الرسول والعلم التجريبي

كثيرة هي الكتب التي تناولت بالحديث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، سواء سيرته التفصيلية، والتي تبدأ بمولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم، أو سيرته الموضوعية، والتي تتناول موضوعا معينا من حياته وسنته، وبدأت هذه المسيرة في الحديث عنه موضوعيا في القرن العشرين، منذ بدأ عباس العقاد بكتبه العبقريات، ومنها: عبقرية محمد، وما قام به الدكتور نظمي لوقا في كتابيه: محمد الرسول والرسالة، ومحمد في حياته الخاصة، وخالد محمد خالد في كتابه: (إنسانيات محمد).

والدكتور يوسف القرضاوي لديه طموح قديم أن يكتب كتابا في السيرة النبوية، يكون على هيئة موضوعات، وليس تاريخيا كبقية كتب السيرة، ولكنه لم يقم بذلك حتى الآن، إلا أنه كتب كتابا مهما يدخل في هذا الباب بعنوان: الرسول والعلم، ولأن العلم في السنة والسيرة النبوية باب كبير، وقد أسهب في تناوله القرضاوي في كتابه، بما يعطي صورة رائعة عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من العلم، سواء من حيث التشجيع على طلبه، أو من حيث بيان أخلاقيات العالم والمتعلم على حد سواء، وقيم التعليم ومبادئه، من حيث رعاية المتعلمين، واستخدام أفضل الوسائل التي تؤدي إلى تعليم صحيح، يفيد الفرد والأمة في دينه ودنياه.

فلا غرو فالإسلام دين يحث على العلم، وقد كانت أول آية نزلت منه قوله تعالى: (اقرأ)، وفي سور القرآن سورة باسم سورة القلم، فكل مشتقات العلم والعقل والتفكر والتأمل وردت في القرآن بعدد كبير، يدل على عناية هذا الدين ورسوله صلى الله عليه وسلم بالعلم وفروعه، فكلمة علم وردت نكرة ومعرفة (80) مرة، وأما مشتقاتها من يعلم ويعلمون وعلم وعليم وعلام، فقد ذكرت مئات المرات.

وكلمة عقل تكررت (16) مرة، ومشتقاتها (49) مرة، وكذلك كلمة فكر ومشتقاتها (18) مرة، ومشتقات كلمة (فقه) وردت (21) مرة، وكلمة حكمة وردت (20) مرة، وهكذا. ولا تبتعد السنة عن هذا السياق، بل تؤكده وتعمقه وتزيده حديثا، ففي كتب السنة لم يخل كتاب منها من باب للعلم ومشتقاته، تصل لمئات الأحاديث.

وقد أراد القرضاوي بذكر هذه الإحصاءات إثبات أن الإسلام هو دين يحث على العلم بجميع مستوياته ومجالاته، ولأن المجال لا يتسع لعرض معظم الكتاب، ولا أي فصل منه كاملا، فإننا نعرض بإيجاز لفصل من فصوله، وهو بعنوان: الرسول والعلم التجريبي، يتناول فيه القرضاوي كيف تناولت السنة النبوية العلم التجريبي.

الرسول وتكوين العقلية العلمية:

فبين أن السنة تسعى لتكوين العقلية العلمية، التي تعتمد على الحقائق لا الأوهام، والصدق فيما تخبر به، لا الكذب، وعلى رفض العواطف والأهواء الشخصية في العلم، والاهتمام بالنظر والتفكر والتأمل في الكون والحياة والنفس والإنسان.

كما حارب النبي صلى الله عليه وسلم الأمية، وقد جعل أكبر مكافأة في التاريخ للمعلم، ولم يسبقه صلى الله عليه وسلم أحد بهذه المكافأة، وهي: حرية الإنسان، فقد جعل فداء أسرى بدر أن من لم يجد من يفتدي نفسه بالمال، فعليه أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، إلى درجة الإتقان، ويكون ثمن ذلك: حريته، وفكاك أسره.

وشجع النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم اللغات الأخرى غير لغة العرب، وذلك للتواصل مع الآخرين، ولنقل ما لديهم من فوائد، أو الحذر مما لديهم من مؤامرات، وقد كان من صحابته من يعرف لغات مثل: الفارسية، والحبشية، والرومية، ولكنه احتاج إلى اللغة السريانية التي يكتب بها اليهود، وهم مواطنون معه في المدينة المنورة، فأمر الصحابي الجليل زيد بن ثابت أن يتعلمها، فتعلمها في خمسة عشر يوما، كما روى البخاري في صحيحه، ويبدو أنه كانت لديه معرفة بها من قبل، وإلا لم يتمكن بهذه السرعة، رغم قوة حافظة زيد رضي الله عنه.

كما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الإحصاء، فأمر الصحابة بأن يحصوا له عدد سكان المدينة، كما في الحديث الصحيح أنه قال: “احصوا لي كم يلفظ الإسلام”، وفي رواية أخرى: “اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس” فقال حذيفة رضي الله عنه: فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل.

ومع الإحصاء لا بد من تخطيط، فماذا يفيد أن تحصي ما لديك من مواطنين، دون أن تخطط لهم ما ينفعهم، وهو ما اعتمده في كل حياته صلى الله عليه وسلم، منذ البعثة وحتى وفاته، وهجرته النبوية خير مثال، حيث خطط لمن يصبحه، ومن يدله على الطريق، حتى يصل سالما آمنا إلى المدينة المنورة.

واعتمد النبي صلى الله عليه وسلم في مجال العلم والمعرفة مبدأ: التجربة في الأمور الدنيوية، والرجوع لأهل الاختصاص والخبرة، وفي ذلك ورد حديثه في تأبير النخل، حين أشار برأي حسب خبرته المحدودة في الأمر، ولما كانت النتيجة غير سديدة، قال للصحابة: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنه لا بد للرجوع لأهل الشأن، وهو ما طبقه من قبل في غزوة بدر، حين جاءه الحباب بن المنذر، وسأله: أهذا منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل الرأي والحرب والمكيدة، فأشار عليه بمكان آخر، فنزل على رأيه. وفي غزوة الخندق، نزل على رأي سلمان الفارسي بحكم خبرته كفارسي بالخنادق، وشق المسلمون الخندق.

الرسول والعلم التجريبي:

ما مضى يعد بيانا لموقف النبي صلى الله عليه وسلم من تكوين العقلية العلمية، وبعد توضيح كل هذه التفاصيل من القرضاوي بإسهاب في كتابه، اختار علم الطب كنموذج لعناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم التجريبي، فوضع لذلك أسسا منها:

أولا: تقرير قيمة البدن وحقه على صاحبه: “إن لبدنك عليك حقا” وبمقتضى هذا الحق لا يجوز له أن يهمله، أو يفرط فيه، أو يؤدي إلى اعتلاله.

ثانيا: حل مشكلة الإيمان بالقدر الذي كان يعتقده كثير من الناس منافيا للتداوي، فأمر بالتداوي، وأنه من قدر الله، ومطلوب من المسلم أن يتناوله، ويعمل على علاج جسده.

ثالثا: فتح باب الأمل أمام الأطباء والمرضى معا، في إمكان الشفاء، فقال: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء”، وقال: “لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله”.

رابعا: اعترف بسنة الله في العدوى، فقال صلى الله عليه وسلم: “فر من المجذوم فرارك من الأسد”، وقال: “لا يوردن ممرض على مصح”، كما سبق بإقرار مبدأ الحجر الصحي، أو العزل الصحي حين قال عن وباء الطاعون: “إذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه”.

خامسا: قاوم ما يتعارض مع الطب الصحيح، مثل: طب الكهنة والسحرة وأمثالهم من المتاجرين بعمل التعاويذ والتمائم والودع، وما شابهه من خرافات وجهل.

سادسا: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم القدوة للناس بالتداوي، وتقدير أهل الطب والخبرة به، فقد أرسل طبيبا لأبي بن كعب، فقطع له عرقا وكواه عليه، أي: أنه أجرى له عملية جراحية بمفهوم زمانهم. وأمر آخر أن يأتي الحارث بن كلدة الطبيب العربي المشهور من ثقيف، قال ذلك لسعد بن أبي وقاص.

وأصيب أحد الصحابة بجرح فاحتقن الدم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فسألهما رسول الله: أيكما أطب؟ (أي: أحذق وأمهر؟) فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: “أنزل الله الدواء الذي أنزل الداء”.

سابعا: شن النبي صلى الله عليه وسلم حملة على الأطباء الجهلة، أو من يمارسونه دون خبرة وعلم كاف، فقال: “من تطبب ولم يُعلم عنه الطب فهو ضامن”.

هذه مبادئ سبعة، تبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من علم تجريبي مثل: الطب، وهناك نماذج أخرى لم يتحدث عنها القرضاوي في كتابه، بل ضرب نموذجا واحدا فقط للدلالة على موقه نبينا صلى الله عليه وسلم من العلم وأهله وفنونه وصنوفه، ولذا نتج عن ذلك أن ظهرت للناس حضارة المسلمين، لأنهم لم يجدوا في دينهم ما يمنعهم من ذلك، بل وجدوا كل إقرار وتشجيع، وإثم لمن يترك علما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وهم في حاجة له.

المصدر : الجزيرة مباشر