المهندس سيد مرعي الباشا الذي روّض الضباط و استبقى الخيول

سيد مرعي

المهندس سيد مرعي  (1913 ـ 199٣) هو بلا جدال واحد من أهم الساسة المعاصرين كما أنه أبرز المهندسين الزراعيين في عهد ثورة يوليو 1952 وقد صنف على أنه كان أنجح رجال السياسة فيما قبل الثورة في اندماجهم في العهد الجديد، وفي حيازة ثقتي الرئيسين عبد الناصر والسادات وهكذا فانه  شارك بفعالية في ثلاثة عصور متتالية تميز أداؤه في محيط عمله  ونشاطه بأبعاد سياسية واجتماعية لا تزال آثارها باقية  في الحياة اليومية المصرية ومتميزة  بالطريقة التي قدر له ان ينحتها بها إلي الحد الذي جعلنا في كتابنا عنه نضع للكتاب عنوانا فرعيا «شاهد وشريك علي عصور الليبرالية والثورة والانفتاح 1944 ـ 1981».

وقد كان المهندس سيد مرعي بمثابة المسئول الأول عن الاستراتيجية الزراعية في عهدي عبد الناصر و السادات في مجملها رغم عدم طول الفترات التي تولي فيها وزارة الزراعة، وكانت هذه المسئولية بمثابة سد عال حقيقي حمى الزراعة مما أصابها على يد يوسف والي طيلة عهد مبارك ،   وكان من حسن حظ مصر أنه كان قادرا علي فرض رؤيته المتوافقة مع أهداف وآليات الثورة، و مواصلا سياسة من يسميهم الناس ” باشاوات الزراعيين التقليديين”  في الحفاظ على أرض مصر وزراعتها ،  كما كان من حسن حظ مصر أنه تمتع بنفوذ تنفيذي واسع في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات، ونجح  وحده  و من دون غيره من الوزراء الفنيين في الاستئثار لوزارة الزراعة بكافة الأنشطة المتعلقة بالزراعة بعيدا عن الوزارات الأخرى، حتي إنه استأثر لوزارة الزراعة ببنك التنمية والائتمان الزراعي، بينما البنوك المناظرة تتبع قطاع البنوك والاقتصاد، كما استأثر بالجمعيات التعاونية الزراعية علي الرغم من أن الجمعيات جميعا تخضع لإشراف الشئون الاجتماعية، كما استأثر بمركز البحوث الزراعية علي الرغم من تبعية مراكز البحوث المناظرة للبحث العلمي.. هذا فضلا عن استئثار الزراعة في عهده بقطاع استصلاح الأراضي، وعن العلاقة الوثيقة له بتأسيس صحافة تعاونية زراعية من خلال «دار التعاون» وأستاذه القديم محمد صبيح.

والده  فاز في انتخابات 1924 علي منافسه وكان هذا المنافس هو رئيس الوزراء يحيي باشا إبراهيم الذي أجري الانتخابات ولم يفز فيها

 

ولد المهندس سيد مرعي  عام (1913) في السادس والعشرين من أغسطس، في العزيزية، مديرية الشرقية حيث مزارع أسرته،  ويرجع أصل عائلته إلي القبائل العربية التي نزحت إلي شرق مصر، وهو من قبيلة الحويطات بالحجاز ومن من بطن الفحيماني ، هى من اكبر القبائل العربية المعروفة ، وكانت لهم سطوة كبيرة ،  وكان المهندس سيد مرعي  يعتز بهذا النسب ، وقد رواه له والده في اعتزاز، ورواه المهندس سيد مرعي  لأنجاله من بعده كما رواه للناس في كتابه «أوراق سياسية»، وفيه يشير حين تحدث عن مهماته العربية إلي مدي إحساسه بشعور الرضا النفسي العميق حين امتد بنشاطه إلي هذا الميدان.

انتقل المهندس سيد مرعي  مع أسرته إلي القاهرة حيث كان يقضي فترة الدراسة ثم يعود إلي الريف في الصيف، وقد تلقي تعليمه العام في مدرسة السيدة نفيسة الأولية بحي العباسية ، ثم في مدرسة الحسينية الابتدائية ، ثم في مدرسة فؤاد الأول الثانوية فالحسينية الثانوية، والتحق بكلية الزراعة عن رغبة طبيعية تعززها مكانته الاجتماعية ، وتخرج في الكلية (1937)،  وعمل  منذ شبابه في مزارع أسرته، حيث وظف علمه و معلوماته العلمية في الزراعة، وفي الإنتاج الحيواني كذلك.

في سنة 1944 انتخب المهندس سيد مرعي  عضوا في البرلمان (السعدي ـ الدستوري) وأصبح أصغر أعضائه، ومن الطريف بالذكر أن والده كان قد فاز في انتخابات 1924 علي منافسه وكان هذا المنافس هو رئيس الوزراء يحيي باشا إبراهيم الذي أجري الانتخابات ولم يفز فيها (لأول وآخر مرة في تاريخ الانتخابات المصرية !! ) وكان والده يومئذ وفديا من أنصار سعد زغلول، وها هو المهندس سيد مرعي  يفوز قبل ١٩٥٢ بثمانية أعوام  بعضوية البرلمان، ويلمع في الهيئة السعدية تحت قيادة أحمد ماهر والنقراشي.

علي أن اكتساح الوفد لانتخابات البرلمان الوفدي الأخير (1950) لم يمكن المهندس سيد مرعي  من الاحتفاظ بهذه الدائرة، وهكذا تكونت في نفسيته عقدة من الوفد، وإن حاول معالجتها برواية ما يدل علي أن الوفد عرض عليه ضمه إلي ترشيحاته وذلك من خلال زوج شقيقته مرسي فرحات باشا، الذي أصبح وزيرا وفديا (1950).

بدأ المهندس سيد مرعي  اهتماماته السياسية والفكرية مبكرا،  وقد كلفه رئيس الوزراء النقراشي باشا بالسفر إلي فلسطين وكتابة تقرير عن المستوطنات الإسرائيلية فيها قبل حرب 1948.

وقد كتب لطفي الخولي في رثائه للمهندس سيد مرعي  عبارة جميلة

 

روي المهندس سيد مرعي  أن علي الشمسي باشا أهداه كتاباً كتبته مؤلفة انجليزية هي « دورين وارينال» عن «الفقر في منطقة الشرق الأوسط»، وأنه، أي الشمسي باشا، دعا المؤلفة إلي إلقاء محاضرة في مصر ودعاه الحضور المحاضرة .

وقد كتب لطفي الخولي في رثائه للمهندس سيد مرعي  عبارة جميلة قال فيها إنه وهو نائب قبل الثورة نسج خطابه البرلماني بمفردات عن تحديد القيمة الإيجارية وتحديد الملكية والإصلاح الزراعي.

وبعد ١٩٥٢  ساعدت المهندس سيد مرعي علاقات قربي ونسب ببعض قادتها علي الاقتراب من السلطة الجديدة، وعندما طالبت الثورة الأحزاب بإعادة تنظيم صفوفها، وتطهيرها ممن اعتبرتهم قد أفسدوا الحياة السياسية، كان المهندس سيد مرعي  واحدا من أبرز مَنْ دفعهم قادة الهيئة السعدية إلي المقدمة، وبهذه الصفة التقي بالرئيس محمد نجيب مبكرا، وما هي إلا أسابيع قليلة، وبدأت الثورة في الإصلاح الزراعي، واختير المهندس سيد مرعي  عضوا منتدبا في اللجنة العليا للإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952.

كان سيد مرعي ولا يزال من أصحاب الصورة الواضحة المحددة والموثقة في تاريخنا المعاصر لثلاثة أسباب : السبب الأول : توافر المادة  التاريخية «إزاء» سيد مرعي ، ولا نقول «مع» ولا «ضد» ولا «حول» .. ويندر أن تجد مثل هذا التوافر في شخصيات كثيرة أخري ولنا  أن نقارن سيد مرعي بشخصيتين أخريين : الدكتور محمود فوزي ، وعبد الحكيم عامر ، فلايزال محمود فوزي مثلا في حاجة إلي كتابات كثيرة ، وإلي كتابات تنتقده بعاطفة أو تثني عليه بعاطفة . أما عبد الحكيم عامر فإنه لايزال ضحية كتابات الوهج الإعلامي ولا أقول الإثارة الإعلامية . و السبب الثاني : أن سيد مرعي نفسه هيأ نفسه للكتابة عنه وقد يظن القارئ أننا أعني بهذا أنه نشر مذكراته ، ولكن نشره لمذكراته لم يكن إلا عنصرا من عناصر كثيرة امتدت بفضل ذكاء سيد مرعي ورغبته في الخلود (وهي رغبة حقيقية لا تتوافر للكثيرين) إلي وضع الكتب والتقارير عن وجهات نظره في كل مرحلة من مراحل حياته ، ويندر أن تجد واحدا من السياسيين جميعا قد انتبه إلي نفسه بهذا القدر الذي انتبه به سيد مرعي . و السبب الثالث : أن سيد مرعي مثل نموذجا هاما بين كل السياسيين المصريين في القرن العشرين فهو مزيج من نوع نادر بين الملكي والجمهوري ، وبين الثوري والرجعي ، وبين الكلاسيكي والرومانسي ، وبين الرأسمالي والاشتراكي ، وبين التكنوقراطي والبرلماني،  وبين المحافظ والمجدد ، وحتي بين الولاء للذات وإنكار الذات .. وقد يدهش القارئ إذا اعترفت له أن هذه المزاوجة في نوعي المزيج التي انتهي القارئ منها لتوه ليست من قبيل البلاغة اللفظية ، وإنما هي في الحقيقة أعجز من أن تفي بالإحاطة بجوانب شخصية سيد مرعي التي قد تبدو متنافرة ولكنها كانت متناغمة في شخصه إلي أبعد الحدود .. و لهذا السبب فإن سيد مرعي يمثل النموذج الذي يمكن أن تقاس عليه كثير من الشخصيات .. أو بعبارة أخري يمثل نقطة في محور يمكن أن نقيس الآخرين علي يمينه أو إلي يساره ، ونقطة أخري في محور آخر يمكن أن نصنف الآخرين إلي ما هو أقل منه أو أكثر ، أو إلي ما هو قبل ، وما هو بعد ، أو إلي ما هو أكثر ليبرالية أو أقل … وهكذا .

قاد المهندس سيد مرعي  أو شارك غيره قيادة عملية الإصلاح والاستيلاء علي الأرض المملوكة للإقطاعيين

 

وقد تمكن المهندس سيد مرعي  من فرض وجوده في الحياة التنفيذية تدريجيا من خلال علاقات مباشرة بجمال سالم، ثم بجمال عبد الناصر نفسه.

وقد قاد المهندس سيد مرعي  أو شارك غيره قيادة عملية الإصلاح والاستيلاء علي الأرض المملوكة للإقطاعيين، ونجح في ذلك إلي الحد الذي هو ظاهر للعيان حتي اليوم، وفي نوفمبر 1955 أضيفت إليه أعباء رئاسة بنك التسليف الزراعي.

في يونيو 1956، حين أصبح عبد الناصر رئيسا للجمهورية، دخل المهندس سيد مرعي  الوزارة مع الدكتورين مصطفي خليل وعزيز صدقي، وقد مثل هؤلاء الثلاثة جيل وزراء شبان أضيف إلي الوزراء المدنيين الذين سبقوهم إلي التعاون مع الثورة مبكرا وبقوا معها طيلة الخمسينيات  : نور الدين طراف، وأحمد حسني، والباقوري، وفتحي رضوان، ومحمود فوزي، وأحمد عبده الشرباصي، وعبد المنعم القيسوني، ومحمد أبو نصير، وكمال رمزي استينو، ومع العسكريين من طبقة عبد اللطيف البغدادي، وزكريا محيي الدين، وكمال الدين حسين، وحسين الشافعي،  وبهؤلاء الثلاثة اكتمل للثورة اثنا عشر مدنيا متعاونا كان تعاونهم لا يقل قيمة عن تعاون العسكريين، وربما أن حظ الثلاثة الذين دخلوا إلي السلطة في 1956 كان أكثر إنصافا لهم، وقد لمعوا في عهد الرئيس السادات إلي درجة لم تتح لغيرهم من المدنيين في عهد الثورة كله.

وفيما بين يونيو 1956 ومارس 1958 (حين أعلنت الوحدة) ظل المهندس سيد مرعي  يشغل منصب وزير الدولة للإصلاح الزراعي ، وفي نوفمبر 1957 تولي منصب وزير الزراعة بالإضافة إلي الإصلاح الزراعي (خلفا للدكتور عبد الرزاق صدقي الذي اختير مديراً إقليميا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «الفاو»)، حتي إذا ما تمت الوحدة وشُكلت وزارتها الأولي اختير المهندس سيد مرعي  وزيرا للزراعة بالإقليم المصري في أولي وزارات الوحدة (مارس 1958 – أكتوبر 1958) ثم عندما شكلت وزارة الوحدة الثانية في أكتوبر 1958 أصبح وزيرا مركزيا للزراعة والإصلاح الزراعي، وبقي كذلك في وزارتي الوحدة الثالثة (سبتمبر 1960)، والرابعة (أغسطس 1961)، وقد عين الدكتور المحروقي وزيرا تنفيذيا للزراعة في الإقليم المصري ولكن العلاقات بين الرجلين لم تسر في الاتجاه الودي الذي كان المهندس سيد مرعي  يؤمله !! وعباراته التي تفيض بالتعبير عن الإحساس بالمرارة من المحروقي واضحة كل الوضوح في مذكراته السياسية.

وعقب هزيمة 1967 أعيد المهندس سيد مرعي  وزيرا للزراعة والإصلاح الزراعي في وزارتي الرئيس عبد الناصر الأخيرتين (يونيو 1967 – أكتوبر 1970) وأضيفت إليه شئون وزارة استصلاح الأراضي في الفترة من أغسطس 1967 (خلفا لعبد المحسن أبو النور) وحتي مارس 1968 حين تولاها الدكتور محمد بكر أحمد، ليكون مستقلا بها في موازاة استقلال المهندس سيد مرعي  بالزراعة والإصلاح الزراعي طيلة وزارة الرئيس عبد الناصر الأخيرة .

وفي وزارة الدكتور فوزي الأولي (أكتوبر 1970) بقي المهندس سيد مرعي  في المنصب ذاته، حتي إذا عدلت الوزارة في أول عهد السادات (وزارة الدكتور فوزي الثانية : نوفمبر 1970) أصبح المهندس سيد مرعي  واحدا من أربعة نواب لرئيس الوزراء هم وزراء الداخلية والخارجية والزراعة والصناعة وأصبح مسمي منصبه : نائب رئيس الوزراء للزراعة والري ووزيرا للزراعة والإصلاح الزراعي)، وظل اسم منصبه هكذا في وزارات الدكتور فوزي الثلاث : الثانية والثالثة والرابعة (نوفمبر 1970- يناير 1972)، ومنذ مايو 1971 وحتي يناير 1972 أي في الوزارتين الثالثة والرابعة عاد فتولي بالإضافة إلي ذلك شئون وزارة استصلاح الأراضي !!

وفي يناير 1972 شكل الدكتور عزيز صدقي الوزارة،  وكان طبيعيا أن يترك الوزارة صنوه سيد مرعي، وقد تولي منصب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، ولا يعجبن المرء من تصوير التاريخ علي هذا النحو علي الرغم من أنه كان يمكن لنا القول بأن الرجلين تقدما فتولي أحدهما الوزارة، وتولي الآخر الاتحاد الاشتراكي، ذلك أن المهندس سيد مرعي  نفسه هو الذي أعطي بكتاباته الإيحاء بأن عزيز صدقي سبقه إلي ما كان هو نفسه يستحقه وهو رئاسة الوزارة، ومن الطريف أن المهندس سيد مرعي  تولي رئاسة مجلس الشعب، لكنه ظل  يتمني لو تولي رئاسة الوزارة، وهذا نموذج علي ما يصوغه رجال الحكم من صور عن أنفسهم في التاريخ.

وفي مارس 1973 حين عهد الرئيس السادات إلي نفسه بتشكيل الوزارة، خلفا لعزيز صدقي، ترك المهندس سيد مرعي كذلك الاتحاد الاشتراكي وأصبح الرجلان (هو وعزيز صدقي) مساعدين لرئيس الجمهورية، فأما الدكتور عزيز صدقي فشعر بالمرارة وكانت هذه بداية نهاية علاقته بنظام الرئيس السادات، وأما المهندس سيد مرعي فكانت هذه بداية لنشاط آخر برز فيه الرجل، وكان المجال الجديد أنشط وأقوي وأكثر نفوذا من المجال الوزاري، وقد تجلي هذا في ثلاثة ميادين مهمة.

اختير المهندس سيد مرعي ليرأس لجنة لرسم مستقبل العمل السياسي

 

كان الميدان الأول هو دوره في تنسيق قطع البترول في أثناء حرب أكتوبر، كلف المهندس سيد مرعي بمهمة الاتصال بالقادة العرب من أجل شن حرب البترول، وسافر معه في هذه المهمة الدكتور مصطفي خليل بناء على رغبة المهندس سيد مرعي نفسه حسب روايته في مذكراته.

وبعد أن أعلن الرئيس السادات عن إنشاء المنابر، وبلغ عدد الذين تقدموا بإنشاء المنابر أكثر من ثلاثين، اختير المهندس سيد مرعي ليرأس لجنة لرسم مستقبل العمل السياسي، وهي اللجنة التي قررت تخصيص ثلاثة منابر لثلاثة توجهات رئيسية هي التي تحولت فيما بعد إلي 3 منابر أو 3 أحزاب : حزب اليمين وعلي رأسه مصطفي كامل مراد، واليسار علي قمته خالد محيي الدين، والوسط كان في قلبه محمود أبو وافية وجاء علي رأسه بعد فترة السيد ممدوح سالم.

كان المهندس سيد مرعي  كسياسي مخضرم وصاحب موقف  أن يكون هو صاحب الدور المفصلي والعملي  في التمهيد للنتحول الديموقراطي في عهد السادات ،  و كان قادرا على أني يتفوق في مثل هذا الدور على كل انداده المتأقلمين مع حكم الثورة ونظام الحزب الواحد،  وبعمل هادئ ودؤوب فانه نجح كمسئول عن الانتقال إلي شبه تعددية حزبية،  وقد نجح المهندس سيد مرعي من خلال مناقشاته الموسعة في أن تناول قضايا الديمقراطية من زوايا ذكية من قبيل :

–         كيف يتم الانتقال من التنظيم الواحد إلي نظام ديمقراطي؟

–         استحالة الليبرالية المطلقة

–         مقياس فعالية المشاركة السياسية

–         إعلان الأحزاب ما بين الجماهير والقيادة السياسية

–         من يقود عملية التحول الديمقراطي؟

–         ومجلس الشعب بمثابة جمعية تأسيسية

–         وشكل التنظيم السياسي في مرحلة الانتقال

–         وهل يمكن منع تسلط الأغلبية؟

–         ومدي حقوق الحزب الحاكم

–         وهل نتجه إلي الديمقراطية الغربية؟

–         ولا يمكن اصطناع أو تفصيل ديمقراطية جديدة

–         وضرورة التدرج في القرار السياسي بالتحول.

ومن الجدير بالذكر ان الدكتورين أسامة الباز وعلى الدين هلال وعددا من مناظريهما كانوا من معاونيه في هذه المناقشات .

سبب إبعاد المهندس سيد مرعي عن رئاسة مجلس الشعب، علي الرغم من علاقته الوثيقة بالرئيس السادات، يعود إلي معارضته الصريحة والمبكرة لمبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس

 

أما الميدان الثالث الذي أصبح ميدانا جديدا لنشاط المهندس سيد مرعي وفعاليته هو رئاسته لمجلس الشعب، ومن الطريف انه  ثالث وأشهر  رئيس لمجلس الشعب في عهد الرئيس السادات (بعد الدكتور محمد لبيب شقير، وحافظ بدوي)، وقد بقي المهندس سيد مرعي  رئيساً لمجلس الشعب حتي أكتوبر 1978 حيث خلفه الدكتور صوفي أبو طالب.

ويري كثيرون أن سبب إبعاد المهندس سيد مرعي عن هذا الموقع، علي الرغم من علاقته الوثيقة بالرئيس السادات، يعود إلي معارضته الصريحة والمبكرة لمبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس.

وفي أكتوبر 1978 عين المهندس سيد مرعي للمرة الثانية مساعداً لرئيس الجمهورية، وبقي قريبا من رأس السلطة بحكم تاريخه وصداقته الشخصية، فضلا عما يعتقد الناس أنه كان سببا مباشرا ومهما، وهو زواج أحد أبنائه من بنت للرئيس السادات، وإن كنا نري هذا العنصر نتيجة لا سببا.

منح الرئيس السادات قلادة الجمهورية للمهندس سيد مرعي في مطلع عام ١٩٨٠ ولم يكن في منحها له أي قدر من تكريم يفوق قيمته السياسية والتنفيذية .

وفي سبتمبر 1980 عهد إلي المهندس سيد مرعي بتكوين هيئة مستشاري رئيس الجمهورية.

وليس هناك شك في أن سيد مرعي قد انتقد عهد الرئيس جمال عبد الناصر وشخص الرئيس جمال عبد الناصر في عهد الرئيس أنور السادات، ذلك أن سيد مرعي كان نموذجا ممتازا للكفاءات الفنية والإدارية القادرة علي الأداء التنفيذي الممتاز ممتزجا بحس سياسي عميق ، وكان عهد عبد الناصر بكل مقوماته مرحبا بمثل هذا النوع من الكفاءات إلي أبعد حد ، حتي إن ما قد يطلق عليه صراع مراكز القوي لم يكن موجها إلا ضد هؤلاء بحكم ما يتمتعون به من مكانة لدي الزعيم ، ولدي الشعب كذلك . وقد تمكن سيد مرعي من تنمية قدراته وكفاءاته في هذا المجال إلي الحد الذي ارتفع به إلي أن يصبح واحدا من عدد محدود علي أصابع اليدين مؤهلا للقيام بدور أكبر مكانة ونفوذا في الأيام القادمة من عهد عبد الناصر، ولربما وصل سيد مرعي إلي موقع رئاسة الوزارة لو استمر عهد عبد الناصر أعواما قليلة ، فقد كان سيد مرعي يعد نفسه لمثل هذا الموقع وكان عبد الناصر يرحب به في هذا الاتجاه .. ولكن أنور السادات من ناحية أخري كان يري توظيف حنكة سيد مرعي السياسية بأكثر مما يري توظيف حنكته الفنية التكنوقراطية ، ولم يكن أنور السادات بالطبع غافلا عن قدرات سيد مرعي المتعددة ولكنه كان ينتقي منها ما يناسب التحولات التي يقودها السادات هو لا التي يقودها سيد مرعي لنفسه ، وهكذا يصبح سيد مرعي في تلك الحقبة من عهد السادات نموذجا للشخصية المسرحية الخصبة التي يتنازعها مجدان ، مجد تريده ومجد يراد لها ، وربما يفوق المجد المراد لها المجد الذي تريده ولكنها مع هذا تحس بخيبة الأمل حين تفوتها صرة الفضة مع أنها فازت بصرة الذهب أو الألماس أو بالصرتين معا علي نحو ما حدث لسيد مرعي حين فاز بالموقع الأول في مجلس الشعب والاتحاد الاشتراكي ولم يفز برئاسة الوزارة

يذكر التاريخ للمهندس سيد مرعي دوره البطولي (الذي لا يمكن وصفه باقل من هذا اللفظ) في انقاذ الحصان المصري ودعم  مؤسسته ، و من الجدير بالذكر ان سيد  مرعى نفسه كان صاحب إنتاج مميز جدا، وورث الهواية عن أبيه أحمد بك مرعي.  وقد كان هو صاحب الفضل الأول و الأخيرفي الحفاظ على الخيول المصرية بعد ثورة يوليو، بعد ان قوي  اتجاه الحكومة  للاستغناء عن الخيول، واستبدال محطة الزهراء بمزرعة للمواشي أو الدواجن، تطبيقا لفكر محاسبي عقيم  . وقد تولى إدارة منظومة الخيل في مصر بفكر اقتصادي مبتكر حقق للدولة ما كانت تريده، مع الحفاظ على الحصان، حيث نجح في إقناع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بالحفاظ على ذلك التراث، وأن تكون الخيل ثروة قومية لمصر، فترك له عبد الناصر الأمور في ذلك المجال. ونجح في استصدار قرار جمهوري بنقل لجنة تحسين نتاج الخيل التابعة للحكومة “صاحبة السلطة التنفيذية”، من مصلحة الطب البيطري إلي الهيئة الزراعية المصرية. وتم تدشين سجلات لأصائل الخيول بالقطر المصري،  وتولى تسويق الخيول المصرية إلى الخارج بشكل جيد، وشهدت مصر انطلاقة عالمية للخيول. و لولا سيد مرعى لاندثرت محطة الزهراء.

ويفيض المهندس سيد مرعي في شرح هذه النقطة وكأنه يخاطب التاريخ

 

كان سيد مرعي من رواد التعاون الزراعي ، كان شديد الاقتناع بأهميته وجدواه ، وكان يعزو النجاح في تطبيق الإصلاح الزراعي إلي ارتباطه بنظام تعاوني ، وكان هذا رأيه منذ البدء في تطبيقه ، وليس هذا فحسب بل إن سيد مرعي كان ببعد نظر شديد حريصاً علي إنشاء كافة المؤسسات التعاونية ، ويكفينا أن نذكر إنشاء دار التعاون للصحافة والنشر دليلاً حياً علي هذا ، وربما كانت أبرز فكرة سيطرت علي سيد مرعي في هذا المجال هي ذات الفكرة التي عبرت عنها الفقرة التي وردت في «الميثاق» الذي قدمه الرئيس عبد الناصر للشعب والتي توضح هذه الفلسفة بوضوح ، وقد يكون كاتب هذه الفقرة  سيد مرعي نفسه ، واقرأ معي ما يقوله الميثاق : « إن الحلول الصحيحة لمشكلة الزراعة لا تكمن في تحويل الأرض إلي الملكية العامة وإنما هي تستلزم وجود الملكية الفردية للأرض وتوسيع نطاق هذه الملكية بإقامة الحق فيها لأكبر عدد من الأُجراء مع تدعيم هذه الملكية بالتعاون الزراعي علي امتداد مراحل عملية الإنتاج في الزراعة من بدايتها إلي نهايتها .. »

وعلي عادة السياسي الذكي  المؤمن بقيمة الكلمة وأهميتها، والفاهم تماماً لأهمية توثيق الأفكار النبيلة في كتب متداولة ، وضع سيد مرعي كتاباً عن التعاون الزراعي ضم فيه كل وثائقه وقوانينه ، وقدم فيه بياناً واضحاً وشرحاً مستفيضاً للفكرة نفسها وتبريراً كاملاً لكل الصيغ التي قدمتها الدولة من أجل تحقيق الفكرة . ولنا أن نقرأ مقدمته لهذا الكتاب حيث يقول في مطلعها :- « يجدر بنا أن نعتبر صدور القانون الجديد للجمعيات التعاونية الزراعية بداية مرحلة جديدة يدخلها التعاون الزراعي تاركاً خلفه عدة مراحل قطعها شوطاً بعد شوط ، وعاني في خلالها من ضغوط ومعوقات عديدة ، كان أولها ضغط الرأسمالية الزراعية التي عاصرت نشأته الأولي ، وأرادت أن تستحوذ عليه وحققت إرادتها بالفعل لعدة سنوات ، ثم تتابعت بعد ذلك معوقات أخري تراوحت بين السلبية من جانب التعاونيين إلي الاستغلال من جانب المنحرفين »

كان سيد مرعي يبادر بشرح هدفه من  التعريف بنصوص قانون الجمعيات التعاونية الزراعية الجديدة مع تمهيد لها بعرض المناقشات التي جرت في مجلس الأمة خلال نظر القانون مادة بعد مادة ، والغرض الثاني – وهو لا يقل أهمية عن الأول – هو عرض واقع التعاون الزراعي بالحالة التي سبقت صدور القانون ، ليدرك القارئ الحكمة من وراء كل نص في القانون ، ويتبين أن كل مبدأ ورد في هذه النصوص إنما تقرر ليعالج حالة واقعة بالفعل ، وخلال هذا العرض للحالة التي وصل إليها التعاون الزراعي في الفترة السابقة علي إقرار القانون الجديد، فإن الكتاب يعرض أيضاً الحلول السريعة التي قدمتها وزارة الزراعة لمواجهة تلك الحالة والتي كان لابد منها في حينها للقضاء علي أسباب أكبر نسبة ممكنة من الأخطاء انتظاراً لصدور القانون الذي يضع العلاج الكلي للمشكلات دفعة واحدة » .

ويفيض المهندس سيد مرعي في شرح هذه النقطة وكأنه يخاطب التاريخ في الوقت الذي يخاطب فيه قراءه.

نظريته في السياسات التي يستهدفها التشريع الزراعي

شرح سيد مرعي الهدف من صدور القانون الذي تبناه حتي صدر عن  حكومة الثورة من خلال سلطته كوزير نجح  في فرض صياغات تعاونية ذات طبيعة خاصة : « لقد صدر القانون الجديد لينظم أهم وأضخم قطاعات التعاون في جمهوريتنا وهو التعاون الزراعي ، حيث تنتشر 4380 جمعية تعاونية زراعية في قرانا ما بين أقصي شمال الوادي إلي أدني جنوبه تخدم ما يزيد علي ثلاثة ملايين من الفلاحين بهدف حمايتهم من الاستغلال وتوصيل خدمات الإنتاج إليهم في سهولة ويسر بالمعدلات الاقتصادية وفي الأوقات المناسبة عملا علي زيادة الإنتاج الزراعي وتقوية اقتصادنا القومي ».

وقد رسم سيد مرعي السبيل الذي تراه الدولة (في ظل حكم شمولي) كفيلاً بالنجاح في تحقيق الأهداف التي ترجوها للحركة التعاونية ومن الحركة التعاونية : « والآن ونحن بصدد إجراء انتخابات مجالس إدارات الجمعيات التعاونية الزراعية في قري الجمهورية كلها تنفيذاً لما جاء بالقانون الجديد ، يجدر بنا أن نضع أمام أعيننا تجربة التشكيل التعاوني القائم في هذه الجمعيات منذ سنوات … فمما لاشك فيه أن هناك عناصر مستغلة تسللت إلي هذه الجمعيات واحتكرت معظم خدماتها للمنفعة الشخصية مبتعدة عن المصلحة العامة التي قامت من أجلها التعاونيات الزراعية … وبجانبها عناصر أخري انحرفت عن جادة الصواب وحادت عن الخط التعاوني ، وخانت الأمانة التي حملتها فتلاعبت بمصالح الجماهير الكادحة المناضلة من أجل حياة أفضل حتي عمت الشكوى من الجمعيات التعاونية وفقدت ثقة الفلاحين فيها وأصبح تغيير بنيانها أمراً واجباً وأملاً مرتقباً . بيد أن هناك عناصر أخري ممتازة من التعاونيين حازت ثقة مجتمعنا الريفي بما قدمت له من خدمات تعاونية بأمانة وإخلاص ».

قفز سيد مرعي على هذه  النقطة وكأنه يبرر ما انتهجه من سياسة وكان أولي به أن يقود جمهور الفلاحين إلي السبيل الأمثل لاختيار القيادات التعاونية ، ولكنه يفضل أن يعود للحديث عن مبادئ نظرية ، وليس في هذا جديد فكل وثائق الثورة في هذا العهد كانت تمضي علي هذا النحو  مستندة الي قوة النظام القائم . وأمام هذه الأوضاع وغيرها مما تجمع لدينا من مشكلات التعاون الزراعي في جمهوريتنا كان لابد لنا أن نعمل بسرعة لإعادة تنظيم البنيان التعاوني الزراعي باعتباره أحد الأسس الهامة التي يقوم عليها التطبيق الاشتراكي في الزراعة فضلاً عن أنه وسيلة لخلق قيادات واعية تدعم اقتصادنا القومي بمقدرتها علي التعرف علي مشاكل الفلاحين واستكشاف حلولها …

وتحدث سيد مرعي عن دور الثورة يوليو  في نشر سياسات التعاون الزراعي فيبدأ بالحديث عن السبب الجوهري الذي فرض الدعوة إلي وجود التعاون فيقول : « كان من بين أهداف قيام ثورتنا المجيدة القضاء علي الإقطاع وتوسيع قاعدة الملكية الزراعية .. ونجاح هذه المواجهة الثورية لمشكلة الزراعة … هذه المواجهة القائمة علي زيادة عدد الملاك لا يمكن تعزيزها إلا بالتوسيع التعاوني الزراعي … وإلا بالتوسع في مجالاته إلي الحد الذي يكفل للملكيات الصغيرة للأرض اقتصاداً نشيطاً …»

كان سيد مرعي يروج بذكاء لفكرة أن التعاون الزراعي ليس إلا الوسيلة المثلي التي تستطيع الدولة بها أن تحقق تنمية الإنتاج الزراعي

تحدث  سيد مرعي عن الفلسفة التي نظرت بها الثورة إلي الإصلاح الزراعي ، ويستشهد بالميثاق (الذي صدر في 1962) مع أنه هو نفسه  كان قد أرسي هذه الفلسفة بالفعل منذ ما قبل صدور الميثاق بثماني سنوات علي الأقل ولكن هذا لم  يمنع  سيد مرعي السياسي المنتمي [أو الملتزم] بأن ينسب الفضل كله إلي فلسفة الميثاق وينقل عنه قوله :- « إن التعاون الزراعي ليس هو مجرد الائتمان البسيط الذي لم يخرج التعاون الزراعي عن حدوده حتي عهد قريب،  وإنما الآفاق التعاونية في الزراعة تمتد علي جبهة واسعة .. إنها تبدأ مع عملية تجميع الاستغلال الزراعي الذي أثبتت التجارب نجاحه الكبير وتساير عملية التمويل التي تحمي الفلاح من المرابين ومن الوسطاء الذين يحصلون علي الجزء الأكبر من ناتج عمله وتصل به إلي الحد الذي يمكنه من استعمال أحدث الآلات والوسائل العلمية لزيادة الإنتاج .. ثم هي معه حتي التسويق الذي يُمكن الفلاح من الحصول علي الفائدة العادلة تعويضاً عن عمله وجهده وكده المتواصل بالإضافة إلي أن قيام التعاون في المجال الزراعي يقتضي أن تدعم الجمعيات التعاونية حيث يمتد نشاطها علي الجبهة العريضة للفلاحين التي يمكن أن تعمل بها كما يقتضي أن تيسر لهذه الجمعيات وسائل التمويل الملائم لضخامة مسئولياتها حتي يمكن أن توجه جانباً من عنايتها إلي تصنيع الريف”  .

كان سيد مرعي يروج بذكاء لفكرة أن التعاون الزراعي ليس إلا الوسيلة المثلي التي تستطيع الدولة بها أن تحقق تنمية الإنتاج الزراعي ، وذلك حيث يقول :- « وقد رسمت الدولة سياستها للنهوض بالإنتاج الزراعي وتنميته ليحقق أهداف الخطة العامة للبلاد وهي مضاعفة الدخل القومي كل بضع عشر عاماً معتمدة علي الجمعيات التعاونية كأساس لتنفيذها وتحمل أعبائها .. بحسبانها تنظيمات شعبية تستطيع أن تقوم بدور فعال في التمكين للديمقراطية وأنها معين لا ينضب للقيادات الواعية التي تلمس بأصابعها مباشرة أعصاب الجماهير وتشعر بقوة نبضها علاوة علي أنها أقدر علي التعرف علي مشاكل الفلاحين وعلي استكشاف حلولها ».

ويؤكد سيد مرعي علي الانتشار الواسع للجمعيات التعاونية الزراعية حتي إنها غطت كل أنحاء الجمهورية فيقول :- « وعلي هدي من تلك السياسة انتشرت الجمعيات التعاونية الزراعية في كافة أنحاء الجمهورية فلم تعد هناك أرض زراعية لا تخدمها أو تخدم زراعها جمعية تعاونية زراعية نتيجة للمصلحة المشتركة بين الدولة ، والجمعيات التعاونية ، واتحاد أهدافها مع الحركة التعاونية الزراعية ، والالتقاء الطبيعي بين السياسة العامة للدولة في القطاع الزراعي وبين سياسة الحركة التعاونية الزراعية التي تستهدف الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمنتجين الزراعيين » .

كان سيد مرعي يشير الي ما نجح فيه من أن الجمعيات التعاونية طورت نشاطها بحيث أصبحت لها كلمة في السياسة الزراعية وفي تنفيذ هذه السياسة : « وبذلك أخذت الجمعيات التعاونية تبدي اهتماماً بالسياسة الزراعية وتوجه نشاطها إلي ما يدعم أهداف هذه السياسة بعد أن كانت مجهوداتها تقتصر علي القيام ببعض عمليات الائتمان البسيط الذي كان يستغل جزء غير قليل منه لسد حاجات استهلاكية ولا يوجه بأكمله للإنتاج الزراعي ».

وكان  سيد مرعي أن ينبه إلي الدور الذي قام به الإصلاح الزراعي (بقيادته طبعاً) في تأسيس أولي الجمعيات التعاونية الزراعية ، وهنا يجدر بنا أن ننقل فقراته التي تروي هذه النشأة التي جاءت طبيعية ومنطقية وذات جدوي مفيدة فيالوقت نفسة في مجال ما يسمي «بالتعاون الموجه» ، يقول سيد مرعي : « وكان صدور قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر 1952 حجر الأساس لتكوين جمعيات تعاونية للإصلاح الزراعي ممن آلت إليهم الأرض المستولي عليها في القرية الواحدة . وكانت هذه الجمعيات تجربة رائدة في مجال التعاون الموجه المشرف عليه بمناطق الإصلاح الزراعي بقصد تمكين الملاك الجدد للأراضي الموزعة من مباشرة الانتاج والتمويل اللازمين طبقاً لحاجات الأرض المملوكة وتوفير التنظيم والإدارة الفنية والارتفاع بمستوي الخدمة والعمل باستخدام الآلات الزراعية الحديثة كل ذلك في ظل توجيه وإرشاد هادف إلي زيادة الإنتاج وتنظيم الدورة الزراعية المناسبة دون المساس بالملكية الفردية المقررة المحدودة وصولاً إلي مزايا الإنتاج الكبير الأمر الذي كان له أكبر الأثر في إمكان تنظيم وتجميع الاستغلال الزراعي حتي عم جميع الجمهورية عام 1963 بعد أن تمت تجربته بنجاح بقرية «نواج» عام 1959 .

ويعطينا سيد مرعي بعض البيانات الإحصائية الهامة فيذكر أنه « تكونت بحكم قانون الإصلاح الزراعي حتي الآن 663 جمعية محلية ، 56 جمعية مشتركة في أراضي الإصلاح الزراعي إلي جانب جمعيات تعاون محافظتي كفر الشيخ وبني سويف البالغ عددها 429 جمعية محلية ، 13 جمعية مشتركة ويبلغ عدد أعضاء هذه الجمعيات 448 496 عضواً …

أشار سيد مرعي  بوضوح إلى أن الأمر اقتضي إنشاء سلطة مركزية أو أمانة مركزية تتولي قيادة وتنسيق عمليات التعاون الزراعي علي مستوي الوطن كله ، ولكنه يقدم لنا الأمر كما لو كان قد حدث بطريقة طبيعية وتلقائية جداً  و ذلك حيث قال : « وعلي قمة التنظيم التعاوني للإصلاح الزراعي قامت الجمعية التعاونية العامة للإصلاح الزراعي لتتولي أعمال التوريد والتمويل وتنظيم التسويق التعاوني والتوسع في مجالاته وأداء الخدمات والمشروعات العامة داخل القطاع مع توفير التوجيه والإرشاد ومباشرة التفتيش والرقابة علي أعمال الجمعيات في ظل المصلحة المشتركة المتبادلة بين هذه الجمعية وباقي جمعيات الإصلاح الزراعي»

ومع هذا كله فإن سيد مرعي لا ينكر السلبيات التي واجهت النظام التعاوني ويتحدث عنها في شيء من الوضوح والصدق

وقد تحدث سيد مرعي عن نشأة نظام الائتمان الزراعي والتعاوني (علي سبيل التجريب والاختبار أولاً) وما قابل هذه التجربة من مشكلات وتحديات وما قامت به الثورة وحكومتها من أجل التغلب علي هذه المشكلات بهدف إتاحة الانطلاق للحركة التعاونية ، فيقول :- « وفي عام 1956 عُدل قانون التعاون ليتيح للحركة التعاونية الزراعية انطلاقاً من القيود التي عاقت تقدمها تجاه أهدافها .. وفي نفس العام وعلي ضوء نظام تمويل الجمعيات التعاونية للإصلاح الزراعي بدأت تجربة الائتمان الزراعي والتعاوني في بعض الجمعيات التعاونية الزراعية خارج مناطق الإصلاح الزراعي ثم تعميمه علي جميع الجمعيات في كافة محافظات الجمهورية عام 1961 . وأساس هذا النظام قصر التعامل بالأجل مع بنك التسليف الزراعي والتعاوني علي الجمعيات التعاونية الزراعية وتيسير التعامل لزراع الأرض من المستأجرين دون اشتراط الحصول علي ضمان المالك وأن يكون التسليف بضمان المحصول بجانب تطوير نشاط الجمعيات التعاونية الزراعية ليتجه نحو تكامل الخدمات الاقتصادية تبدأ بإعداد الأرض للزراعة وتنهض بالتسويق التعاوني للمحاصيل ». وهكذا نكتشف مدي السرعة الرهيبة التي تم بها التحول بنظام الائتمان من التجريب إلي التصميم في 3 سنوات فقط .

وقد تحدث  سيد مرعي عن الضمانات التي ارتأتها الدولة ضرورية لاستمرار النجاح فيقول :- « ولكي يأتي هذا النظام بالثمار المرجوة كان لابد أن يحاط بضمان يحقق هذه الأهداف وأن يقوم علي عمد قوية يهييء له النجاح ، من بينها قيام بنك التسليف الزراعي والتعاوني بمد الجمعيات التعاونية الزراعية بالمشرفين التعاونيين مع تعيين مشرف زراعي لكل جمعية مهمته الإرشاد (والتوجيه الفني الزراعي من تنظيم زراعة أراضي الأعضاء وحسن استغلال الأرض) وتوجيه السلف والقروض لصالح الإنتاج،  بجانب هذا روعي توفير الرقابة الشعبية من جانب الأعضاء لتفادي إساءة استعمال السلف والقروض ومراقبة انتظام السداد من جانب المقترضين”

وهكذا فان الائتمان الزراعي أصبح بمثابة مؤسسة اقتصادية المشرف الزراعي لم يعين من قبل بنك التسليف بل من وزارة الزراعة ، ولذلك فان توفير الارشاد العلمي والفني لم يكن من خلال البنك . ولذلك أري تعديل الفقرة الثانية لتصبح علي النحو الموضح تقوم بتوفير المال اللازم للتمويل كما تقوم بتوفير الإرشاد العلمي والفني الكفيل بالنجاح الانتاجي علي أساس علمي . ويمضي سيد مرعي كما فعل من قبل في تناوله  للجمعيات الزراعية فيروي لنا نشأة المؤسسة التعاونية الزراعية (1960) والتي كانت بمثابة اليد القابضة في هذا النشاط فيقول : « ورعاية من الثورة للتعاون وتقديراً منها لأهميته في مرحلة التطوير الاشتراكي أنشئت المؤسسة التعاونية الزراعية عام 1960 لتقوم برسم السياسة العامة للقطاع التعاوني وتنميته عن طريق توفير المعونة الفنية والمالية للجمعيات التعاونية وتوجيه نشاطها والإشراف عليها بما يكفل لها الاستقرار والبعد عن الاستغلال مع العمل علي زيادة الإنتاج الزراعي وتحسينه مساهمة في تنمية الدخل القومي ورفع مستوي الزراع الاقتصادي والاجتماعي » .

ومع هذا كله فإن سيد مرعي لا ينكر السلبيات التي واجهت النظام التعاوني ويتحدث عنها في شيء من الوضوح والصدق فيقول : « لاشك أن الجمعية التعاونية عصب الإنتاج في القرية … ومن الضروري أن تقوم الصلة بين الفلاح وجمعيته التعاونية علي أساس متين من الثقة المتبادلة حتي يتسني للزراع الاستفادة من الإمكانيات التي تتاح لهم عن طريق الجمعية ويقضي علي المشاكل التي يشكو منها الزراع والتي ينتج أغلبها من تركيز جميع الأعمال الخاصة بالإقراض والإشراف الزراعي في مجلس إدارة الجمعية والمشرف الزراعي وهي عمليات ضخمة تأثرت بالطبع بالانحرافات المتعددة التي ظهرت في الجمعيات التعاونية بين وقت وآخر مما أطاح بثقة الأعضاء في جمعيتهم التعاونية … ومما لاريب فيه أن نجاح الجمعية في أداء  رسالتها إنما يتوقف علي مدي إخلاص مجالس الإدارات وفاعلية الرقابة علي أعضائها … كما أن فشلها إنما يرجع إلي تهاون مجالس الإدارات وإهمالها في أداء المطلوب منها أو انحرافها » .

وهكذا يرجع سيد مرعي أسباب المشكلات إلي الجمعيات نفسها ومجالس إدارتها ويرمي بالكرة في ملعب الجماهير ، ولكنه مع هذا يعطي دوراً له كسلطة في دراسة الأمور فيقول : « ولذلك تطلب الأمر إجراء دراسة شاملة للجمعيات الحالية تستهدف البحث عن سبل تفادي هذه الانحرافات والقضاء علي أسبابها ».

كانت هذه الازمة نموذجا للأزمات  السياسية في ظل البيروقراطية المصرية التي لم تكن قد ترهلت علي هذا النحو  الذي نعيشه اليوم . وهي في جوهرها نموذج صارخ ومبكر للجرم الذي نرتكبه حين تتحول بالمسئولية من مسئول إلي لجنة .. أو من متخصص إلي متحمس ، أو من طموح إلي موظف !! ومع هذا لا نستطيع أن نبرئ المسئول ولا المتخصص ولا الطموح .. وإلا سرنا في طريق 5 يونيو 1967 . وقد روي سيد مرعي نفسه  في كتابه “أوراق سياسية” (قصة استبعاده من  منصب وزير الزراعة في أوائل الستينات علي النحو التالي :

“…. كان موضوع الاجتماع هو التشكيل الوزاري الجديد.. وعندما جاء الدور للحديث عن القطاع الزراعي اقترح علي صبري اسم عبد المحسن أبو النور – وكيل المخابرات السابق – ليكون نائباً له ووزيراً للزراعة. وأيد عبد الحكيم عامر الاقتراح.. قائلاً إنه يبدو أن عبد المحسن أبو النور قد بذل مجهوداً في إعداد طائرات الرش أثناء المرحلة الأخيرة من كارثة دودة القطن . وتساءل الرئيس جمال عبد الناصر : ولماذا لا ترشحون سيد مرعي ؟ قال عبد الحكيم عامر : إن سيد مرعي لم يعد يصلح لهذا العمل بعد كارثة الدودة.. وتساءل الرئيس من جديد : ولكن أحمد المحروقي هو الذي كان وزيراً تنفيذيا للزراعة.. فهل سيستمر في العمل هو الآخر؟ قال علي صبري : إن المحروقي لا ذنب له .. والمسئولية كلها هي مسئولية سيد مرعي… رد الرئيس جمال عبد الناصر : ولكن المعلومات التي تأكدت منها بنفسي تبين أن المحروقي هو المسئول، وبالتالي فهو الذي يجب أن يخرج من الوزارة.. وسيد مرعي يستمر.. رد عبد الحكيم عامر : إذن .. ممكن نقبل ترشيح علي صبري لعبد المحسن أبو النور كنائب لرئيس الوزراء لقطاعي الزراعة والري.. ونخلي سيد مرعي وزيراً للزراعة . تساءل جمال عبد الناصر : وتفتكروا أن سيد مرعي يقبل ؟ رد عبد الحكيم عامر : لو أنت جئت به وتحدثت أنت معه .. فإنه سوف يخجل منك ويقبل الترشيح .. قال جمال عبد الناصر : وهل يستمر إنسان في عمل .. بناء علي خجل  ثم أنا لا أتوقع – بغض النظر عن حكاية الخجل – أن يقبل سيد مرعي هذا الوضع ، وعلي أي حال ، فطالما أنكم متمسكون بعبد المحسن أبو النور إذن فليأت .. واختاروا وزيراً آخر للزراعة غير سيد مرعي وغير المحروقي . وفعلاً .. جاء علي صبري بالدكتور شفيق الخشن ، عميد كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية وقتها، ليكون وزيراً  للزراعة ، وأصبح عبد المحسن أبو النور نائباً لرئيس الوزراء للزراعة والري والإصلاح الزراعي” .

وقد عقب سيد مرعي : ” تلك هي القصة التي عرفتها فيما بعد من صديق كان حاضراً الاجتماع ، ولكن في تلك اللحظة التي طلبني فيها علي صبري كان عندي صديقي الفار ، لم أكن أعرف شيئاً من هذا بعد.. وبالتالي فإنه عندما أبلغني بعدم وجودي في الحكومة الجديدة ، تملكني شعوران متضادان من السعادة والاكتئاب . لم يكن الاكتئاب حزناً علي منصب وزاري.. فهموم هذا المنصب لا يعلمها إلا من يجربها.. ولكن الاكتئاب كان بسبب تلك الحملات المستمرة من التشهير والتجريح التي كانت قد بدأت ضدي في الأشهر الأخيرة .. في ظل وجودي في الوزارة أستطيع علي الأقل أن أعرفها وأرد عليها .. أما خارج الوزارة فريما لن أعرفها وربما أيضاً لن أتمكن من الرد عليها . أما السعادة فبسبب أنني كنت في الفترة الأخيرة قد وصلت إلي درجة من “القرف” والغثيان مما يقال ضدي إلي الدرجة التي جعلتني أقول : فليذهب المنصب إلي الجحيم ، فربما كان وجودي في الوزارة هو أحد الأسباب الدافعة إلي ترويج تلك الشائعات.. وهكذا يصبح خروجي من الوزارة مهدئاً لهؤلاء المنطلقين ضدي.. خصوصاً وأن التجريح كان قد بدأ يمتد إلي المعاونين الذين يعملون معي في قطاع الزراعة . وهكذا إذن أغلقت سماعة التليفون بعد انتهاء مكالمة علي صبري – رئيس الوزراء الجديد – معي .. لكي أنقل الخبر إلي أصدقائي علي مائدة العشاء . وخيم علي مائدة العشاء وجوم كامل .. بعدها بلحظات بدأ الأصدقاء يفسرون سبب وجومهم . إن المسألة الأساسية كما يرونها هم ، هي أن خروجي من الوزارة يأتي في وقت غير مناسب .. حيث لم تحسم حقيقة الشائعات المترددة ضدي .. وحيث لا يعلم أحد في مصر براءتي منها سوي الرئيس جمال عبد الناصر وعدد قليل جداً من الأصدقاء والمعاونين ولأن الناس سوف تربط بين خروجي من الوزارة وبين كارثة القطن قبل شهور قليلة .. ولن تتأتي لي أبدآً فرصة الإدلاء علنا بالحقيقة . وانتهت الليلة عند هذا الحد، وفي اليوم التالي أذيع التشكيل الوزاري ثم – كما هو متوقع طبعاً – وبدأت أتلقي (التعازي) من الذين يزورونني في المنزل ! . وفي اليوم الأول كان منزلي لا يتسع للزائرين من كبار موظفي وزارة الزراعة وعمال الإصلاح الزراعي . بعضهم انفعل . وبعضهم بكي .. مما هزني نفسياً فعلآً.. ولكنني كنت أقول لهم إن المناصب الوزارية هي مناصب سياسية وإن هذا التغيير لا يعني أي شيء وإن التفاتهم لعملهم سوف يجعلهم محل تقدير وثقة من الوزير الجديد.. وأي كلمات عامة بالطبع أداري بها الحرج النفسي الحقيقي الذي أشعر به ، ولكي أحلهم من واجب المجاملة الذي أعلم تماماً أنهم سيدفعون ثمنه. بعد بعد أيام بدأ الزوار يتناقصون ..  بعد أسبوع أصبحوا يعدون علي أصابع اليد الواحدة..

وطلبت مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر .. فلم أتلق رداً .. بعدها هداني تفكيري إلي أن أبادر أنا بطلب التحقيق معي لقطع ألسنة من يتحركون ضدي

تحدث سيد مرعي عن معاناته من الشائعات التي لاحقته حتي قبل خروجه من الوزارة وكيف أصبح يعاني صراعاً نفسياً عميقاً من جراء هذه الشائعات التي تمسه دون تحقيق .:

“وطلبت مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر .. فلم أتلق رداً .. بعدها هداني تفكيري إلي أن أبادر أنا بطلب التحقيق معي لقطع ألسنة من يتحركون ضدي في حملة تشهير واسعة ومنظمة لا أستطيع أبداً معرفة مصدرها علي وجه الدقة .. وذهبت إلي زميلي في الوزارة ، أحمد حسني وزير العدل .. واجتمعت به في حضور المهندس أحمد عبده الشرباصي وزير الأشغال.. وقلت لأحمد حسني : إن ما يحدث الآن في قطاع الزراعة وإصلاح الأراضي هو تخريب ، وأنا وزير مركزي للقطاع كله جالس أتفرج ، بل والشائعات تتناولني شخصياً بالتجريح وبطريقة لا يمكن أن يقبلها إنسان.. إن إحساسي هو أن جهة ما .. أو أشخاصاً ما في هذا البلد .. حريصون علي جرجرة سيد مرعي إلي أي شيء للتشهير به ..قاطعني أحمد حسني ، وكان رجلاً هادئاً ورزيناً ونزيهاً جداً ، وقال : إهدأ.. إهدأ.. فالمسألة لا يمكن أن تكون بهذا الشكل.. وفي النهاية نحن لدينا قضاء في غاية النزاهة .. قلت لأحمد حسني : كيف أهدأ وأنا أري أمامي خيوط مؤامرة للايقاع بي شخصياً؟ تساءل أحمد حسني بهدوء واستسلام : إذن .. ماذا تقترح علي أن أفعله؟  قلت : تستطيع أن تفعل شيئاً مؤكداً .. هو أن تحقق معي.. رد أحمد حسني : كيف هذا ؟ أنت وزير .. وأنا لا أستطيع حتي أن آخذ أقوالك في شيء لم ينسب إليك رسمياً .. قلت : لا .. إنك تستطيع .. وتستطيع ذلك بإحدي طريقتين .. إما كشاهد وإما كمتهم، وأنا لا تعنيني الصفة ولا الإجراءات ، ولكن يعنيني أن تتضح الحقيقة وتخرس الألسنة . ورفض أحمد حسني مجرد الفكرة .. ولكن أحمد عبده الشرباصي انضم إلي في ضرورة أخذ أقوالي بأي صورة حسماً للأمر كله.. واضطر أحمد حسني أن يذعن لإلحاحنا – الشرباصي وأنا – فقال لي في النهاية : طيب ، لا مانع من ذلك ، ولكن يجب أولاً أن أستأذن .. الرئيس جمال عبد الناصر.. وبعد أيام اتصل بي أحمد حسني وأخبرني بأنه استأذن الرئيس ، وأن الرئيس قد وافق ..وأنه بالتالي سوف يرسل لي رئيس نيابة في الوقت الذي أحدده لكي يأخذ أقوالي. وفي اليوم التالي جاءني رئيس النيابة في المساء لكي أدلي إليه بكل أقوالي عن موضوع السمنة واستصلاح الأراضي . وقال لي رئيس النيابة : سيادتك وزير مركزي للتخطيط.. فهل يجوز أن تتدخل في عملية تنفيذية كالأمر بشراء ماكينات لاستصلاح أراض جديدة؟ وكان ردي هو : إن هذا السؤال يجب أن يوجه إلي الرئيس جمال عبد الناصر نفسه الذي أرسل إلي خطاباً مكتوباً يكلفني فيه بمساحة محددة يجب استصلاحها.. وفترة محددة يجب أن يتم فيها ذلك .. وتفويض محدد في إنجاز هذا العمل.. قال المحقق : يقال إنك وجهت المسؤولين عن التنفيذ إلي شراء ماكينات من السوق المحلي .. أليس هذا تقييداً لشروط العطاءات ، والتي يجب ألا تكون مقيدة ؟ قلت : لا طبعاً.. إنما أنا لم أتدخل في أي شيء سوي إعطاء هذا التوجيه العام ، لأنهم لو انتظروا إلي حين ورود عطاءات من الخارج والبت فيها ثم تحويل النقد الأجنبي اللازم لها ثم استيرادها .. فإن الأمر سوف يستغرق زمناً طويلاً يجب علي أن اختصره لهذا أنا طلبت – تحقيقاً للسرعة – أن يتم شراء الماكينات من السوق المحلي .. وباقي التفاصيل وعملية الاختيار والبت والتنفيذ  تركتها للوزير التنفيذي وللمسئولين أنفسهم بغير أن يكون لي بها أدني علاقة».

وبعد خروجه من الوزارة في أكتوبر 1961 عينه الرئيس عبد الناصر في منصب العضو المنتدب لمجلس إدارة بنك مصر في مارس 1963، وتجدد هذا التعيين في 1966 أيضا.

كان المهندس سيد مرعي   حريصا بحسه السياسي والشعبي علي أن يحتفظ بتمثيله لدائرته في البرلمان، وفي إبريل 1964 أصبح المهندس سيد مرعي  وكيلاً لمجلس الأمة الجديد الذي رأسه أنور السادات.

وبالإضافة إلي البرلمان شارك المهندس سيد مرعي  في نشاط الاتحاد الاشتراكي، وتولي أمانة شئون الرأسمالية في نهاية 1964.  وقد عبر سيد مرعي عن سعادته بعمله  عضوا منتدبا لبنك مصر حتى انه قال أن هذه الوظيفة  كانت أسعد فترات حياته:

: ” استدعاني رئيس الوزراء علي صبري لمقابلته في مكتبه بقصر القبة.. وفي بداية المقابلة بادرني علي صبري بتوضيح شيء جوهري .. قال يجب أن تعرف مبدئياً أنني مكلف بتوجيه بعض الأسئلة إليك وأن الاجابات التي ستقولها سوف أنقلها حرفياً إلي الرئيس جمال عبد الناصر .  أولا : هل أنت متعاون مع النظام أم لا ؟ واندهشت جداً من السؤال فقلت .. طبعاً متعاون مع النظام . قال علي صبري .. إذن هل ترفض العمل في بنك من البنوك؟ قلت.. نعم  تساءل علي صبري .. لماذا ؟ قلت .. لأنه ليس مجال عملي أو تخصصي.. قال علي صبري.. لكن كيف تقرر أنك متعاون مع النظام وفي نفس الوقت ترفض مسئولية يعرضها عليك الرئيس جمال عبد الناصر.. وأحسست أن هناك عدم اقتناع كامل بالسبب الوحيد المقنع الذي قدمته بإخلاص . فقلت متسائلاً.. أولا .. أنا خارج لتوي من حملة ضخمة للتشهير ضدي ولا أتحمل مثل هذه الشكوك في ولائي أو عدم ولائي للنظام.. ثانيا .. ما هو المنصب أساساً الذي تريدونني فيه ؟ قال علي صبري .. الرئيس يرشحك رئيساً لمجلس إدارة بنك مصر ،  تساءلت .. بدلا من من ؟ قال .. بدلا من محمد رشدي.. قلت مذعورا:ً .. أبداً.. هذه بالذات لا يمكن ..وأرجو أن تتفهموا عذري في هذه المرة.. إن محمد رشدي هو ابن المرحوم رشدي بك الذي كان جاراً لنا في العباسية، ولم يكن يفصل منزله عن منزلنا سوي متر واحد وكان رشدي بك صديقاً جداً لوالدي.. و عندما كان يزور والدي في منزلنا كنا أطفالا ولم نكن نجرؤ عي المرور أمام الحجرة التي يجلسان فيها ، وبالإضافة إلي ذلك فإن محمد رشدي نفسه كان صديق الصبا لأخي محمد الذي مات غريقاً في العزيزية . احتار علي صبري قليلاً ثم تساءل.. إذن ما العمل؟ قلت :هل هناك شيء ضد محمد رشدي؟ أجاب : لا .. قلت إذن ما رأيك في أن أكون أنا عضواً منتدباً للبنك، ويظل هو رئيساً لمجلس الإدارة.. هذا إذا كانت وظيفة العضو المنتدب شاغرة. وطلب علي صبري من سكرتيره أن يتحرى الأمر.. وبعد دقيتين ردوا عليه بأن للبنك عضوين منتدبين، أحدهما أحمد فؤاد.. وهناك مكان آخر شاغر. قلت له علي الفور: حسناً .. إذن أنا أقبل العمل كعضو منتدب.. تساءل هو مندهشا: ولكن كيف تقبل هذا ؟ قلت: إني أقبل هذا.. لأن الشخص الوحيد الذي أقبل أن يدق جرساً ويقول نادوا لي سيد مرعي، وأنفذ له هذا عن طيب خاطر هو محمد رشدي.. وفعلاً بعد يومين أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراراً جمهورياً بتعييني عضواً منتدباً لبنك مصر.. ولم أكن أعرف بعد أن فترة عملي بالبنك سوف تكون من أسعد فترات حياتي.. لقد بدأت عملي الجديد هذا، وسط أناس أحبهم وأري البساطة والصدق في مشاعرهم.. ابتداء من محمد رشدي نفسه إلي أصغر موظف بالبنك.. وبالإضافة إلي هذا فإن طبيعة عمل البنوك تجعل سير العمل فيه منتظماً جداً … والإجراءات تسير في سهولة ويسر .. بحيث إن الوظائف الرئاسية تكون فعلا متفرغة لما هي موجودة من أجله .. وهو التخطيط والمتابعة”

علي الصعيد الدولي مثل المهندس سيد مرعي  مصر في مؤتمر الأغذية والزراعة الإقليمي (ديسمبر 1958) فانتخب رئيسا للمؤتمر، وفي السنة التالية نائبا لرئيس المؤتمر (نوفمبر 1959)، وقد حقق المهندس سيد مرعي  بعض النجاحات البارزة فقد اختير عام 1963 ضمن ستة مستشارين عالميين لبحث ودراسة اختصاصات كل من منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية في مشروعات الإصلاح الزراعي، وقد حرر تقارير ممتازة عن تصوره لحل أزمة الغذاء العالمي، وعلي الصعيد البرلماني الدولي اختير المهندس سيد مرعي  نائباً لرئيس مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي الثالث والخمسين (سنة 1964)، كما شارك في ذلك المؤتمر (1965).

وعلي صعيد العمل السياسي الخارجي كان للمهندس سيد مرعي  دور في منظمة التضامن الأفرو آسيوية فقد كان أحد أعضائها عند إنشائها برئاسة أنور السادات في الخمسينات وتولي رئاسة اللجنة المصرية للتضامن بعد اغتيال يوسف السباعي، ويذكر الأستاذ أحمد حمروش في رثائه للمهندس سيد مرعي  أنه استقال من التضامن في 18 مايو 1981 بعد ما نجح الاتحاد السوفيتي في تعديل ميثاق التضامن بما يمكنه من فرض سيطرته عليه.

وقد كان المهندس سيد مرعي  قليل الخصومات، وفيما عدا خصومته المنطقية و المتأخرة مع عزيز صدقي

 

نجح المهندس سيد مرعي  في أن يحقق توازنات محسوبة بين توجهاته الشخصية، وتوجهات الجماعات التي ينتمي إليها، وتوجهات نظام الثورة الحاكم في مراحله المختلفة، وقد مكنه ذكاؤه من اتباع نهج متميز من المرونة الفكرية، وعلي سبيل المثال فإنه حسب روايته ( وهي رواية قريبة من الحقيقة)  استطاع أن يخفي علي حميه حقيقة توجه الثورة إلي فرض المرحلة الثانية من قانون الإصلاح الزراعي، بينما كان الرجل قد علم بنية الثورة، وهو ما أدي بالطبع إلي أن خسر الرجل بعض أرضه، علي حين أثبت المهندس سيد مرعي  ولاءه للنظام والفكرة، وحين كان علي المهندس سيد مرعي  أن يقود  (أو أن يوجه) عمليات تحول (متكررة) في التوجهات السياسية في منتصف السبعينيات، فإنه فعل هذا بأقل الخسائر مستندا إلي نقاط الاتفاق العمومية، ومبتعدا عن نقاط الاختلاف والتنافر، وكان سلوكه السياسي والشخصي بمثابة ضمان جيد لجماعات المعارضة في عهد الرئيس السادات، متفوقا بذلك علي كل خلفائه منذ ذلك الحين.

وقد صور المهندس سيد مرعي  لفترات طويلة رمزا لطبقات الموسرين فيما قبل الثورة، وقد كان هذا من حسن حظ هذه الطبقات في الأدبيات التي انتقدتها، ذلك أنه في مجمل حياته كان مواطنا ملتزما ذا جانب أخلاقي واجتماعي وإنساني رفيع، حتي إنه لم تعرف عنه هفوات الفساد المرتبطة في الأذهان بسلوك المترفين رغم ما كان يصور عن ترفه، وقد ظل حريصا علي صورته وتاريخه، كما ظل علي صلة دائبة بالشعب وطبقاته المختلفة، حريصا علي عضوية البرلمان، وعلي أداء دوره فيه.

وقد كان المهندس سيد مرعي  قليل الخصومات، وفيما عدا خصومته المنطقية و المتأخرة مع عزيز صدقي (صنوه التنفيذي)، أو خصومته التقليدية مع الدكتور مصطفي الجبلي (الذي خلفه في وزارة الزراعة)، فقد تمتع بعلاقات سياسية متزنة، ومع أنه كان أقرب إلي التوجه المعجب بالأمريكيين وسياستهم وحضارتهم، فإنه حافظ (في خطابه السياسي، وأدائه التنفيذي علي حد سواء) علي ملامح اشتراكية ويسارية كفلت له النجاة من أن تكون صورته في أدبيات السياسة شبيهة بالصورة التي تكونت عن زكريا محيي الدين، وعبد المنعم القيسوني، ومصطفي خليل، ومجموعة السياسيين الآخرين المعروفين بهذه التوجهات.

وقد احتفظ لأطول فترة بمكانة بروتوكولية متقدمة، وقد مكنه ذكاؤه من الإجهاض المبكر للمحاولات المتكررة التي حاول أحد أصدقائه الصحفيين من خلالها  تدمير موقعه السياسي، وإيذاء صورة نظام الرئيس السادات بهذا التدمير.

وقد تجلي نجاحه هذا في اختيار الرئيس السادات له دون غيره بتسلم جائزة نوبل له بالنيابة عنه، علي الرغم من أنه كان أكبر شخصية تحفظت علي  (أو حتي عارضت)   مبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس.

نشر الباحث الأسترالي روبرت سبرنج بورج عن المهندس سيد مرعي  دراسة تحت عنوان «العائلة والسلطة والسياسة في مصر»

 

هذا وقد نال المهندس سيد مرعي  كثيراً من التكريم  المحلي والعربي والعالمي فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة واشنطن عام ستين (1960) كما منح وساماً سورياً رفيعاً (1958) ومنح وسام قلادة الصليب الأكبر من اليونان ، كما كرمته نقابة الزراعيين في أول احتفالاتها.

نشر المهندس سيد مرعي  مذكراته «أوراق سياسية» في 1978 في ثلاثة أجزاء، وقد تدارسناها بالتفصيل في كتابينا  «مذكرات وزراء الثورة»، و«أهل الثقة وأهل الخبرة»

نشر الباحث الأسترالي روبرت سبرنج بورج عن المهندس سيد مرعي  دراسة تحت عنوان «العائلة والسلطة والسياسة في مصر»، وترجمتها دار التعاون، قبل أن ننشر كتبانا عنه في سلسلة تاريخ مصر المعاصر في مكتبة مدبولي ١٩٩ بعنوان ” سيد مرعي: شريك و شاهد علي عصور الليبرالية و الثورة والانفتاح، مكتبة مدبولي ١٩٩٩.  وقد تناولنا في  هذا الكتاب دوره في السياسة المصرية خلال الفترة من 1944 وحتي 1981، ، بداية بانتخابه في مجلس النواب غير الوفدي 1944 ـ 1949، ثم مشاركاته بعد الثورة من خلال اللجنة العليا للإصلاح الزراعي، ثم عمله كوزير للإصلاح الزراعي 1956، وللزراعة 1957 ـ 1961، ثم 1967 ـ 1972، ثم كأمين للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي 1972 ـ 1974، ورئيس لمجلس الشعب 1974 ـ 1978، ثم مساعد لرئيس الجمهورية 1978 ـ 1981، ورئيس مؤسس لما سمي هيئة المستشارين. وتناولنا تجارب سيد مرعي في الانتخابات، والممارسة البرلمانية، وتكوينه الاقتصادي، وعضويته في مجلس إدارة بنك مصر، وفشله في تجربة التنظيم الطليعي.

كما استعرضنا فكره في قضايا الديمقراطية والليبرالية وقضية إدارة التنمية والإدارة التنفيذية وإدارة الأزمات والتنمية الزراعية والعدالة الاجتماعية والسلام، من خلال مناقشة أفكاره المكتوبة والمسجلة في محاضر الاجتماعات والندوات ومن خلال أدواره، وفي استعراضنا لأدواره السياسية تناولنا دوره في الحياة السياسية قبل الثورة ودوره في إنشاء نقابة المهن الزراعية ، و دوره في قطاع الزراعة وإنشاء مصيف المعمورة ودوره في أحداث 14 و15 مايو، ودوره في المسئولية عن الاتحاد الاشتراكي العربي، ودوره في رئاسة مجلس الشعب، وتكوينه هيئة المستشارين.  واستعرضنا طبيعة وأزمات علاقاته بالرئيس السادات وأزماته مع رؤساء الوزراء، وصراع القوة مع عزيز صدقي، وأزمته مع كمال الدين حسين في مشكلة دودة القطن في الستينيات، وأزمته مع عبد العزيز حجازي، وقصة فشله في انتخابات اللجنة التنفيذية العليا، ويقدم في النهاية نبذة عن علاقاته بكبار الصحفيين.

كما تناولنا موقفه من العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، وتظاهرات الطلبة ١972، ثم عرضنا بالمناقشة لبعض الأخطاء التي شابت وجهات النظر التي قدمها الباحث الاسترالي روبرت سبرنج يورج، وقدمنا  قوائم ببليوجرافية كاملة بآثاره الفكرية والسياسية وبما كتب عنه في الدوريات.

في 6 أكتوبر 1981 أصيب المهندس سيد مرعي  إصابات بالغة في حادث المنصة الذي اغتيل فيه الرئيس السادات ، وقضي وقتاً طويلاً في العلاج حتي إذا ما تحسنت صحته وأصبح قادراً علي الحركة استقبله الرئيس حسني مبارك وقبل طلبه بإعفائه من منصب مساعد رئيس الجمهورية وبعدها (نوفمبر 1982) عهد إليه الرئيس حسني مبارك بالقيام بزيارات تفقدية لمشروع الصالحية . وانصرف المهندس سيد مرعي  إلي إبداء الرأي الهادئ بالصوت الخافت  فيما يواجه وطنه من أحداث

وفاته

أصيب المهندس سيد مرعي  بجلطة في المخ في يوليو 1992 عولج منها في مستشفى الفيروز ولم يعش بعدها إلا قليلا.