حول جواز ميراث الزوجة غير المسلمة من زوجها المسلم

قضايا الميراث متجددة، لأنها من القسم الذي يطبق من الشريعة في حياة الناس، وبخاصة في بلادنا المسلمة، ولأنها مطبقة؛ فهي موضع نقاش وتجديد فقهي، وبحث علمي مستمر، ورغم القضايا الجديدة في الميراث، إلا أن حلولها دائما لا تخرج عن إطار الشريعة والفقه الإسلامي، رغم قلة نصوص المواريث، إلا أنها شملت كل الحالات قديمة وجديدة، ولعل قلة نصوصها جعلت من قضاياها مرنة، وقابلة للتجديد.

ومن هذه القضايا: قضية ميراث الزوجة غير المسلمة من زوجها المسلم، حيث إن المعمول به – فقها – في بلادنا: ألا ترث الزوجة غير المسلمة من الزوج المسلم، لاختلاف دين الزوج والزوجة، وقضية التوارث بين المسلمين وغير المسلمين -بوجه عام- رجالا ونساء، المعمول به -فقها- في بلادنا: عدم ميراث مختلفي الدين بعضهم بعضا، والقضية قليلة الوجود في بلادنا العربية والإسلامية، ولكنها تكثر في المسلمين الذين يعيشون في بلاد غربية، حيث يتزوج المسلم من غير المسلمة، أو يسلم غير المسلم، وتظل أسرته على دينها، وتثار قضية ميراث المسلم من غير المسلم أكثر في هذه البلدان.

وقد انتهى المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ومقره: أيرلندا، وقت رئاسة الدكتور القرضاوي له، إلى جواز أن يرث المسلم غير المسلم، وكتبوا في ذلك عدة بحوث، وكتب القرضاوي بحثا مصغرا، ولكن بقيت قضية ميراث غير المسلم من المسلم كما هي في فتاواهم، وبخاصة الزوجة، وهي قضية أكثر مسيسا بالحياة والفقه والفتوى في الواقع الأوربي وغير الأوربي.

وإن كان مجلس الإفتاء قد وجه النص النبوي الذي يمنع التوارث وقد ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم”، وقوله: “لا يتوارث أهل ملتين شتى”، فوجهوه بناء على كلام ابن تيمية وابن القيم، أن الكافر هنا مقصود به المحارب لا المسالم، ولا المعاهد، وكنت أناقش كثيرين منهم في الموضوع، بأنه ما دمتم قد صرفتم الحديث عن ظاهره، وأولتموه، فمعنى ذلك أنه ينطبق على الاتجاهين: ميراث المسلم من غير المسلم، وغير المسلم من المسلم، ما دام ليس محاربا، وبذلك كنت أفتي بأن ترث الزوجة غير المسلمة من الزوج المسلم، بناء على هذا الرأي، وكتبت صفحات قليلة غير منشورة في الموضوع، وغير مكتملة، وإن كنت أفتي في برامجي وعند السؤال به.

كتاب مهم

إلى أن خرج كتاب مهم في الموضوع بعنوان: (قضية التوارث بين المسلمين وغير المسلمين.. في مناقشة هادئة وطرح فقهي جديد) للأستاذة الدكتورة زينب عبد السلام أبو الفضل، وقد تتبعت معظم بحوث وكتابات الدكتورة زينب، فوجدتها جديدة في تناولها، وعميقة في طرحها الفقهي والأصولي، وفي بحثها موضوع المقال، ما يعد نموذجا للتناول الفقهي المعاصر لقضايا قديمة جديدة، وقد قامت بفرض الكفاية في هذا البحث.

فقد بينت الرأي السائد أولا في القضية، وهو: أن المسلم لا يرث غير المسلم، والعكس كذلك، وجمعت كل الأحاديث التي وردت في الموضوع، وتناولتها سندا ومتنا وفقها، وأوضحت أن هذه النصوص كلها وردت في سياق معين، وهو الحديث عن المحاربين، وبعض هذه النصوص ورد في سياق تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالسياسة والإمارة، ولم تكن من باب التشريع الدائم المستقر.

وانتهت إلى هذه النتائج المهمة -التي لا يغني ذكرها اختصارا عن العودة للبحث بتفاصيله – وهي:

أولا: لا يوجد إجماع حقيقي يمنع التوارث المطلق بين المسلمين وغيرهم، وفقا لمنطوق حديث: “لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم”، وغيره من المرويات في ذات المعنى؛ و من الصحابة رضوان الله عليهم من أجازوا توريث المسلم من غيره والعكس، وبه قضى معاذ ومعاوية رضي الله عنهما.

ثانيا: لفت الإمام ابن القيم الانتباه إلى أمر مهم، وهو أن قضية منع التوارث بين المسلم وغيره مطلقا، هي من أسباب الصد عن الإسلام، لأنه حين يعلم غير المسلم أن دخوله الإسلام يحرمه ميراث من أقاربه غير المسلمين؛ فإنه يمتنع عن الدخول فيه، وقد أخبر ابن القيم أنه عاين ذلك بنفسه؛ ومن ثم كان رأيه في حديث: “لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم” أنه يجوز تخصيص عمومه بمصلحة تأليف القلوب للإسلام، وقال: وهذه مصلحة ظاهرة، يشهد لها الشرع بالاعتبار.

ثالثا: أن من منعوا ميراث المسلم من غير المسلم والعكس، ربطوا ذلك بمبدأ المناصرة، وهو مبدأ لم يعد موجودا بعد تغير صيغة عقد الحكم، وتحول لعقد المواطنة، وأصبح المسلم وغير المسلم يشتركان في الجيوش والدفاع عن البلاد معا، وهو أمر لم يكن موجودا من قبل، مما جعل الفقهاء يربطون الميراث بالمناصرة.

رابعا: في مسالة ميراث الزوجة غير المسلمة من الزوج المسلم، انتهت الدكتور زينب إلى حقها في أن ترث من زوجها، ودللت بذلك بما سبق وذكرته عن قضية التوارث بين أتباع ديانتين، وزادت على ذلك ما تحدث عنه القرآن عن الزواج بأهل الكتاب، ووصف هذه الكتابية بالمحصنة، وأن هذه الزوجة ستكون هي الأم الحاضنة لأبناء الزوج المسلم، وسيكون أبوها جدا لهؤلاء الأبناء، وأمها جدة لهم، وإخوتها أخوالا وخالات لهؤلاء الأبناء، وهكذا.

ويشهد الكثيرون من رجال المسلمين ممن تزوجوا بالكتابيات –لا سيما من يقمن في المجتمعات العربية والإسلامية – لهن بحسن التبعل لهم كأزواج، وحسن إدارة المنزل، وشؤون الأبناء، وأن منهن من تحرص على أن يؤدي أبناؤها الشعائر الإسلامية كاملة، ومنها الجمع والجماعات ونحو ذلك، ويقاسمن الأزواج جميع هموم الحياة، بما فيها من نفقات المنزل والأبناء، فهل من الرحمة والمروءة الإنسانية أن يقال بحرمان مثل هذه الزوجة من الميراث، والقول بأنها يمكن تعويضها من خلال الوصية، وهو قول رفضته د.زينب، لأنه لا يعد تكريما لهذه الزوجة، بل يعد من باب الامتنان عليها، لا من باب العدل والمودة، وهو حقها فعلا أن ترث كالزوجة المسلمة.

ما يثيره الجهلاء

لقد غلبت صاحبة البحث النصوص العامة، والمبادئ الكلية للشريعة الإسلامية، في مقابل نصوص جزئية، بعد أن فحصتها ودرستها دراسة مستفيضة من حيث أسانيدها ودرجتها، ومن حيث سياقها ومعانيها، ومن حيث واقع هذه النصوص في التطبيق، وقارنت ذلك كله بواقع معيش، لا يمكن أن تنفصل الفتوى أو الموقف الفقهي عنه، وهو ما يغفل عنه – للأسف – الكثيرون، عند التعرض لقضايا شائكة مثل هذه القضية، تكون عدالة الإسلام وسماحته في أزمة بسبب التساهل في البحث، وعدم التعمق في المسألة، والنظر إليها من جميع جوانبها، وهو ما اجتنبته د.زينب في بحثها، وانتهت إلى أن التوارث بين المسلمين وغير المسلمين لا يوجد نصوص جامعة مانعة تمنعه، ما داموا ليسوا محاربين.

البحث ثري بالتفاصيل النقاشية والحجاجية للنصوص الواردة في الموضوع، وثري بالحجج التاريخية والواقعية حول الموضوع، وبثرائه يفتح بابا مهما للنقاش الفقهي والمجتمعي حول موضوعه، ما دام الأمر ليس إجماعا متيقنا، بل يدور في دائرة التجديد الفقهي، وهو أمر منوط بأهله لا الدخلاء عليه، وهو ما برهن عليه الكتاب، وأن فقهنا الإسلامي ثري وزاخر بحلول لكثير من مشكلاتنا، ويدفع ما يثيره بعض الجهلاء حوله من دعوى جموده وعدم استجابته لمتطلبات الواقع والحياة.

المصدر : الجزيرة مباشر