صلاح عبد الصبور.. عندما تقتلنا الكلمات!

كان عامي الأول بكلية الإعلام جامعة القاهرة هو عام لقائي بالشاعر المجدد الكبير صلاح عبد الصبور رائد الشعر الحر مع العراقية نازك الملائكة والعراقي بدر شاكر الشياب، إذ يعتبر ثلاثتهم من وضعوا أسس وقواعد هذا الشعر الذي نقل الشعر العربي من منطقة إلى أخرى أكثر رحابة وسعة.

في العام الأول لي بدراسة الإعلام قرأت ديوانين للشاعر صلاح عبد الصبور هو ديوانه الأول (الناس في بلادي) وديوان (أحلام الفارس القديم).. لا أتذكر هل نمت ليلتها ولم أكمل الديوان الأول أم قرأت جزءاً من الديوان الثاني، لكن أتذكر جيداً أن قصيدته (شنق زهران) كانت تجربة دراسية لنا في مادة اللغة العربية التي كان يقوم بتدريسها لنا الدكتور محمد أبو الأنوار الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.. ما زلت أتذكر أبياتا منها فقد، كان مقررا علينا تحليل النص الشعري للقصيدة التي يقول فيها عبد الصبور:

صنعوا الموت لأحباب الحياة

وتدلى رأس زهران الوديع

قريتي من يومها لم تأتدم إلا الدموع

قريتي من يومها تأوي إلى الركن الصديع

قريتي من يومها تخشى الحياة

كان زهران صديقا للحياة

مات زهران وعيناه حياة

فلماذا قريتي تخشى الحياة؟

النص الذي يضعنا جميعا في مواجهة بين محبي الحياة الخضرة، الأمل والكلمات التي تزرع الحب وبين هؤلاء الذين يقتلون الحب والحياة والكلمة.

الكلمة هي مفتاح المسرح الشعري الذي نقله صلاح عبد الصبور نقلة أخرى بخمس مسرحيات شعرية انتقلت بمسرح أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير إلى موطن أخر في تاريخ المسرح الشعري العربي.

مسرحيات عبد الصبور الخمس: (مسافر ليل) و(ليلى والمجنون) و(مأساة الحلاج) 1964 (مسافر ليل) 1968و (الأميرة تنتظر) و(ليلى والمجنون)1971 (بعد أن يموت الملك) 1975 مسرحيات صالحة دائما للعرض المسرحي.

عندما تقتلنا الكلمات

هذا هو محور العمل المسرحي الكبير لصلاح عبد الصبور (مأساة الحلاج).. هذا العمل الذي لم يمض عامي الأول في الدراسة حتى كان يقدم على مسرح الطليعة بوسط القاهرة من إخراج الفنان المصري أحمد عبد العزيز، وبطولة الفنان محمود مسعود، ولحسن حظي كان عدة أصدقاء لي يؤدون أدوارا صغيرة بالعرض مما سمح لي أن أحضر العرض عدة مرات.

ومن اللحظات الأولى للعرض نكتشف مأساة الحلاج وكل حلاج في أي زمان ومكان، فالحلاج الباحث عن الحب في العلاقة بين العبد وربه تقتله كلمات الحب الربانية ويقتله الفقراء الذين أفنى حياته من أجلهم:

صَفُّونا.. صفّاً.. صفّاً

الأجهرُ صوتاً والأطول وضعوه في الصَّفِّ الأول

ذو الصوت الخافت والمتواني

وضعوه في الصف الثاني

أعطوا كُلاً منا ديناراً من ذهب قاني برَّاقا لم تلمسه كفٌ من قبل

قالوا: صيحوا.. زنديقٌ كافر

صحنا: زنديقٌ.. كافر

قالوا: صيحوا، فليُقتل أنَّا نحمل دمه في رقبتنا

فليُقتل أنا نحمل دمه في رقبتنا

قالوا: امضوا فمضينا

هؤلاء الفقراء الذين منحوا كل منهم ديناراً من الذهب القاني من أجل أن يقولوا إنه زنديق هو من أفني حياته كي يعلمهم كلمات الحب الإلهي ويجعل عبادتهم لله أساسها الحب وليس الخوف.

فكيف إذا نصفي قلبنا المعتم؟

ليستقبل وجه الله يستجلي جمالاته

نصلي نقرأ القرآن

نقصد بيته ونصوم في رمضان؟

نعم لكن هذى أول الخطوات نحو الله

خطى تصنعها الأبدان

وربي قصده للقلب

ولا يرضى بغير الحب

أما تلاميذ الحلاج فقد تخلوا عنه، لأنهم أحبوا كلماته أكثر من محبتهم له، هم كما يقول عبد الصبور: تركوه يواجه الطغاة وحيداً، فقد كانت أمنيته أن يموت شهيدا للكلمة والحب الإلهي.

أما الشبلي رفيقه وظله وتلميذه النجيب، فقد غمغم بكلمات غامضة غير مفهومة، حين استدعي للشهادة أمام القضاة، وعاش من بعد قتله يحمل عقدة ذنب، تركه يواجه مصيره مصلوبا في وسط المدينة.

الكلمة والموت، هذا العنوان الفرعي لنص (مأساة الحلاج) الصادر عام 1964، هذا الربط في العنوان الفرعي، الذي اختاره عبد الصبور يحسم القضية التي يعاني منها أصحاب الكلمة حين يواجهون الطغاة والديكتاتورية والاستبداد، فما يملك هؤلاء سوى القلم أو الريشة، أما الطغاة يملكون دائما القضاة والسجون، ويصدرون الأوامر للقضاء، ليقول كافرا أو زنديقا ويعلق على أسوار المدن أو يقتل في زنازين مغلقة.

مشهد عصري جداً

أول أمس كان المهندس يحيى حسين عبد الهادي، مدير مركز إعداد القادة السابق، يحاكم بمحكمة أمن الدولة طوارئ، عن مقال نشره منذ عامين بعنوان (هي ثورة وإن أنكرها لص أو رئيس)، والتهمة نشر أخبار كاذبة، وفي كلمة له قال يحيى حسين (سيرحل الرئيس وسنرحل جميعا وستبقى كلمتي كما بقيت كلمة العقاد: “إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه”، فقد رحل الملك فؤاد ورحل العقاد وبقيت كلمة العقاد، وصيتي إذا وافتني المنية أن أدفن بملابس السجن، كي أحاج من ظلمني أمام الله).

 الكلمة والسيف

قضية الحرية والعدل وقيمة الكلمة في مواجهة السيف هي محور المسرحية الشعرية (ليلى والمجنون)، التي قدمها عبد الصبور عام 1971، هنا نقف أمام العلاقة بين بطلي العرض سعيد الصحفي والشاعر، (صلاح عبد الصبور عمل في بداية حياته مدرسا بأحد المعاهد الأزهرية ثم ما لبث أن عمل صحفيا بمجلة روز اليوسف).

سعيد بطل (ليلى والمجنون) صحفي في مجلة يقودها رئيس تحرير، تحت شعار بالكلمة نحقق الحرية والعدل، فيرى عبد الصبور هذا الصراع والتغيير في الواقع.

هل يكون بالكلمة والوعي، أم بالسيف من خلال البطلين سعيد وحسان الذي يرفع شعار أن الكلمة لا تغير من هذا الواقع المرير، لا تنقذ طفلا ولا زوجة من مصير مجهول نتاج الفقر والجهل، وما نبت في الوادي من مظالم، فمن يملك السيف يملك الحكم يظل الصراع.

يحاول الاستاذ رئيس التحرير، الذي يواجه دائما استبداد السلطة أن يجد لهم في الحب سبيلا للنجاة ولكن ما نبت في هذا الواقع ينتج عنه حب مشوه، لا يستطيع مواجه ما عانى منه الابطال..

نتذكر جميعا كلمات من هذا النص الفريد:

في بلد لا يحكم فيه القانون

يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة

لا يوجد مستقبل

في بلد يتمدد فيه الفقر، كما يتمدد ثعبان في الرمل

لا يوجد مستقبل

إن أخطر ما يواجه أي قارئ لشعر ومسرح صلاح عبد الصبور، الزخم الشديد في نصوصه الشعرية والمسرحية، فنحن أمام نص مسرحي، يجبرك على التوقف أمام كل بيت شعري وكل كلمة فيه، فلا تستطيع إلا أن تظل متنبها جدا للكلمات.

أما الميزة الأخرى بمسرح عبد الصبور فهي الديمومة.. نصوص عابرة للتاريخ ولا يوجد نص لم يقدم عدة مرات، وعلى مدار عشرات السنين خلال النصف قرن الماضي، وقد شاهدت منذ ثلاث سنوات عرض (مسافر ليل) 2018 كان يعرض في ساحة دار الأوبرا المصرية إذ صمم مهندس الديكور عربات القطار في وسط حديقة الأوبرا، في محاولة لتقديم هذا النص الفريد لصلاح عبد الصبور، والذي صنفه بعض النقاد بالعبثي، وكنت قد شاهدت العرض في عام 1987 بإحدى قاعات مسرح الطليعة..

حينما يجردك الطاغية من أوراقك تصبح غير موجود، فيقتلك تلك هي فكرة المسرحية، فهذا مسافر في قطار ليلى، خائف مهتز متردد وحيد، لا يملك إلا التصفح في أوراق بالية، تسمى التاريخ، يحمل ورقة عليها عشرة اسماء لحكام طغاة.

في لحظة عبثية، يتحول موظف تذاكر القطار الى أحد هؤلاء الطغاة (الإسكندر الأكبر)، وتبدأ للعبة المسرحية حين يبدأ (كمساري القطار) سلطان، في تجريد الراكب (عبده)، من تذكرة القطار ثم من بطاقته الشخصية، حينها يستطيع (سلطان) أن يتخلص من عبده بسهولة فهو لم يعد موجودا في الأصل بعد أن فقد أوراق هويته.

إن قضية صلاح عبد الصبور التي عاش لها من خلال إبداعه كانت الكلمة التي مات في عام 1981 متأثرا بكلمة ثم الحرية والعدل:

ليس العدل تراثا يتلقاه الأحياء عن الموتى

أو شارة حكم تلحق باسم السلطان إذا ولى الأمر

كعمامته أو سيفه

مات الملك العادل

عاش الملك العادل

العدل مواقف

العدل سؤال أبدى يطرح كل هنيهة

فاذا ألهمت الرد تشكل في كلمات أخرى

وتولد عنه سؤال آخر يبغى ردا

العدل حوار لا يتوقف

المصدر : الجزيرة مباشر