لماذا تجاهل العرب جائزة نوبل للسلام هذا العام؟!

الصحفية الفلبينية ماريا ريسا

فاز الصحفيان ماريا ريسا من الفلبين وديمتري موراتوف من روسيا بجائزة نوبل للسلام لعام 2021.

لحظة من فضلك.. فهذا الخبر ليس بجديد.. فقد أعلنت اللجنة المانحة للجائزة الخبر السعيد يوم الجمعة 8 أكتوبر الجاري، واحتفى به الكثيرون في أنحاء العالم، باعتباره “تكريم استثنائي للصحافة وتقدير ممتاز لجميع الصحفيين، الذي يخاطرون بحياتهم وحرياتهم في أنحاء العالم للدفاع عن حرية التعبير والحق في الحصول على المعلومات”.

الجديد في الأمر، أنه بعد أسبوع من احتفاء أحرار الكوكب بمنح الجائزة الرفيعة لصحفيين خاضا حروبا ضد أنظمة قمعية وفضحوا دوره في وأد حرية الإعلام واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أخبار مزيفة وملاحقة المعارضين والتحرش القضائي بالصحفيين، لم تهتم وسائل الإعلام العربية والأسيوية وخاصة الصحف بمتابعة القضية.

لم تذكر أغلبية وسائل الإعلام الخبر، ومن عرضَه لم يذكر إلا خبرا يقع في عدة كلمات عن إعلان قرار فوز المرشحين، ولم تشرح من هم الفائزون؟ ولماذا جاءت الجائزة الرفيعة إليهم، في وقت حاولت العديد من اللجان الإلكترونية، ترشيح قيادات عربية للحصول على ” نوبل للسلام” دون جدوى؟.

اللي على رأسه بطحة

جاء التجاهل من جل الإعلام العربي على طريقة ” يكاد المريب أن يقول خذوني” أو كما يقول المثل المصري ” اللي على رأسه بطحة يحسس عليها”. فقد أعلن المانحون أن الجائزة تهدف إلى التأكيد على حرية التعبير، في وقت تزايدت فيه الهجمات على الصحفيين الذين يسعون وراء الحقيقة، وأصبح وضع الصحافة ” صعب أو خطير جدا” في 73% من بين 180 دولة خضعت لمؤشر حرية الصحافة العالمي، و” جيد أو مرض” في 27% فقط، من بين هذه الدول تقع أغلبها في غرب أوربا والأمريكيتين.

جاء فوز ماريا ريسا مدير ومؤسس منظمة الأخبار عبر الإنترنت ” Rappler” تأكيداً على دور الإعلام المهني في حماية الحريات وحق المواطنين في المعرفة، وصفعة على وجه رودريغو دو تيرتي رئيس الفلبين، الذي أصبحت بلاده من أخطر دول العالم على الصحفيين، ذلك وفقا مؤشر حرية الصحافة السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” الذي نشرته من مقرها في باريس.

وظفت ماريا خبراتها في العمل كمدير مكتب قناة   CNN لعدة سنوات في مانيلا، في تأسيس موقع اخباري يهتم بنشر الحقائق حول ما يجري في البلاد، بما جعلها تصطدم بسياسة اتبعها الرئيس في حربه ضد تجار المخدرات.

فقد شن دو تيرتي حربا على مافيا المخدرات، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، حيث جعل الدولة تقتل نحو 12 ألف شخص خارج إطار القانون، وفقا لتقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش”. ووظف دو تيرتي إمكاناته كرئيس شعبوي، في الحصول على دعم من مؤيديه لـ”ضرب المشتبه بهم في المليان” بما حول الدولة إلى سلطة انتقام وليست أداة لإعلاء سيادة القانون، ووظف كل طاقات النظام لملاحقة المخالفين لسياساته، وجعل القضاء يتحرش بهم بتقديمهم إلى محاكمات عاجلة ومتعددة، واصداره قانون “التشهير الالكتروني” بما حكم على “ماريا” بالسجن، خرجت منه بكفالة، ويلاحقها في 7 قضايا أخرى أملا في جعلها ومن على شاكلتها، عاجزين عن ممارسة عملهم أو الزج بهم في السجون.

في الوقت نفسه يدير الرئيس حملات الكترونية ينفذها أنصاره والإعلام التابع له، تنشر أخبارا مضللة تبرر سياسات ” القتل في سويداء القلب” بدون أمر قضائي للمشتبه بهم، كما يلاحق من خلال هذه المجموعات الصحفيين من أمثال ماريا لتشويه سمعتهم على صفحات مجموعات يديرونها على “فيسبوك” حيث يتفاعل 97% من شعب الفلبين على فيسبوك يوميا. لم يتوقف دو تيرتي عند محاولة منع ماريا وزملائها من العمل عشرات المرات، بل رفض تجديد تراخيص أكبر شبكات إعلامية في البلاد ABC وCBN، لأنها أبت أن تتحول إلى أداة للدعاية “بروباجندا” له، فلاحقهم بالتضييق الأمني والإرهاب الضريبي، خاصة بعد أن اختارت مجلة ” تايم” الأمريكية ماريا كبطلة لحرية الصحافة في آسيا عام 2018، واعتبرتها “حارسة من حراس حرية الصحافة في العالم”. ويزعم دو تيرتي أن القضايا التي يلاحق بها ماريا وزملاؤها لا تتعلق بحرية الصحافة، في الوقت الذي لا يتورع الرئيس ـ سليط اللسان ـ أن يعلن عن تهديده مباشرة للصحفيين على الملأ ـ كما تذكر مجلة “TIME” قائلا: ” كونك صحفيا لا يعني إعفاؤك من الاغتيال …”!.

قانون الإنترنت السيادي

واعتبر بيريت ريس أندرسون رئيس لجنة منح الجائزة إن ديمتري موراتوف 59 عاما، وشريكته في الجائزة ماريا ريسا 58 عاما، مثلا أعلى في عالم تواجه فيه الديمقراطية وحرية الصحافة رياحا معاكسة وضغوطا بشكل متزايد”. وقد أسس موراتوف صحيفة “نوفا جازيتا” الروسية المستقلة عام 1993، التي وصفتها لجنة نوبل بأنها” أكثر الصحف المستقلة في روسيا” تعتمد على نشر الحقائق والنزاهة المهنية، بما كلفها مقتل6 من صحفيها.

ويعتبر نظام “بوتين” الصحيفة وغيرها ممن يحاربون قانون” الإنترنت السيادي” الذي أصدره للتحكم في جميع وسائل الإعلام المملوكة للدولة ولرجال الأعمال المقربين منه، بما يحولها إلى وسائل للدعاية ويسجن الصحفيين والمدونين بتهمة “ترويج الأكاذيب والعمل كعملاء والتمويل من الخارج”.

جاء رد الفعل في العالم العربي مخيبا للآمال، ويعتبر الرئيس الروسي بوتين الجائزة موجهة لدعم عميل من عملاء التمويل الأجنبي، بينما سخر رئيس الفلبين من الجائزة والحاصلة عليها، ورفضت الصين التعليق وكأن الأمر يحدث في كوكب آخر. وفقا لتقرير الشفافية الإعلامية لعام 2021 فإن دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأكثر دول آسيا وعلى رأسها الصين، هي الأكثر استبدادا وممارسة للقمع وتكميم الصحافة، حيث تحكم قبضتها على وسائل الإعلام بحجج السيطرة على جائحة كوفيد ـ 19، لتعمق ” جراح الصحافة المحتضرة أصلا في المنطقة والتي لا تزال الأصعب والأخطر في العالم بالنسبة للصحفيين”.
وتقسم المنظمة المائة والثمانون دولة إلى 4 مجموعات: المجموعة السوداء وتضم 73 دولة تعرقل العمل الإعلامي بشدة وتئن فيها الصحافة تحت وطأة القيود، وعلى رأسها حسب الترتيب، إريريا 180 وكوريا الشمالية 179، وتركمانستان 178، والصين 177، حيث زادت الرقابة على الإنترنت والتجسس على الإعلاميين والدعاية للرئيس والحزب الشيوعي بمستويات غير مسبوقة، وسوريا 173، بينما مصر 166 التي وظفت قانون الطوارئ لمنع نشر أية معلومات عن وباء كورونا خارج نطاق وزيرة الصحة، وملاحقة المدونين، ومن بعدها ليبيا تقع في القائمة الحمراء مثل روسيا 150 التي كرست أجهزتها القمعية للحد من التغطية الإعلامية للمظاهرات المتعلقة بالمعارض المرشح لجائزة نوبل للسلام والمسجون حاليا أليكسي نافالني. وتضم القائمة الحمراء الهند والمكسيك والفلبين والجزائر والمغرب بينما دخلت تونس المرحلة الثالثة الصفراء، وهو تحول مرضٍ بالنسبة لما يحدث في الدول العربية وقارة أفريقيا.

الخطر

يعكس تجاهل الإعلام العربي لهذه الجائزة، تراجعا في هامش حرية الصحافة وعدم قدرة العاملين على نشر معلومات تمثل خدمة للجمهور، بينما تراها بعض الأنظمة خطرا على نظمها، في وقت يعيش به بعض المواطنين على وقع الاعتقالات والمحاكمات الصورية والمؤجلة والاحتجازات التعسفية، وبات من المستحيل على الصحفيين الوجود في مكان الأحداث والالتقاء بالمصادر، والحصول بحرية على المعلومات من مصادرها الرسمية أو التحقق منها من خلال الشخصيات الموثوق بها. وأخطر ما في الأمر ما أشار أليه مقياس ” ايديلمان” لحرية الصحافة عام 2021، في استبيان شمل 28 دولة، أن هناك أنظمة تستخدم الصحفيين الذين يحاولون عمدا تضليل الناس من خلال نشر معلومات يعرفون أنها خاطئة” أي هناك من يدلسون على الناس خدمةً للنظام. ألا يذكرنا هذا بما يحدث في صحف وقنوات كثيرة حولنا؟! إذا تذكرت ذلك فبالتأكيد أصبحت على علم الآن، لماذا تجاهلت الأنظمة القمعية والإعلام السائر في ركابها الاحتفاء بجائزة نوبل للسلام هذا العام!

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر