إعلانّ الشّيخ أسامة الرّفاعي مفتيًا لسوريا؛ الدّلالات والمسؤوليّات

قصة الصراع على مؤسسة الافتاء السورية من جمال عبد الناصر إلى بشار الأسد

الشيخ الرفاعي مفتي سوريا

لم تمرّ أربعة أيّامٍ على إصدار رأس النّظام السّوري بشّار الأسد المرسوم التشريعي رقم 28 بتاريخ 15 / 11 / 2021م والذي يقضي بإلغاء منصب الإفتاء في سوريا وإسناد مهمة الإفتاء إلى المجلس العلمي الفقهي متعدّد الهويّات والانتماءات المذهبيّة والطائفيّة؛ حتّى اجتمع المجلس الإسلاميّ السّوريّ في إسطنبول وهو أكبر تجمّع علمائيّ سوريّ معارض وأعلن انتخاب الشّيخ أسامة الرّفاعي مفتيًا عامًّا للجمهوريّة العربيّة السّوريّة.

 الصّراع على المؤسّسة الدينيّة منذ الاستقلال إلى اليوم

إنّ الصّراع على المؤسّسة الدّينيّة في سوريا منذ الاستقلال إلى اليوم لم يتوقّف، وقد كان مقام الإفتاء في عين العاصفة على الدّوام، فمن أمثلة ذلك ما جرى مع مفتي سوريا الشّيخ الطّبيب أبو اليسر عابدين الذي دخل في مواجهةٍ حادّة مع جمال عبد النّاصر عام 1961م عقب صدور قانون التأميم في العشرين من شهر تموز “يوليو” من تلكم السّنة، إذ طلب عبد النّاصر من الشّيخ أبو اليسر عابدين إصدارَ فتوى يشرّع فيها قانون التّأميم، فرفض المفتي ذلك بشدّة، فأقاله عبد النّاصر من منصب الإفتاء العام، ليقع الانفصال بعد ذلك بين سوريا ومصر في الثّامن والعشرين من أيلول “سبتمبر” من عام 1961م، وبعد شهرٍ واحدٍ أي في الثّامن والعشرين من شهر تشرين الأول “أكتوبر” صدر مرسوم ممّن قاموا بالانفصال بإعادة الشّيخ أبو اليسر عابدين إلى منصب الإفتاء في محاولةٍ لردّ الاعتبار له والردّ على سلوك جمال عبد النّاصر.

ومع قيام البعث بانقلابه التاريخيّ في الثّامن من آذار “مارس” عام 1963م الذي نقل سوريا إلى مرحلة جديدة ما تزال ماكثةً فيها حتّى يومنا هذا تمّت إحالة المفتي أبو اليسر عابدين إلى التّقاعد بعد عشرين يومًا من الانقلاب، في ردٍّ على الذين قاموا بتعيينه مجدّدًا في مقام الإفتاءـ، وتمّ الإعلان عن التّحضير لإجراء انتخاباتٍ على منصب المفتي العام في الرّابع من شهر تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 1964م، وتمّ تعيين الشّيخ عبد الرّزاق الحمصي مفتيًا عامًّا بالوكالة في الأوّل من نسيان “أبريل” لتسيير الفترة الانتقاليّة التمهيديّة للانتخابات العامّة.

عقب الإعلان عن موعد انتخابات المفتي العام في سوريا بدأ الصّراع السياسيّ على المؤسّسة الدينيّة بين حزب البعث ورابطة علماء الشّام، فكان حزب البعث داعمًا في الانتخابات للشّيخ أحمد كفتارو؛ مفتي دمشق وشيخ الطريقة النّقشبنديّة آنذاك، بينما دعمت رابطة علماء الشّام الشّيخ حسن حبنّكة الميداني، شيخ الميدان المشهور بموقفه الحادّ من حزب البعث.

كان الذين يحقّ لهم الإدلاء بأصواتهم واختيار واحد من المرشّحَين في هذه الانتخابات هم المفتون في المحافظات في الجمهوريّة السورية والقضاة الشرعيّون وأعضاء مجلس الإفتاء الأعلى ونقيب الأشراف لا غير؛ ونقيبُ الأشراف منصب مستمر من عهد الدّولة العثمانيّة يتقلّده أشهر المنسوبين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وكان نقيب الأشراف حينها الشّيخ سعيد حمزاوي الذي تمّ تعيينه بمرسوم من الرّئيس تاج الدّين الحسني في الثّاني والعشرين من شهر آب “أغسطس” من عام 1942م وهو آخر نقيب للأشراف في سوريا؛ إذ تمّ إلغاء هذا المنصب بمرسوم رئاسيّ أصدره نور الدّين الأتاسي في السابع من نيسان “إبريل” من عام 1970م.

وفي يوم الانتخابات كانت النتائج لصالح الشّيخ أحمد كفتارو بفارق صوتٍ واحد إذ حصل على ثمانية عشر صوتًا في حين حصل الشّيخ حسن حبنّكة على سبعة عشر صوتًا.

كانت هذه آخر انتخاباتٍ لمنصب المفتي تجري في سوريا، فبعد وفاة الشّيخ كفتارو في أيلول “سبتمبر” عام 2004م بقي منصب المفتي العام شاغرًا لأكثر من سنة إلى أن أصدر بشّار الأسد في منتصف تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 2005م مرسومًا يقضي بتعيين أحمد بدر الدّين حسّون مفتيًا عامًا لسوريا وقد كان من أشدّ المنافحين عن بشّار الأسد المبررين له جرائمه ومجازره، وقد دخل في حالة من التهميش الملحوظ منذ عام 2018م مع تأسيس المجلس الفقهي العلمي، إلى أن أعلن بشّار الأسد قبل أيام  المرسوم التشريعي رقم 28 بتاريخ 15 / 11 / 2021م والذي يقضي بإلغاء منصب الإفتاء في سوريا وتوسيع مهام وأعضاء إلى المجلس العلمي الفقهي، وإسناد مهمة الإفتاء له، والمجلس العلمي الفقهي يضمّ مرجعيّات فقهيّة ودينيّة من طوائف ومذاهب مختلفة فهو خليط من مشايخ السنّة ومشايخ الشيعة الإماميّة ومشايخ العقل الدروز ومشايخ العلويين النّصيريين ومشايخ الطّائفة الإسماعيليّة.

في المراحل المختلفة من الصراع على المؤسّسة الدّينيّة منذ استقلال سوريا إلى اليوم نلحظ أنّه كان صراعًا سياسيًا بلبوس دينيّ، فهو يستهدف المؤسسة الدّينيّة بغية تحويلها إلى أداة سياسيّة.

وفي مرحلة ما بعد عام 2000م أي بعد مرحلة استلام بشّار الأسد السلطة سعى حثيثًا إلى تأميم المؤسّسة الدينيّة لصالح التفرّد بمرجعيّات الدولة كلّها بما فيها الشرعيّة.

وقد جاء المرسوم الأخير الذي ألغى فيه بين بشّار الأسد منصب الإفتاء تتويجًا لجهوده التراكميّة في تأميم المؤسسة الدينيّة لصالح علمانيّة الدّولة ظاهريًّا وتفرّده في الهيمنة على وجه الحقيقة.

هذا التفرّد ارتكز على محو رمزيّة مرجعيّة المذهب السنّي للدّولة السّوريّة، هذا المحو الهوياتي ستكون إيران هي المستفيد الأكبر منه كونها دولة لها مشروع وتسندها قوّة، سواء أراد بشّار الأسد ذلك أم لم يرده.

مبادرة ذكيّة سياسيًّا ورمزيًّا

بعد أربعة أيّام من مرسوم بشّار الأسد اجتمع المجلس الإسلاميّ السّوريّ وأعلن عن انتخاب الشّيخ أسامة عبد الكريم الرّفاعي مفتيًا عامًا للجمهوريّة العربيّة السّوريّة، ويُحسب للمجلس الإسلاميّ السّوريّ أنّه التقط المبادرة بذكاء سياسيّ إذ إنّ فراغ منصب الإفتاء العام في سوريا هو فرصة لكسب جولة سياسيّة في المعركة المستمرة بين النظام السّوريّ والمؤسسة الدّينيّة.

وإنّ انتخاب الشّيخ أسامة الرّفاعي مفتيًا عامًا لسوريا كان خيارًا موفقًا فالشّيخ يحمل مؤهلاتٍ كثيرة لتحقيق الالتفاف المرجعيّ حوله، بما يملكه من كاريزما وحضور، ومكانة في الوسط العلمي الشرعي والبيئة المجتمعيّة، وعلم راسخ ورمزيّة حاضرة لا تحتاج إلى أن تُبنى من جديد، وتاريخ عريق في المؤسسة الدينيّة.

كما أنّ ترسيخ فكرة الانتخاب في اختيار المفتي خطوة جيّدة من المجلس الإسلامي السوري لترسيخ معنى المرجعيّة المستقلّة عن التحكّم السّياسي في الفتوى، وهي خطوة ستحظى بدعم عموم أبناء المؤسسة الدينيّة في سوريا حتّى أولئك الذين يعلنون ولاءهم للنظام ولا يجرؤون على الإعلان عن مواقفهم، فلطالما سمعناهم في سنين خلت يتباكون على منصب الإفتاء الذي تحوّل من الانتخاب إلى التّعيين.

ومن الجدير ذكره أنّ هذا الإعلان عن انتخاب الشّيخ أسامة الرّفاعي عنوانه سوريا كلها، فما تمّ انتخابه اليوم هو المفتي العام للجمهوريّة العربيّة السّوريّة وليس مفتي الثّورة السّوريّة أو مفتي المعارضة، وهذه نقطة لها أهميّتها ومسؤوليتها معًا، وهي نقطة مفصليّة في الانطلاق في طريق الحشد للمرجعيّة الإفتائيّة الجديدة.

إنّ نجاح هذه الخطوة سيعني أنّ المؤسسة الدّينيّة غدت قادرة على التأثير العابر للحدود ولن تعود خاضعةً لقهر الجغرافيا التي تجمعها من الأنظمة المستبدّة، كما أنّه سيكرّس فكرة ضرورة استقلال الإفتاء عن التبعيّة السياسيّة أو الخضوع للإملاءات أو الإيماءات السلطويّة.

من ردّ الفعل إلى الفاعليّة ومن الخطوة الرّمزيّة إلى التأثير المرجعيّ

لا ضير أن تكون الخطوة في بدايتها ردّ فعلٍ على قرار النظام السّوريّ وسلوكه العدائيّ تجاه مقام الإفتاء واستهداف رمزيّة المذهب السني للدولة بالمحو، ولا مشكلة في أن تكون الخطوة رمزيّة في مبتداها.

لكن تكمن المشكلة في أن يظنّ المجلس الإسلاميّ السّوريّ أنّها نهاية المطاف، وأنّه أدّى ما عليه فيبقى الأمر حبيس الانفعال والرمزيّة.

إنّ أهم ما يجب على المجلس الإسلاميّ السّوريّ هو أن يعتبر هذا الإعلان نقطة البداية والانطلاق، ويعمد إلى وضع خطط محكمة للانتقال من خانة ردّ الفعل إلى دائرة الفاعليّة، وللتحوّل من القرار الرّمزيّ إلى تحقيق التّأثير المرجعيّ.

إنّ انتخاب الشّيخ أسامة الرّفاعي لا ينبغي أن يُفهم على أنّه انتخاب لمفتٍ يمارس المهام النّمطيّة المعتادة للمفتي من استقبال الأسئلة والإجابة عنها، بل لا بدّ أن يكون واضحًا أنّ هذا الانتخاب هو محاولةٌ لسدّ الفراغ الذي مارسه النّظام للمؤسّسة العلمائيّة وللمرجعيّة الفقهيّة والدّعويّة على مدار عقود.

وهذا يتطلب من المفتي العام للجمهوريّة العربيّة السوريّة أن يكون حاضرًا بشكلٍ واضحٍ في المشهد السّوريّ من خلال إطلالات إعلاميّة دوريّة مدروسة يقدّم فيها رسائل مختصرة جدًّا تعبّر عن موقف الإفتاء العام من القضايا المؤرّقة للسّوريين، وما أكثر هذه القضايا اليوم، فمن الضروري أن يشعر السّوريّون أنّ مقام الإفتاء يتحسّس مشكلاتهم ويعيش همومهم سواء كانوا في مناطق الثّورة أو مناطق النّظام أو المخيمات أو مواطن اللجوء المختلفة.

وهذا يتطلّب أن يكون للمفتي العام للجمهوريّة السوريّة مستشارين التخصصات السياسيّة والإعلاميّة من السّوريين وغيرهم حتّى تكون المخرجات الإعلاميّة أكثر فاعليّة وتأثيرًا.

من الضّرورة بمكان أن يكون مقام الإفتاء بعيدًا عن المعارك الفكريّة البينيّة التي تؤدّي إلى الاستقطابات الحادّة داخل المجتمع السّوري، وضرورة تكريس الخطاب الجامع الذي يجعل من مقام الإفتاء صمّام أمان للسّلام المجتمعي، فالمفتي المنتخب هو لسوريا كلّها؛ ولا بدّ أن يكون خطابه لعموم الشّعب السّوريّ من التوجهات كافّة من الثوريين والمعارضين والرماديين والصّامتين والموالين، ومخاطبًا لكلّ أطياف المجتمع السّوريّ من عرقيّات وطوائف ومذاهب بوصفهم مواطنين سوريّين، أي تعزيز الخطاب الشرعيّ الوطنيّ.

إنّ انتخاب الشّيخ أسامة الرّفاعي مفتيًا عامًا للجمهوريّة العربيّة السّوريّة خطوة مهمّة، وتحتاج إلى بذل جهدٍ نوعيّ وكمّي لإنجاحها، فالنّجاح في الإعلان يحتاج جهودًا مضاعفة للنجاح في المعركة المستمرّة مع نظامٍ ما زال قادرًا على استخدام أدواته المختلفة وأذرعه الإعلاميّة والعمائم التابعة له والمسبّحة بحمده.

المصدر : الجزيرة مباشر