قراءات ودلالات في انقلاب بورما العسكري!

مظاهرات في بورما ضد الانقلاب العسكري ترفع صورة أونغ سان سو تشي

في الساعات الأولى من صباح يوم الإثنين الموافق 1 فبراير 2021، تفاجأ العالم بخبر وقوع انقلاب عسكري في بورما وعلى أثره أعلن الجيش البورمي أنه استولى على الحكم، وعطل الدستور، وكلف قائده الجنرال مين أونغ لاينغ بتولي الصلاحيات التشريعية والقضائية والتنفيذية، مع إعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد لمدة عام، ثم تجرى الانتخابات العامة ولكن دون تحديد موعد لها، في خطوة غير متوقعة من قبل المراقبين. وقد جاء هذا التطور قبيل انعقاد أول جلسة للبرلمان الذي تم انتخابه بساعات، وذلك على إثر إجراء الانتخابات العامة في الثامن من نوفمبرتشرين الثاني من العام الماضي، التي فاز فيها حزب الرابطة الوطنية بزعامة أونغ سانغ سوشي بصورة كاسحة بنسبة أكثر من الثمانين في المائة. وقد برر الجيش الاستيلاء على السلطة بأنه كان ضرورياً من أجل حماية الدولة، لأن الانتخابات لم تكن شفافة ونزيهة، وإنما شابتها عمليات تزوير واسعة النطاق، حيث تم احتساب أكثر من عشرة ملايين صوت وهمي بصورة غير قانونية، على حد زعمه.

ولكن هل المسوغ الذي قدمه الجيش لتبرير علمية الانقلاب صحيح؟

في الواقع أن الانتخابات التي أجريت في الثامن من نوفمبرتشرين الثاني الماضي هي أول انتخابات على مدى تاريخ بورما كله ، يتم إجراءها بصورة ديموقراطية وشفافة ، حيث لم تشهد أي خروقات أو عمليات تزوير على الإطلاق ، خلاف ما تزعم الطغمة العسكرية، وهو الأمر لا يمكن تصور حدوثه أصلاً ، لأن تلك الانتخابات أجريت بإشراف كامل من قبل وزارة الداخلية أمنياً ولوجستياً، ويتولى هذه الوزارة أحد جنرالات الجيش ، وهي لا تخضع لسطلة حكومة سوشي ، كما أن وزارة الدفاع وزارة أمن الحدود هما من الوزرات السيادية التي تتبع لمؤسسة الجيش مباشرة ، كانتا أيضاً تشاركان في تأمين الانتخابات بالخدمات الرقابية واللوجستية ، وفي ظل وضع كهذا ، الادعاء بحدوث علميات التزوير، مجرد هراء وبل أضحوكة وسذاجة .

وهب أن هناك تزويراً، فما الذي كان يخسره الجيش؟ أو ما الضرر الذي سوف يلحقه بسلطة الجيش، تحت أي ظرف كان؟ فوفقاً للدستور الذي فصله على مقاسه عام 2008 ضامن بنسبة 25% من مقاعد البرلمان لجنرالاته، بالإضافة إلى ثلاث وزارات سيادية في الحكومة وهي الدفاع والداخلية وأمن الحدود، وهي في مجملها تشكل مثلث الرعب والقمع في النهج العسكري البورمي. وبهذا الوضع فسيطرة الجيش على السلطة لن تتأثر بأي حال من الأحوال، وبالتالي الادعاء بحدوث التزوير ما هو إلا من أجل تقديم تبرير أو اتخاذ ذريعة، للعودة إلى الوراء ما قبل 2010، مجدداً بقبضة من الحديد، حينما أرخى الجيش قبضته قليلاً كتكتيك مرحلي فرضته عليه الأوضاع في تلك الفترة.

إذن ما الأسباب الحقيقية التي أدت لحدوث هذا الانقلاب وفي ظل هذا الظرف الدولي الحساس؟

دولة بورما منذ أن استقلت عام 1948 لم ينعم شبعها بحكم ديموقراطي حقيقي، بل عاشت أجيال عدة من هذا الشعب تحت أنظمة عسكرية قمعية متعاقبة، ولذلك فإن الشعب البورمي بمعظمه لا يعرف معنى الديموقراطية والحرية ولا ممارساتها على وجه حقيقي، فالحكم يعني في ثقافته، الجيش وممارساته القمعية . كما لم تتبلور في أوساط الشعب البورمي منظمات المجتمع المدني بصورة فاعلة، لأن حراك النخب السياسية كان دائماً ينحصر في الأيدولوجية العسكرية المتسلطة وصراع أجنحة جنرالات الجيش، ولم يكن هناك يوماً من الأيام خط مستقل للفكر السياسي لتلك النخب التي في غالبيتها من المكون البورمي وحتى معني الحرية التي ينشدونها مستوحاة من الدعاية العسكرية للحريات العامة، ومفهوم الحكم والإدارة لدى هؤلاء هو ما رسخته ممارسات العسكر طوال العقود الستة الماضية. فلذلك لا نعرف إلى يومنا هذا، هويةً للدولة البورمية وكيفية إدارتها، حيث إن فكرها السياسي ونظامها الاقتصادي لا مرجعية لهما على الإطلاق، فالفكر السياسي والاقتصادي هو أقرب لنظام (الغنيمة) الذي كان ممارساً في الإدارة العامة خلال العصور الوسطى، وكان بمقتضاه، أن أية جماعة تحظى بالسيطرة على الحكم يعتبر كل فرد من تلك الجماعة أي مورد في البلاد يقع تحت يده عبارة عن غنيمة قابلة للنهب من قبله.

فاقتصاد بورما لا يدار على أساس النظام الرأسمالي الحر ولا على أساس النظام التخطيط المركزي الشمولي، ولا على أساس النظام المختلط، بل أن كل مقدرات الشعب وموارد البلاد، تحت يد جنرالات الجيش الذين يتصرفون فيها كإقطاعيات خاصة بهم. وللأسف إلى يومنا هذا فإن الفكر السياسي البورمي ينحصر في هذا الإطار لدى النخب السياسية الفاسدة.

وعندما كانت الطغمة العسكرية تحكم البلاد لعقود عديدة بالنار والحديد ، فإن المجتمع الدولي لم يلتف إلى معاناة الشعب البورمي بل أهمله ليواجه مصيره بنفسه ، ولكن منذ قرابة ثلاثة عقود عندما برزت أونغ سان سو تشي في الساحة السياسية البورمية مناضلة ديموقراطية تحت مظلة ما يسمى بالرابطة الوطنية من أجل الديموقراطية ، وقفت دول العالم بأسرها خلفها وجعلت منها أيقونة الديموقراطية على أمل إرساء قيم الحرية والمساواة والعدالة في بورما، وبخاصة الدول الغربية التي فرضت عقوبات اقتصادية وعسكرية صارمة على الطغمة العسكرية الحاكمة أنداك ، ومارست كل الضغوط من أجل التحول الديموقراطي في البلاد على مدى عقدين من الزمن ، ورغم أن الطغمة قد وجدت من يدعمها ويشجعها على نهجها القمعي وهو الصين القوة الإقليمية الكبرى الصاعدة آنذاك ، التي وفرت لها كل ما تحتاج من السلاح والعتاد من أجل قمع الشعب ، إلا أن أونغ سان سو تشي ظلت شوكة على خاصرة هذه الطغمة على الدوام ، لذلك أراد جنرالات الجيش البورمي التخلص منها بصورة تكتيكية عبر مرحلتين ، ففي المرحلة الأولى أدخلوها برلمان الجيش في عام  2012 ، وعلى أثر ذلك كلفوها بقيادة حملة العلاقات العامة دولياً ، وذلك من أجل تلميع صورة الجيش ورفع العقوبات الاقتصادية الغربية على البلاد ، وبالفعل قد نجحت  في مهمتها بامتياز، إذ رفعت الدول الغربية عقوباتها الاقتصادية في وقت وجيز ، بل تقاطر زعماءها لزيارة بورما واحدا تلو الأخر، وحتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي عادةً لا يزور أي بلد إلا إذا كان يشكل أهمية كبرى بالنسبة لها، فقد زار بورما مرتين خلال ظرف سنتين فقط حينما كان باراك أوباما رئيساً ، مما أعطي جنرالات الجيش زخماً أكبر من حجمهم ، فاغتروا بهذا الاهتمام الغربي ، وأظهروا مزيداً من الانفتاح على الغرب لتسويق أنفسهم على الساحة الدولية ، وفي المرحلة اللاحقة تم استدراج أونغ سان سوتشي إلى مستنقع الحكم في بورما ليس حباً فيها ولا لأجل التحول الديموقراطي كما أراد المجتمع الدولي ، بل من أجل إحراقها سياسياً ، حتى لا تكون لها قائمة، وأجريت الانتخابات عام 2015 و فاز فيها حزبها بأغلبية كبيرة ، رغم ذلك تحالفت مع الجيش ، ونهجت نهجه في السياسة والإدارة ، فدخلت في مظلته، بكل توجهاتها وطموحاتها السياسية ، فبدلاً من أن تقوم هي بدمقرطة العسكر، والعسكر هم من دجنوها من أجل تنفيذ أجندتهم السياسية ، لأن هناك حقيقة لا يعرفها كثير من الناس أن أونغ سانغ سوشي هي امتداد لعسكر بورما المستبدين لأن والدها كان جنرالاً في الجيش وهي أيضاً تربت في البيئة العسكرية ، وعقليتها هي نفس عقلية عسكر بورما الذين أهلكوا الحرث والنسل ، والسنوات الخمسة الماضية التي قضتها زعيمة لبورما أثبتت أنها لا تختلف كثيراً عن الطغمة العسكرية البورمية ، فلا هي جلبت الديموقراطية، ولا هي حافظت على حقوق الإنسان ، ولا هي أصلحت الاقتصاد . ثم جاءت حملة إبادة الروهينغا في عامي 2016 و2017 حيث انخرطت فيها بشكل مباشر، وزعمت أن جيش بلدها يحارب الإرهاب فقط، ونفت عنه كل التهم الموجة إليه، وبل وقفت أمام العالم للدفاع عن الجيش وجنرالاته المتورطين في عملية إبادة الروهينغا، مما سقطت أمام المجتمع الدولي سقوطاً مدوياً، وفقدت بذلك أخر ما تبقى لها من الاحترام على المستوى الدولي.

ولأنه انتهى دور أونغ سان سوتشي تماماً أجريت انتخابات نوفمبر 2020 عبر فخ محكم ، وما كان ذلك إلا من أجل إسقاطها سياسياً ـ رغم أنها لم ترتكب أي خطيئة بحق الجيش ولا خرجت عن توجيهاته ـ وإرجاعها إلى خانتها الأصلية وذلك من خلال إلهاء الشعب بالمظاهرات والشعارات والتغني بأمجادها ، وبالتالي إعطاء الجيش المبرر الكافي للبقاء في السلطة على المدى البعيد بدعوى حفظ الأمن والسلم، كما كان دائماً شعاره ، فاليوم عاد جنرالات الجيش البورمي إلى مهامهم الأصلية ، فمصالحهم تقتضي الانقضاض على السلطة في هذه المرحلة ، وهم لن يتركوها تحت أي ظرف لأن مراكزهم المالية قد تضررت كثيراً ، وحان وقت حصاد الغلة، فإن أونغ سان سوشي اليوم ليست أونغ سان سوشي قبل عشرين سنه حينما كانت أيقونة للديموقراطية ، ولن توثر فيهم الإدانات الدولية ولا عقوباتها ، طالما الصين بجانبهم ، كما أن الصين اليوم هي نفسها ليست كما كانت قبل 30 سنة ، بل أصبحت تشكل ملهمة لجنرالات الجيش البورمي نموذجا للحكم وقمع إرادة الشعب .

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر