لا رجم في القرآن

مصطفى الزلمي
مصطفى الزلمي

هذا عنوان كتاب صغير الحجم، لكنه مركز في كتابته، للدكتور مصطفى الزلمي، وهو أحد علماء العراق الذين جمعوا بين دراسة الفقه الإسلامي، والقانون، كما برز تعمقه في أصول الفقه الإسلامي، وكتب في هذه المجالات عدة كتب مهمة، ومنها كتابه: لا رجم في القرآن.

تفرد الزلمي

وموضوع الكتاب عن حد الرجم، والنقاش الدائر حوله، وقد ناقش الموضوع عدد من العلماء المعاصرين، واختلفت آراؤهم فيه، فغالبهم يرى أنه حد من الحدود التي يجب أن يطبق، وفريق منهم يرى أنه تعزير فقط، متروك أمره للحاكم أو القضاء، إن شاء طبقه، وإن شاء ألغاه، وفريق يرى أنه منسوخ ولا وجود له حاليا، ويكتفى فقط بما ورد في القرآن الكريم من عقوبة، وهي الجلد سواء للمحصن (المتزوج)، أم غير المحصن (غير المتزوج).

ومن هؤلاء الذين رفضوا الرجم: مصطفى الزلمي، في كتابه: (لا رجم في القرآن)، ولأن معظم كلام من يرفضونه يعتمد على أدلة متقاربة من بعضها غالبا، إلا أن الزلمي تفرد عن سابقيه في الموضوع بالتأصيل لرفض الرجم، من باب تخصصه: وهو الفقه والأصول والقواعد، فبين ما يلي:

1ـ العقوبة الواردة في القرآن عقوبة للزناة، هي: الحبس والإيذاء، ثم الجلد مائة للمحصن وغير المحصن، وهذا هو ما يعتمد.

2ـ ناقش ما سمي بآية الرجم، وفندها، بل سماها: أكذوبة (الشيخ والشيخة).

3ـ اعتبر حوادث الرجم المروية في السنة، اجتهادا منه صلى الله عليه وسلم، لم يقره القرآن عليه، كما اجتهد في أمر أسرى بدر. ونزل القرآن يصحح الاجتهاد في الرجم بالنص على عقوبة الجلد في سورة النور.

4ـ أصل لرفض الرجم بمبحث مهم تحت عنوان: (الرجم والقواعد العامة) استدل على رفضه للرجم، بقواعد أصولية، وفقهية، ومنطقية، وفلسفية، وعقلية، وهي كما تلي:

أولاً: القواعد الأصولية:

من القواعد الأصولية الثابتة المتفق عليها:

أ ـ أن كل عقوبة من عقوبات جرائم الحدود السبع، لا تتأثر لا بالظروف المشددة ولا بالظروف المخففة، ومن الواضح أن جريمة الزنا من جرائم الحدود، وأن عقوبتها محددة بمائة جلدة، كما في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور: 2.

وهذا النص القرآني حدد عقوبة الزنا بـ (100 جلدة) فلا يحق للقاضي أن يطبق أكثر من هذا العدد بالنسبة لإنسان متمكن من الزواج بواحدة، أو أكثر، ماليا وبدنيا، كما لا يحق له أن يخفف العقوبة إلى (90 جلدة) مثلا بالنسبة لشخص فقير غير متمكن ماليا لتوفير مستلزمات ومتطلبات الزواج، مما قد يؤدي به إلى الوقوع في خطيئة الزنا، فالعقوبة المنصوص عليها لا تتأثر بالظرف المشدد كما في الحالة الأولى، ولا بالظرف المخفف كما في الحالة الثانية.

ب ـ وكذلك كون الزاني متزوجا وكون الزانية متزوجة، يعتبر ظرفا مشددا وهذا الظرف لا يحول عقوبة الجلد إلى عقوبة الرجم بموجب القاعدة الأصولية المذكورة المتفق عليها.

ج ـ ومن القواعد الأصولية الثابتة المتفق عليها، أنه إذا تعارض نص القرآن الكريم مع الحديث النبوي في موضوع معين، ولم يمكن الجمع بينهما، كتخصيص العام بالخاص وتقييد المطلق بالمقيد، يقدم العمل بالقرآن على العمل بالحديث النبوي، ولو كان متواترا، لأن القرآن وحي إلهي ثابت بالتواتر، بخلاف الحديث النبوي الذي ليس وحيا على الرأي الراجح عند علماء المسلمين.

ثانياً: القاعدة الفقهية (لا ينسب إلى الساكت قول):

وهذه القاعدة من إبداع سيدنا الشافعي (رحمة الله عليه)، وهي تدل دلالة واضحة على أن سكوت القرآن الكريم عن بيان حكم الرجم لا يدل على قوله بمشروعية الرجم، وعلى هذه القاعدة استثناءات، منها قاعدة: سكوت البنت في الاستئذان بالزواج يُعتبر قولا وموافقة على هذا الزواج، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك. وذلك بموجب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الأيم تُستأمر والبكر تُستأذن، وصماتها إذنها”.

وبناءً على القاعدة المذكورة للإمام الشافعي، يدل سكوت القرآن عن حكم الرجم على عدم مشروعية عقوبة الرجم.

وأما أكذوبة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، فإنما هي عرف جاهلي متأثر بالتعاليم اليهودية، كما يؤكد الزلمي في بحثه.

ثالثاً: القاعدة المنطقية:

القاعدة التي تقضي بأن المباني والمعاني، أمران متلازمان لزوما بيّنا بالمعنى الأخص، أي تصور أحدهما في الذهن أو وجوده خارج الذهن يستلزم تصور الآخر، أو وجوده والجزم باللزوم، فبناءً على ذلك فإن القول بنسخ التلاوة في القرآن وبقاء الحكم، كما زعموا ذلك في أكذوبة (الشيخ والشيخة)، أمر يرفضه العقل السليم والمنطق، وخطأٌ وقع فيه بعض من السلف وقلدهم الخلف تقليدا أعمى، دون التعمق في الموضوع، حتى أصبح خطأ مجمعا على صحته. وهذا الخطأ من السلف كان مبنيا على إطلاق السلف الصالح تعبير النسخ على تخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل والتدرج والرخصة.

رابعاً: القاعدة الفلسفية:

وهي حكمة الحكم وغايته والمصلحة المتوخاة منه، التي بنى عليها علماء أصول الفقه بالإجماع قاعدة: (الحكم يدور مع علته وجودا وعدما)، أي إذا تخلفت الحمة يتخلف الحكم، وإذا تحققت يتحقق الحكم.

فهذه القاعدة ترفض القول بأن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، كانت آية في سورة (الأحزاب)، فألغيت تلاوتها واحتفظ بحكمها. فما هي الحكمة والفلسفة في هذا الصنيع الذي يأباه عدل الله وحكمته سبحانه وتعالى؟ ثم ما هي حكمة بقاء تلاوة وحكم قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، وإلغاء تلاوة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، مع أن خطورة الرجم على حياة الفرد والمجتمع أضعاف مضاعفة خطورة الجلد. فهل يتصور العقل السليم أن يُقر سبحانه وتعالى مثل هذا العبث الذي يرفضه عقل الإنسان السليم.

خامساً: القاعدة العقلية: (قاعدة الشك يفسر لصالح المتهم):

وقد اختلف المفسرون ورجال الحديث في أسبقية قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم بعدد قليل من الأفراد، على نزول آية الجلد: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، أو أسبقية هذه الآية على قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى الإمام البخاري نفسه سأل هذا السؤال. وهذا الشك في أسبقية الآية على القضاء، أو القضاء على الآية، يُفسر لصالح الزاني المحصن، والزانية المحصنة، وتُعد آية الجلد متأخرة عن قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك تُعد الآية ناسخة لقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم.

جهد وتفكير

الكتاب بوجه عام فيه جهد علمي وفقهي، سواء اتفقت أو اختلفت معه، لكنها أدلة وبحث ينم عن جهد وتفكير في الموضوع، وهو ما نلاحظه في معظم البحوث التي تناولها العلماء المعاصرون في قضية الحدود في الإسلام، سواء عن: الردة، أو الرجم، أو السرقة، فكلها تدل على اجتهاد فقهي مستمر من الفقهاء المعاصرين، يحاول كل عالم منهم أن يناقش الموضوع بعيدا عن الانحياز لرأي دون النظر الفقهي فيه.

وكان الزلمي موفقا في اختيار عنوان الكتاب: (لا رجم في القرآن)، وإن كانت نتيجته غير العنوان، فالعنوان ينفي وجود الرجم في القرآن، وهو ما لا يختلف عليه أحد، سواء من قالوا بالرجم، أو من رفضوه، ولكن الزلمي في البحث نفى الرجم تماما أن يكون حدا مقررا في التشريع الإسلامي، بل هو تشريع كان لزمن وانتهى ونسخ.

المصدر : الجزيرة مباشر