الأحكام الفقهية للأمراض النفسية

اهتم التشريع الإسلامي بحالة الإنسان النفسية والعقلية، من حيث الصحة والمرض، فبناء على تشخيص حالته يتبين حاله مع التشريع، فإن كان صحيحا وجب عليه من حيث الالتزامات الشرعية، وإن كان في حالة تمنعه من أداء هذا الواجب، تغير الحكم الشرعي لحكم آخر، بحسب حالته الصحية، وكذلك حالة المرض، فبحسب الحالة التي يكون عليها المريض يكون حكمه.

وقد ورد في التشريع الإسلامي أحكام للمريض، وشرعنا الحنيف لم يترك حالة مرضية دون بيان وضعها الفقهي، سواء نص على ذلك، أم ترك حالات مثيلة لها يمكن للفقيه أن يقيس عليها، ويبني عليها فتواه الصحيحة، التي تستند على أدلة معتبرة في الشرع.

وكثير من أحكام المرض تناولها الفقهاء في كتبهم الفقهية والفتاوى، إلا أن بعض الجوانب النفسية والعقلية لم تتناولها الكتب بالتفصيل، ليس لتقصير في هذه الكتب، بل لأن معظم هذه الأمراض اكتشف مؤخرا، ولذا كانت المكتبة الفقهية شحيحة في هذا الجانب، وقليل منها ما تناولها بالتفصيل، وقد خرجت دراسة فقهية نشرت منذ بضع سنوات، بعنوان: الأحكام الفقهية للأمراض النفسية.. وطرق علاجها، للدكتور. أنس بن عوف عباس بن عوف، وهي رسالة ماجستير حصل عليها من جامعة أم درمان بالسودان، وقامت وزارة الأوقاف القطرية مشكورة بنشرها من مشروع الوقف.

أحكام الأدوية

بالطبع سبق هذا الكتاب كتب أخرى تناولت أحكام المرض والمريض، وقد أشار الكاتب في مقدمته إلى كتاب سبقه في هذا المجال، وهو: أحكام الأدوية في الشريعة الإسلامية للدكتور حسن أحمد حسن الفكي، وهو أيضا رسالة دكتوراه، ولكن هناك كتابات أخرى سبقت وتكلمت عن الأحكام الفقهية للمريض، إلا أن الجانب النفسي والعصبي والعقلي كان قليلا.

لكن يذكر هنا بالفضل والسبق لسلسلة كتب بدأت في الثمانينيات من القرن الماضي، وقد اطعلت عليها في المرحلة الثانوية الأزهرية، وقد قام بكتابتها مجموعة من الأطباء والمشايخ: د. توفيق الواعي، د. أحمد أبو الفضل، د. أحمد رجائي الجندي، وصدرت تحت عنوان: المرشد الإسلامي في الفقه الطبي، وقد صدر منه أجزاء، لم أقرأ منها سوى الجزء الأول: الجهاز الهضمي، ورأيت الجزء الثاني عن الجهاز الدوري، ولا علم لي هل صدرت أجزاء عن الجهاز العصبي أم لا؟ ولكن في الجزئين الأولين وردت أحكام عن الأمراض العصبية التي تتعلق ببعض أجهزة في الجهاز الهضمي، كالقولون وغيره.

لكن كتاب: (الأحكام الفقهية للأمراض النفسية)، يعد الأكثر تخصصا وتناولا، ولذا قمت بتناوله في هذا المقال المختصر، وبالطبع لن نستطيع أن نتناول كل ما في الكتاب، ولا تلخيصه تلخيصا وافيا، حيث إن التناول الطبي وحده للأمراض النفسية مطول، وفيه تفصيلات كثيرة، وما يعنينا هنا هو التناول الفقهي للأمراض، وحكمها، وحكم علاجها، حيث إن العلاج النفسي يختلف في طبيعته عن العلاج العضوي في كثير من الأحيان.

فقد بين الكاتب أن المرض النفسي لا يحدث نتيجة لسبب واحد، وإنما لاجتماع عدة عوامل، منها ما قد يكون وراثيا، أو عضويا، أو نفسيا، أو اجتماعيا، يتسبب ذلك في حدوث تغيرات عضوية ووظيفية معينة في الجهاز العصبي، ينتج عنها ظهور المرض النفسي، وهي كثيرة ومتنوعة، ومتفاوتة ومختلفة من حيث الشدة والتأثير على الإنسان، ولذلك تختلف أحكامها الفقهية تبعا لذلك.

وفصل الحديث في أثر الأمراض النفسية في التكليف الشرعي، لأن كثيرا من الأمراض النفسية تؤثر على العقل، وكثيرا ما تفصله عن الواقع، ويصبح معزولا عنه حسب درجة المرض، وهو ما يطلق عليه طبيا: الأمراض الذهانية، ولذا يأخذ كثير من هذه الأمراض حكم غياب العقل في الفقه الإسلامي، وقد تناول الكاتب من هذه الأمراض: الفصام، والهوس، والاكتئاب، والخرف، والهذيان، والصرع، والوسواس القهري، والرهاب.

الأحكام

أما عن أحكام أصحاب هذه الأمراض فقها، فإنه انتهى إلى أن مريض الفصام يمكن أن تطبق عليه أحكام الجنون في الشريعة الإسلامية وذلك حسب تقسيم الفقهاء للجنون إلى أقسام، كما يلي:

1ـ مريض الفصام الذي تظهر عليه الأعراض بصورتها الكاملة والكافية لتشخيص المرض ولم يخضع للعلاج، فهذا يمكن تصنيفه ضمن الجنون المطبق، وهو الجنون الملازم المستمر، ويأخذ أحكامه في العبادات والمعاملات والجنايات.

2ـ مريض الفصام الذي خضع للعلاج، وتحسنت حالته ولكن بقيت بعض  الأعراض الذهانية، فهذا يمكن تصنيفه ضمن الجنون الجزئي، ومثله المريض الذي يعاني بعض الأعراض الذهانية التي لم تصل إلى درجة تشخيصه بمرض الفصام.

3ـ مريض الفصام الذي يخضع للعلاج وتحسنت حالته حتى زالت الأعراض الذهانية ولكنه لم يكن منتظما في تناول الدواء مثلا – كما يحدث كيرا – فعادت إليه الأعراض، أو حدثت الانتكاسة لأي سبب آخر، فهذا يمكن إلحاقه بالجنون والمتقطع فيأخذ أحكامه الفقهية.

وبين الكاتب أن مريض الاكتئاب النفسي لا يمكن اعتباره كالجنون، ولا تطبيق الأحكام الفقهية للمجنون عليه، إلا في حالة الاكتئاب الشديد المصحوب بأعراض ذهانية كالضلالات والهلاوس، ففيها يظهر أثر المرض على التفكير بصورة واضحة، ويحدث اختلال للعقل قريب الشبه بما يحدث في مرض الفصام، فعند ذلك يمكن أن يعطى أحكام الجنون في العبادات والمعاملات والحدود والجنايات.

الهوس والخرف

أما الحالات الشديدة من مرض الهوس والمصحوبة بالأعراض الذهانية يمكن اعتبارها كالمجنون من حيث التكليف الشرعي وانطباق الأحكام الفقهية في العبادات والمعاملات والحدود، لما حديث فيه من اختلال للعقل، واضطرات في التفكير والسولك، وفي هذه الحالة تنطبق على المرض أحكام الجنون المتقطع الذي يفيق منه صاحبه ثم يعود إليه مرة أخرى، وهذا هو الحال مع مرض الهوس إذ يحدث على شكل نوبات. أما حالات مرض الهوس الأقل شدة والتي لا تصاحبها أعراض ذهانية، فقد يكون لها أثرها في تخفيف المسؤولية عن المريض، كما هو الحال في المعتوه، أو ضعيف العقل.

أما المريض بالخَرَف، فإن كان من الخرف الشديد فهذا بلا شك مرفوع عنه التكليف، أما من كان في بدايات المرض، فيكون مصابا بالخرف وينتهي، ويعود، فيكون حسب حالته، عندما يتواجد المرض يأخذ حكمه، وفي فترة زواله يأخذ حكم الصحيح.

أما الهذيان فاعتبرها الكاتب أقرب دخولا في باب الإغماء في الفقه الإسلامي، وينطبق عليها أحكامه، من حيث انتقاض الوضوء وقضاء الصلاة، وأنه لا عبرة في تصرفاته في ماله، ولا يصح شيء من العقود إن أبرمه وهو على تلك الحال، وأنه تسقط عنه المؤاخذة بالنسبة لحقوق الله تعالى. ونفس الحال ينطبق على أحكام الصرع، حال وجوده وحدوثه.

ولعلاج الأمراض النفسية هناك عدة أدوية تستخدم، منها ما يتناول كشراب وغيره، ومنها ما ليس بدواء مادي، بل معنوي أو نفسي، فمن النوع الأول: مضادات الذهان، ومضادات الاكتئاب، ومثبتات المزاج، ومضادات القلق، وغيرها من الأدوية التي تدخل في باب العلاج المادي، وذكر الكاتب خلاف الفقهاء في حكم التداوي، ذاكرا رأي كل اتجاه ودليله الشرعي، وانتهى إلى مشروعيته.

لكنه عند حديثه عن العلاج غير الدوائي، فأجاز استعمال العلاج بالكهرباء، ما دامت وفق إرشادات الطبيب المختص، وأن معظم طرق العلاج النفسي من حيث العموم لا بأس بها، بل قد تكون مطلوبة شرعا، عند تحقق المصلحة منها، شريطة: اجتناب ما يدخل فيه من جزئيات مخالفة للشرع، كالاختلاط ونحوه، ولذا أجاز التنويم المغناطيسي، إذا حقق مصلحة للمريض.

لكن الكاتب شدد في أمر العلاج بالموسيقى، بل مال إلى تحريمه، ولا أتفق معه في هذا الميل للتحريم، حتى لو كان من المقتنعين بالرأي الذي يحرمها بالأساس، فهناك فقهاء معتبرون أجازوها، وجعلوا الأصل فيها الحل، ما لم تشتمل على محرم، وعلى القول الذي يحرمها، فإنها هنا تدخل في باب الضرورة، وهو علاج المريض، وهو ما أثبتته حالات كثيرة في نجعان هذا العلاج معها.

الكتاب بلا شك تناول الأمراض النفسية بشكل علمي دقيق، وذلك لأن الكاتب بالأساس طبيب مختص في الطب النفسي، ولذا برز ذلك في حديثه عن المرض وأنواعه، وجمع مع هذا الاختصاص دراسة الشريعة بعد الطب، ولذا كان جهده في التناول الطبي أقوى من التناول الفقهي، ليس تقليلا من قيمة العمل ولا الجهد، ولكن من باب النظر والمقارنة بين التخصصين لدى الكاتب، وعلى كل، فالكتاب مهم في بابه، وفي جهده، وتناوله.

المصدر : الجزيرة مباشر