طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام

طه حسين

الدكتور طه حسين الأديب والمفكر المصري العالمي المعروف؛ شخصية مثيرة للجدل، بسبب ما طرحه من أفكار في بداية حياته العلمية، وللأسف هناك فريقان يظلان على موقفهما من المفكر، لا يتطور هذا الموقف تبعا لتطور موقف المفكر نفسه، فكثير من مفكري مصر الذين بدأوا حياتهم بمواقف ضد الإسلام أو العروبة، أو ضد الثوابت الدينية، سرعان ما عاد معظمهم إلى الموقف الصحيح، ولكن ظل فريقان من الناس يقفان عند مرحلة معينة عند فكر طه حسين كنموذج، المتعصبون له، والمتعصبون ضده، كلاهما يصر على أن يقف عند مرحلة واحدة عاشها طه حسين، وهي مرحلة كتابه: في الشعر الجاهلي، وكتابه: مستقبل الثقافة في مصر، مرحلة انبهاره بالغرب وأفكاره وثقافته، بينما الرجل طور من فكره كثيرا على غير ما يصر هؤلاء أن يقفوا عنده.

لهذا السبب كتب المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة رحمه الله هذا الكتاب: (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، وقام بنشره كذلك مجلة الأزهر، ليوزع هدية مع مجلتها الشهرية، والتي كان رئيس تحريرها وقتذاك عمارة، وظل يضغط العلمانيون واليساريون ويحرضون النظام المصري على أن يترك عمارة المجلة، وهو ما تم بعد ذلك، بسبب كمية الكتب المهمة التي يقوم بطبعها هدية مع المجلة، وكلها ترد على الإلحاد والأفكار المعادية لثوابت الإسلام.

لقد حفر عمارة في كتب طه حسين، ولم يأت بكلام محبيه أو خصومه فيه، بل جاء بكلامه هو نفسه، طه حسين يتكلم عن فكر طه حسين، نصوص من كتبه، ومقالاته، ومقابلاته، وحياته، ورسائله، ما يدل على التحول الحقيقي في فكر طه حسين، مثلما حدث مع محمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، ومنصور فهمي، وخالد محمد خالد، وكثيرون من المفكرين المصريين في القرن العشرين، وهي طبيعة بشرية في صاحب الفكر الحر، أنه يظل دائما يفكر، أصاب أم أخطأ فهو يعبر عن فكره فقط.

مرحلة التردد:

كانت المرحلة الأولى في فكر طه حسين منذ سنة: 1908م – 1914م، والتي كان فيها مترددا في فكره، لا يستقر على رأي واحد، شأنه شأن كثيرين من الكتاب الشباب، فكان يكتب وقتها منبهرا بالفكرة الوطنية، وذلك متأثرا بلطفي السيد، والذي التقطه ليكتب في (الجريدة) لسان حال حزب الأمة، فكتب فيها طه حسين مقالات يدعو للوطنية المتجردة من العروبة والدين، ويدعو للانتماء للوطن.

وفي نفس الوقت يكتب في جريدة (الحزب الوطني) والتي كان يرأس تحريرها الشيخ عبد العزيز جاويش، فيكتب طه حسين بلغة شيخ أزهري، صاحب فكر محافظ، فكتب ينادي بتحريم الزاوج بالكتابيات الأوروبيات، فيقول: (إذن فأستطيع أن أحظر تزوج المسلم من الكتابية من الإفرنج، أو على الأقل أضيق دائرته تضييقا شديدا، لا سيما إن أضفت إلى ما سبق فساد الدين في نفوس الفرنج فسادا مطلقا حتى أشرف على الانمحاء).

مرحلة الانبهار بالغرب والعدوان على الثوابت:

أما مرحلته الثانية، فهي مرحلة الانبهار بالغرب، وهي بين الأعوام: 1919م -1930م)، ففي هذه المرحلة سافر طه حسين إلى فرنسا، ودرس على يد المستشرقين، وتلقى أفكارهم التي كانت تمجد الفكر الغربي، وتنهش في الفكر الإسلامي وثوابته، وتمجد في الثورة الفرنسية بوصفها منقذا للشعوب العربية، وأنها أدخلت إليهم الحريات والمطبعة والعلم، كمصر نموذجا.

فعاد إلى مصر مبهورا بكل ما هو غربي، وساعيا بكل ما يملك وبكل الطرق إلى إلحاق مصر بهذا النموذج الحضاري الغربي، حتى لكأنه (المريد.. والدرويش) في الطريقة الحضارية الغربية. ويرجع محمد عمارة السبب في ذلك إلى أمرين عند طه حسين: الأول: زواجه من سوزان، تلك الفتاة الفرنسية التي تقدم لها ورفضت في بادئ الأمر، فقد رفضت لثلاثة أسباب: أنه مسلم، وعربي، وكفيف، ثم توسط لديها عمها وهو قسيس فرنسي، فأقنعها بالزواج منه، فكان ذلك مدخلا عاطفيا وقلبيا لقلب طه حسين، والانبهار بالغربيين وحياتهم.

والسبب الثاني: المستشرقون الذين درسوه، ودراسته للدكتوراه والتي كانت عن: (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية)، وهو ما جعله يعود بروح غير الروح التي ذهب بها، وكان نتاج ذلك كتابه: في الشعر الجاهلي، والمعركة التي دارت حوله، ولا يتسع المقام لذكر تفاصيلها.

عاد طه حسين، وقد تفجرت في مصر معركة كتاب: (الإسلام وأصول الحكم)، وقد كان صديقا للشيخ علي عبد الرازق، والذي تراجع فيما بعد أيضا عن تفاصيل في كتابه مهمة، وأعلن طه حسين أنه راجع كتاب عبد الرازق ثلاث مرات، وأنه عدل فيه وأضاف بعض إضافات.

فبدأت كتابات طه حسين تتعرض للثوابت، والعدوان عليها، والتشكيك فيها، وقد رد عليه عدد من العلماء والمفكرين في مصر، من أمثال: محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، ومحمد مصطفى المراغي، وناصر الدين أسد، ومحمد أحمد عرفة، ومحمد أحمد الغمراوي، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم.

مرحلة الإياب التدريجي:

أما المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الإياب التدريجي، والمخاض الحافل بالمتناقضات، وتدور بين سنوات: (1932م-1952م)، وقد امتازت هذه المرحلة، بأنها خلت من أي هجوم منه على الثوابت الإسلامية، أو إساءة للدين أو رموزه، وفي هذه المرحلة كتب كتابه: على هامش السيرة، وقد ركز فيه على الأساطير التي أحاطت بتاريخ الإسلام، وأسهم إسهاما ملحوظا في الدفاع عن الإسلام، والرد على المنصرين والمبشرين، وضد البهائية والبهائيين.

ولكنه في هذه المرحلة ظل على ولائه للحضارة الغربية وانبهاره بها، ولذا كتب كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر)، والذي نادى بأن نأخذ ما لدى الغرب حتى نتطور، بخيره وشره، وحلوه ومره، لكنه انتقد الثورة الفرنسية، وهو ما يعد بدايات تحول عن الانبهار بها، فقال: (ليس صحيحا أن الثورة الفرنسية قد حررت الإنسان، فما زال الإنسان يستعبد الإنسان، وما زال الفرنسيون الذين كانوا يرون أنفسهم رسل الحرية، يستعبدون أجيالا من الناس في أقطار الأرض على تباعدها، ويستعبدونهم باسم الثورة، ويستعبدونهم باسم الحرية والإخاء والمساواة).

مرحلة الإياب والانتصار للعروبة والإسلام:

أما المرحلة الأخيرة من حياة طه حسين، فهي مرحلة الإياب والانتصار الحاسم للعروبة والإسلام، وهي تبدأ من سنة: 1952، وحتى وفاته، فقد كان طه حسين ضمن لجنة إعداد الدستور بعد يوليو 1952، وقد اقترح الدكتور عبد الرحمن بدوي مساواة المرأة بالرجل في الميراث، فرد عليه طه حسين برفض هذا المقترح، لأنه يتعارض مع ثوابت الإسلام، وليس لنا أن نعارض ثوابت القرآن الكريم، والأديان.

أما أكثر ما أثر في طه حسين، فهي رحلته للحجاز سنة 1955م والتي زار فيها مكة والمدينة، والتي قامت مجلة سعودية بعمل حوار صحفي معه، وسألته: ما هو بيت الشعر الذي راقكم، ورددتموه وحفظتموه لأول وهلة؟ فأجاب: لا أذكر، إنما الشيء الذي لا أشك فيه هو أنني أكثر ما أتلو بيني وبين نفسي آيات من القرآن الكريم، وأنا أكثر ترديدا للقرآن من الشعر.

رحلته للعمرة وحبه للحرمين:

ثم ذهب لأداء العمرة، وارتدى ملابس الإحرام، وقد سئل عن شعوره عندما ارتداها، وبماذا دعا في المسجد الحرام؟ فأجاب: أوثر ترك الإجابة على السؤالين لما بيني وبين ربي من حساب، وإنه لعسير، أرجو أن يجعل الله، أرجو أن يجعل الله من عسره يسرا.

ولما سئل عن شعوره في رحلة العمرة، فقال: أما شعوري فشعور المحب المؤمن، أما رأيي فهو رأي كل مسلم يقدر مهد الإسلام حق قدره، ويتمنى أن تكون مشرق النور في مستقبل أيامها كما كانت مشرق النور حين اختصها الله بكرامته فابتعث فيها محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وعندما أحرم طه حسين في جدة وركب السيارة قاصدا مكة لأداء العمرة، كان معه الشيخ أمين الخولي، فطلب منه أن تقف السيارة لحظة وصولها (الحديبية) وما أن بلغت السيارة المكان وتوقفت، حتى ترجل طه حسين وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلا: والله إني لاشم رائحة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر، وهدأ مرافقه من روعه على مدى نصف ساعة من الراحة.

ثم دخل المسجد الحرام – كما يحكي مرافقوه ومنهم الشيخ أمين الخولي – وطه حسين لا يكف عن البكاء، ثم قبل الحجر الأسود، وأطال الوقوف والبكاء والتنهد والتقبيل، ونسي نفسه، فتركوه في مكانه، بعد أن توقف موكب المعتمرين معه. ثم بعد ذلك زار قبر حمزة رضي الله عنه. وصلى في المسجد النبوي، ويقول طه حسين: وشعرت بسمو روحي، وودت أن لا أبرح المسجد، أتابع صلاة الظهر بصلاة العصر، فلا أريد غذاء ولا طعاما ولا شرابا، ولكن معي رفاق يريدون السفر عاجلا.

ثم بعد ذلك كتب طه حسين كتابه: (مرآة الإسلام)، وبعده كتاب: (الشيخان) عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في مرآة الإسلام، راجع كل مواقفه، وعاد إلى الموقف الأصيل من دينه، وتراجع عن كل أفكاره التي حاد فيها عن الصواب الديني، بوضوح شديد، لا يتسع المقام لذكر مواضع من كتابه، ولا غنى للعودة عنهما لمن يريد أن يقف على مواقف طه حسين الأخيرة من الثوابت الدينية.

الدعاء الذي أوصى أن يكتب على قبره:

وقد سأله الكاتب والأديب كامل الشناوي بعد رحلة العمرة سؤالا: بماذا ناجيت ربك في صمت وخشوع عندما كنت في الحرمين المكي والنبوي؟ فقال: قلت له سبحانه: (اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن. أنت الحق، ووعدك الحق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت).

وقد قال طه حسين هذا الدعاء في فلورنسا بفرنسا في مؤتمر، وقاله باللغة الفرنسية، فجاءته سيدة مسيحية تبكي، تطلب منه أن يكتب لها هذا الدعاء، فقالت له المرأة: خذ دموعي وإعجابي وبلغهما للإسلام الذي أحبه كثيرا. كانت هذه الكلمات والتي قالتها المرأة في مؤتمر سنة 1951م، سببا لذهاب طه حسين للعمرة بسبب هذا الدعاء، ثم أوصى طه حسين أن يكتب هذا الدعاء على قبره.

رحم الله طه حسين، صاحب رحلة فكرية متعددة تنقل منها عدة تنقلات، لتكون درسا لكل باحث أن لا يقف عند معلومة أو مرحلة واحدة في تاريخه، بل عليه أن يلم ببدايته ونهايته، ومواقفه كلها. ورحم الله الدكتور محمد عمارة، فلولاه، ولولا كتابه: (طه حسين.. من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، ما عرفنا كل هذه المعلومات التي ذكرنا ملخصا له.

 

المصدر : الجزيرة مباشر