إخوان المشاهير (2)

حجز عمرو بن العاص مكانة متقدمة في قريش، أهّله لها ما ظهر عليه من نبوغ مبكر، واتفقت كلمتهم على أن يكون سفيرا لهم إلى النجاشي لإقناعه بتسليم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده.

ومع أنه أسلم متأخراً فإنه حقق في الإسلام شهرة كبيرة ومكانة عظيمة بين القادة والفاتحين، وعلى يديه تحققت بشارة رسول اللهﷺ بفتح مصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي كان إذا رأى عمرو بن العاص قال “ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرا.”

وفي المقابل نجد أخاه لأبيه هشام بن العاص الذي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام لم يشتهر أمره بين الناس، مع أنه من أصحاب الهجرتين، وله مواقف بطولية تضعه في مقدمة صفوف المجاهدين، وفي مقدمتها إقدامه على الإسلام في وقت مبكر، وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة، بعضها يتعلق بشخصه هو، نظرا لمكانته عند والده العاص بن وائل السهمي ومحبته له والتي كانت مضرب المثل، ومكانة العاص المعروفة في مكة وتجارته وثرائه، ويكفي أن نشير إلى أن حلف الفضول الذي عقدته قريش لنصرة المظلوم وشهده رسول اللهﷺ شابا، كان سببه الوقوف أمام ظلم العاص وأمثاله، كذلك اشتهرت عداوته للإسلام ووقوفه ضد دعوة النبيﷺ وأوردت كتب أسباب النزول أنه الأبتر الذي نزل فيه قول الله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

كان هشام يترقب غفلة الأعين عنه حتى يلحق بركب المهاجرين

وعمق مشكلة هشام بن العاص الطرف الثاني من جهة أمه “حرملة بنت هشام” حيث لاقى من عنت خاله أبي جهل عمرو بن هشام وابن خالته عمر بن الخطاب الشيء الكثير، لكن إسلام خاله سلمة بن هشام، وابن خالته زيد بن الخطاب شجعه على اتخاذ القرار، مُطلقا العيش الرغيد والرزق الوفير، تاركا مكة أحب بلاد الله، مهاجرا إلى الحبشة التي لحقهم فيها أخوه عمرو ليرد المهاجرين عامة ويظفر بأخيه خاصة، ومع أن سفارة عمرو باءت بالفشل فإن هشام بن العاص رجع مع بعض الصحابة قبل هجرة رسول اللهﷺ إلى المدينة، وألقي القبض عليه وسجن وتعرض لأبشع ألوان العذاب، وفي ذلك يقول عبدالله بن عباس: ” والله إنهم كانوا ليضربون الرجل ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له اللات والعزى إلهان من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم”

وأجابهم هشام بن العاص بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، فأخرجوه على ألا يخرج من بيته، وفي هذه الأثناء كان الصحابة في المدينة يتحسسون أخبارهم في مكة، ويرسلون إليهم بعض ما ينزل من القرآن لاسيما ما يتعلق بحالهم، ومن ذلك قول الله تعالى:

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)

ولما نزلت آية (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

يقول عمر بن الخطاب فكتبتها بيدي في صحيفة ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص.

كان هشام يترقب غفلة الأعين عنه حتى يلحق بركب المهاجرين، وأحكم خطته لذلك ونجاه الله من أيدي المشركين، واجتهد من اللحظة الأولى في الانضمام إلى سرايا المجاهدين، وشهد فتح مكة مع النبيﷺ، وتمت النعمة بإسلام أخيه عمرو وعندها قال رسول اللهﷺ: “ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام”. رواه أحمد

واستمرت رحلة جهاده بعد وفاة رسول اللهﷺ وتعددت بطولاته المشهودة ومنها موقفه في موقعة أجنادين 13ه‍ التي خاضها كبار الصحابة ضد الروم على أرض فلسطين، وكانت أعدادهم غفيرة، وسهامهم كالمطر الغزيرة، فحدث اضطراب في جيش المسلمين، وعندها ألقى هشام بن العاص المغفر وقال: يا معشر المسلمين إن هؤلاء لا صبر لهم على السيف فاصنعوا كما أصنع، واخترق صفوفهم وهو يصيح أنا هشام بن العاص إلي يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟!

فأشعل نداؤه الهمم وقوى العزائم، فهزموهم بإذن الله.

حتى نهشته السيوف من كل ناحية وصوبت إليه الرماح من كل جهة، وقبل أن يفارق الحياة أعطى درسا في الإيثار

ومع شهرة موقعة اليرموك وذيوع أخبارها في كتب التاريخ، لكن لم يشتهر أن مفتاح النصر وسبب الفوز كان ببركة رأي هشام بن العاص وإقدامه، عندما تشاور خالد بن الوليد مع كبار القادة في مشكلة التفوق العددي الهائل لجيش الروم الذي زاد عن مئتي ألف، في مقابل أربعين ألفا من المسلمين، فقال بعضهم نكتب إلى أبي بكر نطلب المدد، فقال هشام إن كنتم تعلمون أن النصر من عند الله العزيز الحكيم فقاتلوا، وإن كنتم تنتظرون نصرا من أبي بكر ركبت راحلتي حتى ألحق به، فقالوا ما ترك هشام لأحد مقالا.

ودارت رحى معركة حامية الوطيس، وهشام بن العاص على سنته في الانغماس داخل صفوف العدو، يقود الناس ويحمسهم حتى نهشته السيوف من كل ناحية وصوبت إليه الرماح من كل جهة، وقبل أن يفارق الحياة أعطى درسا في الإيثار، رواه أبو جهم بن حذيفة قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا به ينشغ، فقلت أسقيك؟ فقال نعم، وإذا بصوت رجل فأشار ابن عمي إليه فإذا هو هشام بن العاص فأتيته فقلت أسقيك؟ فسمع آخر يقول آه، فأشار هشام إليه فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات”

وسئل عمرو بن العاص أنت خير أم هشام؟

فقال: إنه كان أحب إلى أبيه مني، وسبقني بالإسلام والهجرة، وشهدت أنا وهو اليرموك فباتَ وبتُ ندعو الله أن يرزقنا الشهادة، فلما أصبحنا عرضنا أنفسنا على الله فقبله الله وتركني.

رضي الله عن ولدي العاص عمرو وهشام.

المصدر : الجزيرة مباشر