الجوانب الاجتماعية للقرارات التركية الاقتصادية

لا شك أن الاقتصاد مجال لا ينبغي أن يقربه إلا المختصون، فهو علم شديد الخصوصية، لكن خصوصية الممارسة لا تعني بالضرورة إقصاء غير المختصين تماما، لأن جميع القرارات والسياسات المتخذة في هذا المجال تؤثر بشكل مباشر على الجميع من أهل الاختصاص وغيرهم.

وحينما تنتظر فئة قليلة من بقية الناس أن يتنحوا عن مجال يؤثّر في حياتهم بشكل مباشر، بحكم أن هذه الفئة متخصصة، فإن الأمر يحتاج إلى الكثير من التكنوقراطية.

يذكر أنتوني غيدنر، وهو أحد أبرز علماء الاجتماع، رأى أن خاصية عالمنا اليوم، تكمن في كون الناس لا يتركون الأمر لفئة من المتخصصين فحسب، لا سيما في قضايا مهمة مثل: الاقتصاد والطب والدين، بل يشاركون في النقاش حولها وإنتاج المعلومات.

لا يمكن للمجتمع الذي يعيش لحظة بلحظة مع التطورات الاقتصادية، أن يترك الأمر كله للخبراء فقط لتحديد السلوك الاقتصادي.

نقول على الدوام إن الاقتصاد ليس عبارة عن اقتصاد فحسب، وإن عدم تفكير الخبراء الاقتصاديين في تأثير الاقتصاد على المجالات الأخرى، يجعل في الغالب تحليلاتهم بلا قيمة.

إنهم ينظرون للأمر على أنه عمليات رياضية بحتة، ومن ثم يبنون عليها جميع حساباتهم وتوقعاتهم أو مقترحاتهم السياسية، إلا أن الاقتصاد في النهاية مسألة تتعلق بالناس، وبالتالي بالسلوك البشري، وهذا السلوك بدوره يخضع لجميع أنواع التأثيرات المادية والروحية، ثم يؤثر كذلك على كل شيء.

إنني أكنّ احترامًا كبيرًا للتخصص والخبرة. لكنني لم ولن أراهن يومًا ما على الجزء الاقتصادي الذي يقتصر على الرياضيات فحسب، لا سيما وأن الاقتصاد يرتبط بشكل وثيق بالدين والأسرة والتعليم والسياسة وعادات الترفيه وأنماط السلوك الأخرى، وهذه النقطة بالذات تجعل الاقتصاد موضوعًا لا يمكن تركه للخبراء الاقتصاديين وحدهم.

إعادة النظر

إن المفاجآت التي نشهدها في مجال الاقتصاد، والتي تدفعنا في الحقيقة لإعادة النظر في جميع النظريات الاقتصادية، لم تعد تقتصر على مجرد استثناءات عابرة. والسبب الرئيس لذلك في الحقيقة هو تجاهل العوامل الأخرى في الاقتصاد على الدوام.

حينما ننظر من منظور المعطيات الاقتصادية البحتة، فإننا لا نجد أي سبب موضوعي للضغط الممارس على أسعار الصرف الذي تعاني منه تركيا في الآونة الأخيرة. ولا يمكن العثور أيضًا على سبب وتفسير اقتصادي لرد الفعل الحاصل في ارتفاع سعر الصرف إثر انخفاض أسعار الفائدة، على الرغم من نمو الصادرات والإنتاج الصناعي بأرقام قياسية، وانخفاض العجز التجاري إلى مستوى قياسي تقريبًا، وتزايد الاستثمارات الجديدة بسرعة هائلة.

وهذا الأمر يدفع للبحث عن تفسير منطقي لما يجري، لكن ضمن المجالات والمسببات غير المرتبطة بالاقتصاد، مثل السياسة والتعليم والدين وعلم النفس الاجتماعي بمعناه الواسع.

هناك عنصر هام هو “الثقة”، وحينما يواجه اقتصاد ما أزمة ثقة فإنه لن يتمكن من الحفاظ على نفسه بغض النظر عن مقدار قوته وحجمه، ويمكن التعامل مع هذا كقاعدة اجتماعية راسخة.

ولذلك تعتبر الثقة أهم مصدر لرأس المال الاجتماعي. ومن الراسخ أن ثقة الناس بعضهم في بعض، وثقتهم في الدولة ومؤسساتها، وإعلاءهم المصلحة الاجتماعية على الفردية، يشكّل عمق رأس المال ويؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد.

وبخلاف ذلك، فإن فقدان العمق في رأس المال الاجتماعي يمكن أن تكون له عواقب مكلفة على المجتمع بأسره. وإن الأفراد الذين يفكرون بمصالحهم الخاصة ويميلون إلى السلوكيات الأنانية؛ يسعون لتحقيق مكاسب فردية فقط، دون أن يدركوا أن هذا السلوك يؤدي في نهاية المطاف إلى خسارة المجتمع بأسره، بما في ذلك هم أنفسهم. وحينما تتحول القيم السلبية مثل الجشع والأنانية إلى سلوك جماعي فهذا يعني أن الكارثة حادثة لا محالة.

عدم الثقة في الليرة

لا يمكن العثور على أي مبرر اقتصادي يشرح سبب عدم الثقة المرتبطة بالليرة التركية حتى مساء الإثنين قبل الماضي، بغض النظر عن الطريقة التي ينظر بها كل شخص، خصوصا وأن منظور علم الاقتصاد الأساسي يؤكد على أن الفائدة عدو الإنتاج والتنمية. وما نعنيه هنا بالاقتصاد الأساسي هو الاقتصاد الذي يعود بالنفع على المجتمع كله لا على فئة خاصة. أما أصحاب المنفعة الفردية الخاصة الذي يعيشون على الربا ويقتاتون على منح القروض بالفائدة، فهؤلاء بالطبع ينظرون للفائدة كأفضل وأسرع وأضمن طريق للربح، متناسين أنه طريق تنعدم فيه الأخلاق، لأنه يجلب لصاحبه فقط الربح بينما يعود على المجتمع بالكارثة.

كانت هناك دعوات سياسية وتحريضية من أجل عدم الثقة في الليرة التركية، وهناك من استجاب لهذا التحريض بالفعل وراح يستثمر بالدولار، بدوافع مختلفة للغاية بعيدة عن جلب أي منفعة وطنية أو مجتمعية، بل تقتصر على تحقيق مكاسب خاصة به فحسب، ربما بسبب الاستياء من الحكومة، وربما وفق غريزة حماية ما لديه من مدخرات.

لقد أدى هذا الاستثمار إلى سقوط كارثي لليرة التركية، أضرّ في الوقت ذاته بالمجتمع وكلّفه الكثير. لكن بالطبع لا ننسى أن هناك أيضًا من لم يشارك بهذه الحملة من الأساس، وأيقن أن ما يجري ليس وضعًا يصعب التعامل معه أو شبيهًا بقواعد الرياضيات الحتمية.

من الدروس المستخلصة مما جرى هو وجود سياسة تستثمر في الكارثة الاقتصادية التي تسبب انعدام الثقة، ومن الملاحظ أن هذه السياسة تحظى بتأثير سيء للغاية.

النفسية المحبطة

لكن في المقابل، من الواضح أن النفسية المحبطة التي تمخضت عن فشل من وثق بهذه السياسة الرخيصة من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية؛ قد ولّدت طاقة معاكسة لا مفر منها.

من الضروري النظر إلى الأداة المالية الجديدة التي أعلنها الرئيس التركي أردوغان، على أنها قد طمأنت وأقنعت أولئك الذين أصيبوا بالذعر في تلك المرحلة. وإن ردود الفعل التي أظهرها أولئك الذين كانوا مستعدين أصلًا لتصديق الرئيس أردوغان والثقة به، تمكنوا من التخلص من كل الشحنة السلبية التي خيمت عليهم طيلة الأسابيع الماضية بينما كان الدولار في صعود، ولقد فرّغوا هذه الشحنة في ظرف ساعات فقط.

لكن على الرغم من كل ذلك، هناك من يصرّ على رؤية هذه الخطوة على أنها “فائدة مبّطنة”، ويحاول تبرير مزاعمه ووجهة نظره حول الفائدة. ولا نملك من أجل إقناع هؤلاء سوى تذكيرهم بأمر واحد، هو أن التجارة والفائدة حينما ننظر إليهما من جهة واحدة يمكن أن نراهما متشابهتين، إلا أن الله قد أحل التجارة وحرّم الربا.

المصدر : الجزيرة مباشر