إذلال ماكرون!

French President Macron delivers a speech at the national convention on mental health and psychiatry in Paris
ماكرون

بالفعل تم إذلال الرئيس الفرنسي ماكرون بطريقة جديدة ومبتكرة، ليس من قبل أعدائه التقليديين، بل من قبل أصدقائه المقربين وهم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا.

الإذلال جاء بعد توقيعهم اتفاق “أوكوس” الذي ضمهم في حلف واحد مكرس للدفاع عن مصالحهم في المحيط الهندي والهادي. جاء هذا الإذلال بشكل مباغت ومفاجئ للجميع مما جعل ماكرون مشلولا أمام هول المفاجأة، خاصة وأن فرنسا هي الدولة الأوربية الوحيدة التي لها وجود في هذين المحيطين بالنظر إلى الجزر التي تتبعها وهي ” البولينيز وجزر كالدونيا الجديدة” والتي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، يحملون الجنسية الفرنسية مما يجعل وجود فرنسا في كلا المحيطين ليس تطفلاً إنما وجود مهم لرعاية مصالحها على عكس الولايات المتحدة وبريطانيا التي تريان أهمية وجودهما فقط في إطار الحرب الباردة مع التوسع الصيني.

لهذا ثارت ثائرة ماكرون والفرنسيين عندما قررت أستراليا إلغاء الاتفاق الموقع مع شركة” نافال” الفرنسية في عام 2016 لشراء 12 غواصة فرنسية بقيمة 32 مليار يورو، وقامت باستبدالها في اتفاق جديد مع الولايات المتحدة لشراء 8 غواصات تعمل بالوقود النووي. عندئذ اتهمت فرنسا أمريكا بالغدر، وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إنها طعنة في الظهر، وأمر غير متوقع من الولايات المتحدة كدولة حليفة لفرنسا، فيما وجهت انتقادات إلى المخابرات الفرنسية التي لم تعلم بالتحالف الجديد والترتيبات التي تجري في المنطقة.

تغير مفهوم العداء

لا شك أن هذا التحالف “الأنجلوساكسوني” بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا قد يفهمه البعض على أنه جاء في إطار التغيرات الدولية الجديدة، التي تقوم على أساس المصالح المشتركة بين الدول بغض النظر عن الروابط البشرية، والعواطف والانفعالات الإنسانية. فلا مكان في عالم اليوم إلى صداقة دائمة، ولا إلى تضحيات من دون ثمن، فكل شيء عند الدول الكبيرة هو المصلحة الخالصة.

تغير مفهوم العداء في الماضي ولم تعد روسيا العدو التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، إنما أصبحت الصين وتمددها الخارجي هو الخطر القادم لتهديد الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي، أما بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوربي فهي تعود اليوم للبحث عن دور جديد في فرض الهيمنة وإثبات الذات ليصبح لها صوتاً وتأثيراً في الملفات الدولية العالمية، ولن يكون ذلك بالطبع بمعزل عن التحالف مع قوة الولايات المتحدة الأمريكية.

قد يكون عدم التفاهم الأمريكي الفرنسي في تحديد الأولويات الجدية في تصنيف الأعداء هو مربط الفرس في هذه العلاقة الملتبسة، ففي الوقت الذي ترى فيه أمريكا عدوها الأول هو الصين وهو ما بادر به ترمب في عهده من دون مواربة عندما قال إن الصين هي الخطر الذي يتهدد أمريكا، لكن أوربا لم تتفق مع هذا الاتجاه وظلت منقسمة حول تحديد من هو عدوها الذي يهدد مصالحها؟ فدول أوربا الشرقية لا سّيما دول البلطيق وبولندا وأوكرانيا وحتى ألمانيا تري أن الخطر قادم من روسيا، في حين تركت فرنسا كل ذلك وراحت تؤكد على أن الخطر القادم هو تركي، وشجع على ذلك فئة الليبراليين وأعضاء اليمين المتطرف وكل المتورطين في ظاهرة الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين، في وقت اختلفت إيطاليا وإسبانيا مع فرنسا لأنها ترى أن الشراكة مع تركيا هي أفضل من غيرها.

ليس بالسياسي الداهية

فاقم من كل هذه المشكلات أن ماكرون لم يكن بالسياسي الداهية إذ وصف مراقبون سياسته الخارجية بالتخبط والارتجالية، ولم يكن قادرعلى تركيز وجوده في المحيطين الهندي والهادي على غرار الولايات المتحدة، بل راح يهتم ببيع الأسلحة ومحاربة التطرف الإسلامي من وجهة نظره وهو الذي وعد بحرب لا هوادة فيها عليه، ثم راح يعزز التعاون مع الديكتاتوريات الأفريقية المعروفة متجاهلا ملف حقوق الإنسان في تلك الدول، بل تورط في بيع الأسلحة لها رغم أنه يعرف أنها ستستخدم في التنكيل بالمعارضين وقمع الشعوب وهو أحد الأسباب التي تكمن وراء أزمة اللاجئين في أوربا.

داخليا لم يكن ماكرون ناجحا في حل مشكلات الداخل فقد اتهم بقمع أصحاب السترات الصفراء الذين كانوا يحتجون على سياساته المساندة لمصالح طبقة الأغنياء على حساب الطبقة العريضة من الشعب ضاربا بعرض الحائط الأسس الديمقراطية التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية. كما لم ينجح أيضا في معالجة أزمة الكورونا، فقد أصر على بقاء القطاعات الاقتصادية مفتوحة رغم نصيحة وزيرة الصحة مما زاد غضب الشعب الفرنسي منه ليعود ويعلق بغطرسته المعهودة “كنا محقين.. لن اعترف بالذنب ولن أندم.. كما لا أشعر بالفشل!

مشكلة الرئيس الفرنسي تكمن في أنه أراد تقمص دور إمبراطور فرنسي يعيش أوهام الإمبراطورية الفرنسية القديمة، فجعل كل اهتمامه منصباً في إعادة الوصايا الاستعمارية فتصدى لتركيا وتدخل في مالي وليبيا ولبنان وسوريا ولم يهتم بحقوق الإنسان في العالم ووقف في وجه المتطلعين للحرية حتى اتهم بأنه جزء من محور الثورة المضادة للربيع العربي.

كل تلك الإخفاقات ستجعل موقفه صعباً للغاية في الانتخابات القادمة، وليس أمامه إلا أن يعود ويبحث عن تحالفات أوربية جديدة تعيد له الثقة،  وتحسن من وضعه أمام الناخب الفرنسي، لكن كل ذلك غير مضمون لأنه يتناقض مع حقائق الجغرافيا الأوربية التي تجعل أولويات باريس غير أولويات برلين وأغلب عواصم أوربا.

المصدر : الجزيرة مباشر