تطورات الأزمة في السودان.. مدنية أم عسكرية؟

المكون العسكري وجماعة الأربعة، ورئيس الوزراء الضعيف المتردد، أضاعوا جميعهم فرصة مهمة

عبد الفتاح البرهان

منذ فجر الـ25 من الشهر الجاري، أي الليلة التي أعقبها بيان القائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، وقضى بإعلان الطوارئ وحل الحكومة الانتقالية، والتحفظ على الدكتور عبد الله حمدوك في منزله، كأنه ضيف عزيز، وليس رئيس حكومة معزول بالقوة الجبرية! تعاني البلاد حالة من القلق والخوف، وتسيطر على الشارع أسئلة مؤرقة إزاء مصير الثورة، ومخاوف عسكرة الحياة السياسية، حتى إن دخان الإطارات المتصاعد وألسنة النيران الغاضبة حجبت الرؤية تماماً، وتعطّلت شبكة الإنترنت والاتصالات والمواصلات أيضاً قبل أن تعود تدريجياً، ولم يعد أحد لديه أي تفسير لما يجري، وما سيؤول إليه أمر الناس في هذا البلد المأزوم بساسته ونخبه وجيشه.

الانقلاب المتسلق

وبالرغم من أن البرهان تجنب الخوض في مشهد الانقلابات المعروفة، كالمارشات العسكرية ونشر الجيش والمدرعات في الشوارع، وتكوين مجلس عسكري لإدارة البلاد، فزج برسائل تطمينية للداخل والخارج، إلا أنه صنع انقلاباً مخففاً، كانت كل المؤشرات تدل عليه، وقد وصفه الدكتور حسن مكي في حوار استشرافي أجريته معه قبل أشهر قليلة بالـ”الانقلاب المُتسلق”، بمعنى أنه بدأ يزحف ويلتف على حكومة حمدوك منذ يومها الأول، وقد هيأت له الشراكة غير المُتزنة كما وصفها البيان، وتصرفات قوى الحرية والتغيير الطائشة، بإقصاء القوى السياسية الأخرى، وتسيس العدالة، وتعطيل قيام البرلمان والمحكمة الدستورية، وخرق الوثيقة الدستورية أكثر من مرة، والتمكين الموازي في السُلطة، وفتح المجال للتدخُلات الأجنبية، وتجاهل المعاناة الاقتصادية لشعب مطحون بالفقر، إلى جانب أزمة شرق السودان التي عزلت الموانئ الرئيسية. تلك التصرفات وغيرها، هيأت المسرح لهذه النهاية المُحزنة والمتوقعة أيضاً، إذ إن الساسة لا يعدون والجنرالات في كل الدنيا يقرأون من كتاب واحد.

استنساخ الماضي

المكون العسكري وقوى التغيير المعروفة بجماعة الأربعة، ورئيس الوزراء الضعيف المتردد، أضاعوا جميعهم فرصة مهمة للانتقال السلس، والعودة لـ”جنة” الديمقراطية ومدنية الدولة، وجميعهم كذلك شركاء في الفشل، ويتحملون معًا أوزار تعثر الفترة الانتقالية وسقوطها في أوحال مصير غامض، سيما وأنها المرة الانتقالية الأولى التي يتدخل فيها الجيش، تحت مسمى تصحيح المسار الديمقراطي، ولم يحدث ذلك بعد سقوط نظام الجنرال إبراهيم عبود عام 1964، وسقوط نظام جعفر نميري في العام 1985، ولكن لا البرهان هو سوار الدهب، ولا ساسة اليوم وهم رجال الدولة في الماضي، أمثال المحجوب والترابي والصادق المهدي، بشكل يوحي أننا لا نتعلم من الماضي، والذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم بتكراره، كما قال أحد الفلاسفة!

من المهم إطلاق سراح كل المعتقلين من دون شرط، والقطيعة مع النزعة الشمولية، وإلغاء كل الإجراءات الاستبدادية والاقصائية التي صدرت في حق عشرات الآلاف من المواطنين من خلال ممارسات لجنة التفكيك، ذات السمعة السيئة، والشروع الفوري في حوار واسع لا يستثني أحدًا، يقضي بالإسراع في تشكيل حكومة كفاءات مُستقلة، تعكف على إيقاف التدهور غير المسبوق في كل مناحي الحياة، وتهيئ البلاد لانتخابات وديمقراطية حقيقية غير مزيفة، توقف نهائياً لعبة التكالب بالحشود والحشود المضادة على السُلطة، وتنهي أيضاً حالة الانقسام والكراهية والتكتلات الجهوية والعنصرية، حتى لا يضيع الوطن، لأن المعركة الأن مع شعاراتها اللامعة الخادعة، معركة على عَظم، إذ إن كل شيء يتداعى.

لا الاستبداد نعم للحرية

ومن المهم كذلك إيقاف الاتفاقيات التي تحتاج إلى تفويض شعبي، وبرلمان منتخب، مثل التطبيع مع إسرائيل، أو الدخول في أحلاف إقليمية ودولية وتبني أيديولوجيا سياسية، فضلاً على تكوين مجالس استشارية، تعين الحكومة الجديدة في مهامها الضرورية، ودعوة الأحزاب للتفرغ للبناء التنظيمي وتجهيز نفسها للسباق الديمقراطي، والتوافق على بناء لبنات النظام السياسي الرشيد، والضغط على البرهان لتنفيذ خريطة الطريق التي وعد بها، حتى لا ينفرد بالسلطة، وأن تكون حرية التعبير والممارسة السياسية مكفولة دون تخوين وتقييد.

لا شك أن الأزمة الحالية تحتاج إلى تنازلات من جميع الأطراف وترجيح الوطني على الذاتي، كما أننا بحاجة إلى أن نتصدى لأي نوع من أنواع الاستبداد والشمولية، وهي أزمة نتيجة مباشرة وحتمية لسوء إدارة الدولة، والصراع على الكراسي، والاستقواء بالأجنبي، والخاسر الأكبر في نهاية الأمر هو الوطن، والضحية المواطن، ما يستوجب بالضرورة الحاسمة، العمل بصدق وعزم للخروج من هذا المأزق والامتحان الصعب.

المصدر : الجزيرة مباشر