صعود الكيانات وهبوطها.. الإخوان إلى أين؟

في العام 2014 باعت شركة نوكيا “درة تاجها” مصنع إنتاج الهواتف المحمولة لشركة مايكروسوفت، كانت صفقة البيع تستهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشركة التي دخلت مستنقع الغرق بعد أكثر من 150 عاماً (تأسست 1856) كانت خلالها ملء السمع والبصر، وبعد أن تراجعت حصتها السوقية في مجال الهواتف المحمولة من 50% سنة 2007 إلى 5% فقط عام 2013.

تعددت أسباب تراجع وانهيار شركة نوكيا، لكن أهمها هو عدم قدرتها على مسايرة الجديد في عالم الهواتف الذكية، والافتقار لرؤية جديدة، والعيش على سمعتها التاريخية، وعلامتها التجارية.

وفي أول يوليو/ تموز الماضي احتفل الحزب الشيوعي الصيني بمرور مائة عام على تأسيسه، وتفاخر الحزب بإنجازاته منذ توليه الحكم، وأهمها حسبما قال الرئيس الصيني، ورئيس الحزب شي جينبينغ، “بناء مجتمع رغيد الحياة “، وانتشال مئات ملايين المواطنين من وهدة الفقر المدقع، ورغم أن الحزب الشيوعي الصيني هو أكبر حزب شيوعي في العالم حالياً، وهو أحد 5 أحزاب شيوعية فقط لا تزال في سدة الحكم (الصين وكوريا الشمالية ولاوس وكوبا وفيتنام)، ورغم أنه لا يزال وفياً لمبادئه الشيوعية إلا أنه استطاع تطوير أدائه بما مكنه من البقاء لمائة عام حتى الآن، وقد يقول قائل إن ذلك تم بقوة الحديد والنار والقمع، لكن هذا السبب وحده لا يصلح للتفسير ذلك أن الحزب الشيوعي السوفيتي كان هو الحزب الأكبر عالميا، وكان يمتلك الأدوات ذاتها التي امتلكها نظيره الصيني ومع ذلك انهار مطلع التسعينات، وانهارت معه غالبية الأحزاب الشيوعية الحاكمة في العالم وهي تمتلك أدوات القوة ذاتها.

سنن البقاء

قد يندهش البعض من المقارنة بين شركة وحزب صعودا أو هبوطا، لأن المقارنات تكون بين متماثلين، والحقيقة أنني لم أرد مقارنة كاملة بل قصدت جانبا واحدا وهو سنن البقاء والفناء، فكلا من الشركة والحزب تعدان مجازا من الكائنات الحية، لاعتمادهما أساسا على البشر، فكراً وممارسة، والمهم هو معرفة أسباب بقاء وصعود بعض الكيانات، وأسباب تراجع وانهيار البعض الآخر، فهي من السنن الكونية الغلابة التي لا تفرق بين مؤمن وكافر، أو بين شركة أو حزب أو تنظيم أو جمعية أو جمهورية أو مملكة.

فدولة المرابطين التي قادتها حركة إسلامية بالاسم ذاته حكمت المغرب والأندلس  94عاما (447 -541 هجرية) قبل انهيارها، ودولة الموحدين التي انبثقت من حركة إسلامية بالاسم ذاته حكمت بلاد المغرب (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) والأندلس ما بين 1121م – 1269م قبل أن تختفي من الوجود، وتصبح أثرا بعد عين، وفي المقابل فإن الحركة الفابية التي نشرت الفكر الاشتراكي في بريطانيا تأسست في العام 1884 ولا تزال مستمرة حتى اليوم، وهي الحاضنة الشعبية لحزب العمال البريطاني، كما أن جمعيات دينية مصرية تأسست قبل ظهور الإخوان ولا تزال قائمة حتى اليوم مثل الجمعية الشرعية (1912) وجمعية أنصار السنة 1926 وجمعية الشبان المسلمين 1927.

الجماعة إلى أين؟

تلك كانت مقدمة ضرورية لاستقراء مستقبل جماعة الإخوان بعد الخلافات التي نشبت بين قياداتها مؤخرا، فإلى أي المصيرين تسير الجماعة على ضوء سنن التاريخ؟

تأسست الجماعة في مارس من العام 1928 أي أنها أتمت 93 عاماً، وقد احتفلت قبل عامين بتسعينيتها في حضور القادة المتنازعين اليوم، وفي غياب جزء من أبنائها الذين فصلوا أو جمدوا في العام 2016.

وإذا كانت أزمة 2015-2016 التي عصفت بالجماعة وشطرتها كانت نتيجة الخلاف على طريقة مواجهة الانقلاب العسكري بين خياري المقاومة المسلحة والسلمية، فإن أزمتها اليوم تتركز حول التجديد والتطوير ولم الشمل، إذ أعلن القائم بعمل المرشد إبراهيم منير عن بعض الخطوات في هذا السياق مثل تحديث اللائحة وتوسيع مجلس الشورى وبحث سبل استعادة الشباب والكفاءات الذين هجروا أو أبعدوا من الجماعة (وهي خطوات لا تزال محض أفكار، حيث لم يتم تنفيذ سوى تعيين هيئة إدارية عليا، وإجراء انتخابات للإخوان في تركيا أظهرت تغييرا واسعا، وتعيين متحدثين إعلاميين) فيما يرفض فريق آخر بقيادة الأمين العام السابق الدكتور محمود حسين هذه الخطوات معتبرا إياها خطرا كبيرا على الجماعة، وقد سعى هذا الفريق ( بطريقة غير قانونية) لسحب الثقة من نائب المرشد والقائم بعمله بهدف إحباط ما تم أو سيتم من إصلاحات، غير أن هذا المسعى جوبه بحالة تضامن واسعة مع نائب المرشد وخطواته الإصلاحية، وهو ما دفع المجموعة الرافضة (مجموعة الستة) -صدر قرار بوقفها وإحالتها للتحقيق- للتريث في باقي خطواتها والتي كانت ستنتهي بإعلان قائم بأعمال المرشد من طرفها، لكن هذا لا يعني أنها تراجعت بشكل تام عن خطتها بل هي تتحين الفرصة المناسبة لذلك.

انقسامات الإخوان

في تاريخها الممتد لأكثر من تسعين عاما مرت جماعة الإخوان بالعديد من العواصف والانقسامات، لكنها تمكنت من تجاوزها في نهاية المطاف وإن بقدر من الخسائر في كل مرة، كانت أولى الانقسامات في عهد المؤسس الإمام حسن البنا بانشقاق مجموعة شباب محمد، ثم انشقاق وكيل الجماعة أحمد السكري، ثم كانت الضربة القاصمة الأولى بحل الجماعة عام 1948 واغتيال البنا نفسه في فبراير 1949، ثم  صدور وتنفيذ أحكام بالإعدام لأول مرة على بعض قادة الجماعة، ثم الأزمة الكبرى التالية عام 1965، والتي أعدم فيها الأديب والمفكر سيد قطب وعدد من القادة مع سجن العدد الأكبر من أبناء الجماعة في ذلك الوقت، وظلت الجماعة في حالة غياب تام من 1965 حتى منتصف السبعينات حين بدأ الرئيس السادات إطلاق سراح السجناء، والذين عاد بعضهم لقيادة العمل الدعوي مجددا منذ أواخر السبعينات مع الجماعات الإسلامية التي ظهرت في الجامعات إبان حبس الإخوان، كما كان من الانشقاقات العاصفة ما حدث في عهد المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي عندما خرج مسؤول النظام الخاص عبد الرحمن السندي، وعدد من كبار مساعديه ضد الهضيبي، وقد انضم لتلك المجموعة بعض الشيوخ مثل محمد الغزالي وسيد سابق، كما شهد منتصف التسعينات أزمة حزب الوسط.

خلاف الازمة الحالية

تختلف الأزمة الحالية عن سابقاتها لجهة حدوثها في أشد فترات الجماعة ضعفاً، بعد الضربات الشديدة التي تعرضت لها من النظام العسكري، بقتل وسجن عشرات الآلاف من أبنائها بصورة لم يسبق لها مثيل، ومصادرة ممتلكات أعضائها، وتجفيف منابعها المادية، كما تأتي الأزمة على خلفية مساعي التطوير والتغيير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكي تتجنب الجماعة مصيرا بائسا سبقها إليه جماعات كانت أشد قوة وأكثر بأسا، وأطول عمرا.

في اعتقادي -وقد أكون مخطئا بل أتمنى ذلك- فإن هذه المعركة هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ الجماعة من ذلك المصير المرعب، وظني أن الخطوات التي اتخذت حتى الآن في طريق الإصلاح والتطوير هي خطوات رمزية أولية، لا تكفي بذاتها لإحداث الإصلاح وإن بشرت به، وفتحت الباب له، لكن الأمر يحتاج إلى خطوات أكبر تتعلق بمراجعات سياسية وفكرية، ومراجعة مسارات عمل، وتحديد الثوابت والمتغيرات، واستعادة وتوظيف طاقات معطلة، ولم شمل وإصلاح ذات البين، وتطوير تحالفات سياسية أكثر قدرة على التأثير، وإحداث اختراق للمشهد السياسي المغلق حاليا، فإذا تمكنت خطوات الإصلاح من تحقيق ذلك فإنها ستكتب شهادة ميلاد جديدة للجماعة، وإذا نجت جهود المعوقين للإصلاح فإنهم سيكتبون بأيديهم شهادة الوفاة للجماعة عن عمر جاوز التسعين عاما.

المصدر : الجزيرة مباشر