فؤاد حداد.. براءة اختراع الأمل

إبداع سيد مكاوي الموسيقي الحقيقي خاصة مع فؤاد حداد وصلاح جاهين لم يكتشف بعد

فؤاد حداد

عندما يضيق بي الحال، وأجد نفسي في حالة يأس، لا أتردد في البحث عن نقاط النور في حياتي، مناطق القوة التي استمد منها الطاقات وأشتم فيها نسيم الحرية، وقدرة الإسان المستمدة من قدرة روح الله.

في غيوم الليل الذي أطل على مصر في الخامس من يونيو/ حزيران 1967، غاص شاعر العامية الأول والمؤسس الحقيقي لشعر العامية المصرية فؤاد حداد، في تاريخ القاهرة والعرب، ليخرج بعمل اعتبره الشعراء والمؤرخون درة إنتاج العامية المصرية.

في رمضان من عام 1389هجرية (1969)، قدمت الإذاعة المصرية أول حلقات البرنامج الإذاعي” في نور الخيال وصنع الأجداد في تاريخ القاهرة”، تأليف فؤاد حداد وتلحين أحد أهم ملحني مصر في عصر الموسيقى الذهبي: سيد مكاوي (رأيي أن إبداع سيد مكاوي الموسيقي الحقيقي خاصة مع فؤاد حداد وصلاح جاهين لم يكتشف بعد).

عقب إذاعة الحلقة الثانية من البرنامج، كانت الأمة العربية من شرقها إلى غربها، تغني مع موجات إذاعة البرنامج العام من القاهرة:

الأرض بتتكلم عربي

الأرض الأرض الأرض

الأرض بتتكلم عربي وقول الله

إن الفجر لمن صلاه ما تطولش معاك الآه

الأرض الأرض الأرض

الأرض بتتكلم عربي ومن حطين

رد على قدس فلسطين

أصلك ميه وأصلك طين

الأرض الأرض الأرض.

هكذا في ليل الهزيمة، يذهب حداد إلى أعلى نقطة أمل في حياة الأمة، تحرير القدس ومعركة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، ليهزم الهزيمة واليأس والإحباط، يقدم الأمل في النصر، مستعينا بالتاريخ، يقول حداد عن الأمل: “أنا في اختراع الأمل صاحب عشر براءات “…

ويحكي حداد عن ديوانه (في نور الخبال) إنه “كلمة عمر .. كلمة صلاح الدين .. كلمة عرابي في ميدان عابدين “، هكذا يلخص حداد بعبقريته الشعرية ما فصله في ديوان كامل، فجمع مناطق النور في جملة شعرية واحدة، وهذه المنطقة تستطيع أن تكتشفها في أبيات كثيرة من شعر حداد و لست خبيرا في التحليل اللغوي للشعر، ولكن تغمرني شطرة شعرية له في إحدى أغانيه، تقول:

بحبك كأني طليق العنان

وزي العجوز اللي دق البيبان.

هكذا لخص المشوار الطويل للعمر في بيت شعر، لعل قول الشاعر أمين حداد نجله ” أن حداد ولد في 30 أكتوبر / تشرين الأول 1927 وتوفي في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني 1985 كأن حداد عاش يومين فقط “، يفسر لنا عبقرية الجملة لدى حداد.

بين هذين اليومين، أقام حداد الدنيا ولم يقعدها حتى الآن إنجازا شعريا أثر في أصدقائه، وتلاميذه، وأبنائه، وأحفاده.

أحرار وراء القضبان

أول دواوين لفؤاد حداد، كان “أحرار وراء القضبان ” الذي نشر عقب خروجه من المعتقل 1956 تكتشف بعداً آخرا، فقد كان مؤثرا للغاية على قراء شعره. يقول شاعر العامية الكبير صلاح جاهين “عندما قرأت لفؤاد حداد: “في سجن مبني من حجر / في سجن مبني من قلوب السجانين / قضبان بتمنع عنك النور والشجر / زي العبيد مترصصين … قررت أن أكون شاعرا عاميا” .

هكذا كان تأثير حداد على جاهين، الذي بحث عن حداد وأصبحا رفيقين في الحياة العامة الشعرية والثقافية والحياة الخاصة، وجدين لشاعر من عائلة حداد له ملمحه الخاص هو أحمد حداد، ولا عجب في حضرة فؤاد حداد أن يكون لديه شعراء من صلبه: أمين حداد، الابن وهو شاعر له إبداعه المهم في ساحة شعر العامية، وسليم حداد الابن الأكبر.

قدم حداد إنتاجا شعريا بدأه في عام 1947 حتى وفاته 1985 بلغ 37 ديوانا لشعر العامية منها: “أحرار وراء القضبان”، “أيام الموت والعجب”، “هانبني السد”، “ميت بوتيك”، “الحمل الفلسطيني”، “استشهاد جمال عبد الناصر “، و”الحضرة الذكية”.

ومن ديوان الحمل الفلسطيني:

ولا في قلبي ولا عنيه إلا فلسطين

ولا تشيل أرض رجليه

وتنقل خطوتي الجاية إلا فلسطين

أنا العطشان ماليش ميه إلا فلسطين

سلاح الثورة متدرب على الثورة

لابد يثور

يخلي الغرب يتغرب

يخلي الشرق زايد نور

و أنا بأمر السلام أضرب

و أنا بأمر السلام منصور

و كل رصاصة بتقرب ولادي من حوالي

ولا تشيل أرض رجليه

وتنقل خطوتي الجاية إلا فلسطين.

كان اجتياح جنود الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى، مؤثرا جدا على فؤاد حداد، فأصدر ديوان ” الحمل الفلسطيني”، ردا على الاجتياح..  قضية فلسطين لم تغب عن حداد منذ بواكير أعماله، وقدم حلقة عن القدس في “المسحراتي” يقول فيها :

مسحراتي يا مؤمنين

منقراتي مد الأنين

الله على رعشة الحنين

عمره ما كان الأمل ضنين

يا قدس نوارة السنين

كأن عيني في ميتمي

يا قدس ما يحتمل دمي

إلا أشوفك و أرتمي

و أبوس ترابك المريمي

أبوي وابني على فمي.

وفي ديوان نور الخيال، كانت القصيدة الثانية تحمل أغنية الأرض بتتكلم عربي، وفي ديوان الحمل الفلسطيني الصادر عام 1985 قدم قصيدة بنفس عنوان الديوان يقول فيها:

إني رهيف مثل أرض تداس

يا حسرتي في المسجد الأقصى

يا أيها البكاء ما يدريك

بالموت تحت سنابل الخيل

أم مت بالطلقات مقتولا.

ولحداد ديوان كامل بعنوان ” لازم تعيش المقاومة ” يحتوي على كل أعماله عن فلسطين التي كانت واحدة من أهم القضايا التي جمعتها مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

استشهاد جمال عبد الناصر

فؤاد حداد اعتقل في عهد جمال عبد الناصر مرتين، الأولى عام 1953 بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي، وظل محبوسا لمدة ثلاث سنوات، الأخرى عام 1959 بنفس التهمة لمدة خمس سنوات.

الغريب أن فؤاد حداد عنده خروجه الأول كتب ديوان “حنبني السد” وبعد الخروج الثاني كان أبرز أعماله الجماهيرية ” المسحراتي ” الذي قدم للإذاعة عام 1964 بترشيح من صديقه صلاح جاهين، وقدمه لمدة خمس سنوات ثم قدم “نور الخيال ” ردا على النكسة، وفي مقدمته يقول حداد:

” من القلب عندما شُقَّ بالعرض والطول و غاصت فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما قرأت الهزيمة في التليفزيون وسرى في السلسلة ماء كالرصاص أو الجليد. وكنت مشدوداً إلى ميناء التاريخ العربي الإسلامي وكنت القائل به والناقل والعاقل والمجنون من يوم ولدت فشكرت الكاف والنون على هذه الأرض المصرية أشمها كالعاشق حتى أموت.”

أكثر ما يثير غرابتك في علاقة حداد بجمال عبد الناصر هو ديوانه المعنون: “استشهاد جمال عبد الناصر”، يفك طلاسم العلاقة أمين حداد بقوله: ” إن حداد كان يقول إنه وناصر ملتقيان في 90% من المبادئ والقيم والأهداف منها قضايا فلسطين والعدل الاجتماعي و العروبة”.

أنتج فؤاد حداد للإذاعة المصرية عملاً، أراه لم يأخذ نصيبه من الاهتمام الجماهيري والنقدي، هو برنامج “الحضرة الذكية”، والذي نشر ديوانا بنفس الاسم، وهو ديوان صوفي إسلامي يحمل طاقة نور إسلامية عظيمة الديوان عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، والصحابة رضوان الله عليهم، وفي مفتتحه يقول حداد:

يا أهل الأمانة والندى والشوق يا مجمعين

الشمل في الحضرة الذكية أول ما نبدي القول

نصلي على المصطفى سيد ولد عدنان.

…….

أسعد بشر في الدنيا كانوا الصحابة

أخلاقه القران ورحمة وحياة

عاشوا في هداه من صوم لحج لمثابه

ومجاهدين شفعوا الصلاة بالصلاة.

اعتراف أخير

هذا فؤاد سليم حداد، الشامي الأصل، المصري الجنسية، العربي التوجه، الذي أسس شعر العامية المصري، المسيحي الجذر، والمسلم الشيوعي كما يقول عن نفسه.

أعترف أن هذا المقال أصعب ما كتبت وما سأكتب في حياتي، فالعلاقة مع حداد من المحبة والعشق والأعمال، وما أعرفه وعلاقتي مع أبنائه منذ 36 عاما، وكواليس ما قدمته عنه في مكتبة التليفزيون المصري، كانت ضاغطة بشدة أثناء الكتابة، فهي تحوي الكثير.. ظني أنه يستحق التوثيق، أما أعمال حداد، فرؤيتي أن كل عمل يستحق الكثير من التدقيق والبحث والتحليل الموضوعي والشعري، فعذرا لكم فؤاد حداد لا يمكن حصره في مقال، محدد الكلمات أو المساحة.

لكنه احتياج للحظة أمل وبراءة اخترع جديدة له .

المصدر : الجزيرة مباشر