحب ويقول: ونحن من أجل أكتوبر تنازلنا عن مطبعتنا للمجلة.. وربما لا يعرف القراء أن مطبعة مجلة أكتوبر كانت أصلاً مشتراة لهيئة قناة السويس … حصلت على هذا السر بالمصادفة من الرجل الذي لم يكن يبوح أبداً.

كان هذان الرجلان (المهندس مشهور أحمد مشهور والمهندس محمد عزت عادل) من الفريق الذي كان محمود يونس أكبر أعضائه، وكان معهم المهندس عبد الحميد أبو بكر الذي آثر له النظام أن ينتقل ليكون مسؤولا عن البترول في مستويات متعددة، وبهؤلاء الأربعة من المهندسين و مجموعة أخرى قريبة منهم بدأت الحقبة التي  سميت بحقبة  الإدارة الوطنية لهيئة قناة السويس.

وعلى عادة الناصريين في تضخيم ما يريدون تضخيمه ثم الانسحاب  الفجائي  وغير المبرر من حالة التضخيم فإن التصوير المتتالي لإدارة القناة كان قد اندفع فجعل هذه المهمة معجزة، ومن ثم فإن المهندس محمود يونس كان صاحب المعجزة، لكن نظام عبد الناصر نفسه ( وبقاياه) سرعان ما أعطى الإيحاء الصارم بأن هذه الادارة لم تكن هي المعجزة ، وإنما كانت المعجزة في تسلم مباني الهيئة عند لحظة التأميم ، عندما ينطق الزعيم الملهم بكلمة ديلسبس، وهكذا تضاءل دور المهندس محمود يونس ودور الإدارة الوطنية لقناة السويس مهما كان فيها من إبداع وإنجاز ودأب ودقة و تكامل إلى مجرد هذا الدور البوليسي في تسلم الهيئة يوم التأميم.

وهكذا كان الاعلام الناصري يتناقض مع نفسه في الواقع أو في الباطن، ويتكامل أيضا مع هدفه في الظاهر أو في الفيلم والمسلسل.

وليس من المشهور و لا المتداول أن محمود يونس كان من الشخصيات الوزارية شبه النادرة في عهد الثورة

ولد المهندس محمود يونس بالقاهرة عام اثني عشر (1912) وشقيقه هو الدكتور عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي ١٩١٠- ١٩٨٨، نشأ في السيدة زينب، ودرس بالخديوية حيث زامل فتحي رضوان وأحمد حسين ومختار التتش وحصل على بكالوريوس الهندسة، والتحق بسلاح المهندسين، ودرس في كلية أركان الحرب، وتخرج فيها في الدفعة الخامسة ١٩٤٢ وهي دفعة مبكرة، كما عين مدرساً في مدرسة أركان الحرب.

عقب ثورة ١٩٥٢ عين المهندس محمود يونس مديراً للشؤون الفنية بمجلس قيادة الثورة حيث أشرف علي جرد الأصول الملكية، وتصفية ممتلكات الملك فاروق. واختير عضواً بالمجلس الدائم للإنتاج، ومستشاراً فنيا لوزارة التجارة. تولي محمود يونس بعد ذلك عدة مناصب هامة منها عضوية المجلس الدائم لتنمية الانتاج القومي، ورئاسة الهيئة العامة للبترول.

وليس من المشهور و لا المتداول أن محمود يونس كان من الشخصيات الوزارية شبه النادرة في عهد الثورة التي عهد إليها بست وزارات مختلفة، وذلك رغم قصر مدته في الوزارات، فقد عمل محمود يونس وزيراً لوزارات النقل (قبل أن تتقسم)، والمواصلات، الكهرباء، البترول، والثروة المعدنية والإسكان والمرافق وبهذا فإنه بطريقة أو أخرى خلف الدكاترة مصطفى خليل و عزيز صدقي و احمد محرم من زملائه المهندسين.

كان أول عهد محمود يونس بالعمل الوزاري أن اختير نائباً لرئيس الوزراء للنقل والمواصلات ووزيراً للمواصلات (في وزارة زكريا محي الدين أكتوبر 1965  سبتمبر 1966) وهو بهذا صاحب ثالث سابقة في عهد الثورة في تولى منصب نائب رئيس الوزراء دون المرور بمنصب الوزير وقد خلف الدكتور مصطفى خليل الذي انتقل ليشغل مناصب الدكتور عزيز صدقي وقد كان ترتيبه البروتوكولي : ثامن نواب رئيس الوزراء الثمانية (وقد تولي منصب وزير النقل في هذه الوزارة المهندس محمود عبد السلام، كما عين المهندس عبد الملك سعد نائباً لوزير المواصلات).

وفي وزارة المهندس محمد صدقي سليمان (سبتمبر 1966 يونيو 1967) عمل محمود يونس نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للكهرباء والبترول والثروة المعدنية، وقد أصبح ثالث نواب رئيس الوزراء الأربعة، بعد أن خرج من الوزارة عدد من نواب رئيس الوزارة الذين يسبقونه. وفي ديسمبر 1966 رأس محمود يونس الهيئة العامة للتصنيع بالإضافة إلى مناصبه.

وفي وزارة الرئيس عبد الناصر الرابعة (عقب النكسة) (يونيو 67- مارس 1968) تولي محمود يونس وزارات النقل والبترول والثروة المعدنية والإسكان والمرافق وبهذا اجتمعت في يده مقاليد وزارات لم تجمع أبداً على هذا النحو، إلا أنه في 4 يوليو 1967 عين المهندس عزيز أحمد يس وزيراً للإسكان والمرافق،

وفي 16 أكتوبر 1967 عاد عزيز صدقي إلى الوزارة وزيراً للصناعة (التي كان يتولاها صدقي سليمان ثم البكري) وللبترول والثروة المعدنية (التي كان يتولاها محمود يونس) وهكذا أصبح محمود يونس وزيراً للنقل فحسب، وكان هذا آخر عهده بالوزارات إذ لم يضمه تشكيل حكومة الرئيس عبد الناصر السادسة (مارس 1968).

هذا وقد انتخب محمود يونس نقيباً للمهندسين.

سرى الذعر بين الجميع، وكأنهم أصيبوا كلهم في لحظة بصعقة كهرباء

من حديث صحفي أجراه الأستاذ عبد التواب عبد الحي مع المهندس محمود يونس وهو في السلطة نقتطف بعض الفقرات المهمة التي تصور معايشته بعض تاريخنا الوطني إذ لم يتح لمحمود يونس واقرانه أن يكتبوا تاريخ هذه الفترة، وربما لأنه لم يكن (من اللائق) أن يتحدثوا عن ثورة 1936 بينما يعيشون ثورة 1952.

“…  وشهدت يوم استشهد عبد الحكم الجراحي.. كنا نتقدم المظاهرة وننظم صفوفها أنا وزميل من الهندسة اسمه “مصطفي طلبة”. وزميل آخر من الطب اسمه “محمد بلال”. انصبت صفوف المظاهرة الصاخبة داخل كوبري عباس وأصبح الكوبري الطويل مثل قالب ضخم يمتلئ بالحديد المنصهر. وفي نهاية الكوبري من ناحية الروضة وجدناهم أمامنا.. سيارة “بيك آب” 5 كونستبلات انجليز، ومن ورائهم عشرات اللوريات مليئة بأصحاب الخوذات النحاسية وبدأ الكونستبلات بإطلاق مسدساتهم على المتظاهرين.. كان الواحد منهم يضغط على الزناد حتى تفرغ من مسدسه الطلقات.. فيحشوه في ثانية، ثم يعاود الضرب وكأنه في معركة حربية!

“سرى الذعر بين الجميع، وكأنهم أصيبوا كلهم في لحظة بصعقة كهرباء.. وتلفت حولي، فوجدت عبد الحكم الجراحي منكفئا على وجهه، ومن حوله ثلاثة من الجراحي.. كان واضحاً أن عبد الحكم الجراحي أكثرهم اصابة، فملت عليه احتضنته ورفعت وجهه من التراب.. كانت عيناه نصف [مغلقتين] وفمه يرغي بزبد أبيض، ودم ساخن ينفجر من صدره ويسقي ملابسه كلها بلون أحمر.. ولمحت زميلاً لنا من كلية الزراعة اسمه «عباس قورة».. كان عباس في سيارته يرقب الموقف.

“حملت عبد الحكم علي صدري وحمل زملائي بقية الجرحى، ووسدناهم داخل السيارة وانطلقنا إلى القصر العيني.. وعدت إلى البيت وملابسي تشهد أنني كنت في مجزرة.. ولم تصدق أمي يومها انني لم أشترك في جريمة قتل، إلا بعد أن حلفت لها.. على المصحف!

وفي هذه اللحظة سمعت هتافات تدوي خارج مبني الشركة.. انهم شعب الاسماعيلية جاءوا يباركون قرار التأميم

روى المهندس محمود يونس بعض ذكرياته عن قصة تنفيذ التأميم:

“كنا 3 مجموعات: مجموعة رئيسية في الاسماعيلية. وأخري في السويس وثالثة في بورسعيد..

” بدأ الرئيس خطابه في المنشية في السادسة مساء، وعندما قال: “والآن اخوان لكم”.. دخلت مع المجموعة مبني الشركة الرئيسي. لم أجد أحداً من المسؤولين فأرسلت من يستدعي:”مسيو منيسيه رئيس القسم الاداري في الشركة” و”مسيو ريمون” رئيس قسم الملاحة و”مسيو دي لاكور” رئيس قسم الأشغال.. أبلغت الثلاثة الكبار قرار التأميم.. تلوته عليهم باللغة العربية وترجمه لهم أحد المترجمين إلى الفرنسية.. ثم قلت لهم “إنني مفوض من الحكومة بتسلم كل ممتلكات الشركة وإدارتها.. وأنا أطلب من كل موظف أن يقوم بعمله كالمعتاد، وأي محاولة للإخلال بسير العمل سوف تعرض مرتكبيها للفصل والجزاء”.

“وكنت قد وضعت تقديراً كاملا للموقف وانهار الثلاثة الكبار، وطلبوا مني أن أؤمنهم على حياتهم وحياة عائلاتهم.. وقلت لهم: أننا لسنا في حرب.. أننا ننفذ قانوناً أصدره رئيس الدولة من دقيقتين!

“وفي هذه اللحظة سمعت هتافات تدوي خارج مبني الشركة.. انهم شعب الاسماعيلية جاءوا يباركون قرار التأميم، ويضعون أنفسهم في خدمة الموقف..

” وبدأت بالاستفادة من خدمات القوات المسلحة.. استعنت بشبكة اللاسلكي من سلاح الاشارة بعثرتها في نقط متقاربة بطول القناة. وفي أقل من ساعتين كنت قد سيطرت على جميع مكاتب الشركة في القاهرة وبورسعيد والاسماعيلية والسويس، وجردت المكاتب والخزائن.. واستعنت بضباط القوات المسلحة والجنود في السيطرة على محطات الاشارة التي تنشر على طول القناة.. محطة كل 10 كيلو مترات.. واستعنت أيضا بقوات البوليس في محافظة القنال ومحافظة السويس.

” وجاء الصباح التالي.. في الساعة التاسعة اتصلت بكل البنوك وطلبت منها أن تضع في البنك الأهلي جميع أموال الشركة لديها باسم هيئة قناة السويس.. وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً كان البنك الأهلي قد تسلم 9 ملايين جنيه من 9 بنوك.

“وظللنا نعمل أربعة أيام متواصلة بعدها أصبح في يدنا الأمر كله، وسيطرنا على كل التفاصيل الملاحية الدقيقة في القناة.. من البحر في الجنوب الي البحر في الشمال.

وتحدث الاقتصادي المصري الكبير عبد الجليل العمري باعتزاز عن دور المهندس محمود يونس في ادارة  شركة قناة السويس فيقول :

“.. وفي هذه الأثناء تولت السلطات المصرية تشغيل القناة وقام محمود يونس وهو أحد الضباط المهندسين بإدارة العمل بالقناة وكانت إدارته لهذا الشريان الحيوي وتفاني القباطنة المصريين مفخرة للمصريين عموما وأذكر أيام عنفوان الشركة القديمة لقناة السويس كيف كانت تمتنع عن استخدام القباطنة المصريين، بزعم أن قيادة السفن في قناة السويس مما يعجز عنه كثير من القباطنة ومن باب أولي القباطنة المصريون وهم حديثو العهد بهذه المهنة. وكانت هناك بعد ذلك مفاوضات سياسية بغرض رعادة فتح القناة للملاحة.

شهادة مذكرات صلاح نصر بتفوقه ” بذل المهندس محمود يونس مجهودا جبارا ونجح بهذا العدد الصغير نسبيا لا في المحافظة على حركة الملاحة في القناة فحسب، بل ازدادت ايضا نسبة مرور السفن عما كانت عليه من قبل. وقد تحدي محمود يونس الدعاية المضادة التي جاءت من الغرب، تتهم ادارة القناة الجديدة بإخفاقها في تشغيل ادارة القناة، اذ أعلن في الاسبوع الاول من مغادرة المرشدين الاجانب تصريحا يقول: أرسلوا الينا سفنا أكثر، اننا نستطيع ان نتعامل معها، كلما ازدادت السفن لدينا، حصلنا علي ارباح اكثر”

وافتتحها عبد الناصر موجها حديثه إلي الوزراء.. «ألا يكفي صمتكم بالجلسة الماضية؟»

وهذه رواية من الروايات النادرة التي تتناول الرؤية السياسية لمحمود يونس وهو أوردها الدكتور حسين مؤنس (وهو يبدو من محبي محمود يونس) في كتابه “باشوات وسوبر باشوات” عن حديث محمود يونس في اجتماع لمجلس الوزراء بعد النكسة حيث يعقب على ما ينقله عن المحضر:

” كانت الجلسة الثانية بعد يومين من اللقاء الأول، وقد بدأت في السابعة مساء يوم الثلاثاء 26 ديسمبر وافتتحها عبد الناصر موجها حديثه إلي الوزراء.. «ألا يكفي صمتكم بالجلسة الماضية؟» أود أن أسمع الآن آراءكم ومقترحاتكم بشرط أن تكونوا صرحاء. وهنا تكلم الوزراء الواحد بعد الآخر.

قال الوزير محمود يونس:

” إن الاصلاح المطلوب للنظام يجب أن يشمل كافة المجالات وأعتقد أننا نحتاج إلى عدة اجتماعات لأن الملاحظات متنوعة، أولها.. فائض العمالة الموجودة لدي بعض المؤسسات والوزرات ولا بد من حل لاستخدام هذا الفائض استخداماً مثمراً”

ويشكو من سطوة الاتحاد الاشتراكي ” ثم موضوع آخر يسبب إزعاجاً في المصانع والشركات وهو تدخل الجماعات القيادية للاتحاد الاشتراكي في أعمال الإدارة والموضوعات الفنية.

“كانت الجماعات القيادية للاتحاد الاشتراكي تعتبر بمثابة لجان التنظيم السياسي الموسعة على المستوي القاعدي، وكانت تضم القيادات السياسية والقيادات التنفيذية على ذلك المستوي.”

ويشكو من الأجهزة الثلاث المعوقة “إن أعضاء هذه الجماعات ليسوا علي المستوي والفني المناسب للقيام بمثل هذا الدور وحتي في وزارتي تثير قيادات الاتحاد الاشتراكي المحلية تساؤلات قد لا يكون من المناسب أن أرد عليها.. ولو استمر هذا الوضع ستزداد الأجهزة التي تسألني كوزير.. أجهزة الاتحاد الاشتراكي وأجهزة الأمن وأجهزة الرقابة الإدارية.. بحث تعوق عملي وعمل أي وزير فإن متابعة أعمال الأساسية.

عقب الرئيس جمال عبد الناصر على ما أبداه المهندس محمود يونس فقال: ” كلام غريب من محمود يونس.. هل بعد 11 سنة من ممارستك لوظائف قيادية عليا لا تعرف أنت مسؤول أمام من؟ وغير مسئول أمام من؟ يا محمود يونس أنت مسؤول عن واجباتك أمامي، وكذلك مسؤول عن واجباتك حسب نص الدستور أمام مجلس الأمة.. وكلمة (الأجهزة) التي رددتها تعبير غير مصري.. أما عن نقد وتدخلات قيادات الاتحاد الاشتراكي فأنتم كوزراء نسيتم أنكم سياسيون قبل أن تكونوا وزراء.. ولو كنتم في الأصل توليتم وظائفكم الوزارية عن طريق التنظيم وهو الأمر الطبيعي.. لكنتم عاملتهم قيادات الاتحاد الاشتراكي معاملة أخري.”

“يقال أحياناً إن الوزراء قيادات فنية وغير سياسية.. كلام غير سليم.. نحن الآن نمر بمرحلة انتقالية في بناء الدولة وبناء تنظيمنا السياسي، ويجب أن يعين الوزير من بين قيادات الاتحاد الاشتراكي وعن طريقه.. أنا حائر معكم..!! تقولون لا بد من الديمقراطية ومش عايزين حد من العاملين عندكم يتكلم.. وتقولون عايزين الديمقراطية ومش عايزين حد ينتقد أو يشارك في العمل.. كيف أوافق بين هذه الرغبات المتضاربة؟ من رأيي أن تكونوا مسؤولين أيضا عن نجاح العمل السياسي في وزاراتكم. والوضع السياسي بالنسبة لي أفضل كلما توسعنا في الديمقراطية لأني سأكون في مركز أوسع حتى ولو تضايق الآخرون.

” الآن والناس صوتها أعلي من زمان وقدرتها علي نقد النظام تضاعفت.. فإذا منعت الجماعات القيادية للاتحاد الاشتراكي أن تنتقد أو أن تتبني مطالب الناس ماذا سيحدث؟ سيحدث أن يخرج تنظيم شيوعي أو تنظيم إخواني ويتبني نفس الملاحظات التي لم تقبلوها من قيادات الاتحاد الاشتراكي.

“في وقت ما منعنا عمل تنظيمات سياسية داخل الجامعات.. بعد ذلك ظهر مباشرة نشاط سياسي آخر داخل الجامعات.. أحزاب تحت الأرض! شيوعية.. وإخوان مسلمون. عود إلى موضوع الجماعات القيادية.. يجوز أن بعضهم أخطأ.. علينا أن نصحح وندربهم تدريباً سياسياً.. ولكن لا يجوز أن نمنع الناس من أن يتكلموا..

محمود يونس يحذر الرئيس من الخلط بين الفني والسياسي

وهنا قال المهندس محمود يونس :… ولكنهم سيتكلمون في موضوعات فنية..!

عبد الناصر يملك الحل الجدلي العبقري: اتركهم يتكلموا

ـ الرئيس عبد الناصر: يا أخي اتركهم يتكلموا.. وبعد ذلك قل لهم إن الموضوعات التي أثيرت موضوعات فنية واشرحها لهم.. هؤلاء الناس بتوعنا وإحنا مسؤولين عنهم وعن توعيتهم “.

وفاته

توفي المهندس محمود يونس في الثامن والعشرين من أبريل 1976.

 

المصدر : الجزيرة مباشر