في الذكرى البائسة: الخطيئة التي أضاعت حقوق مصر في مياه النيل

بعد توقيع اتفاقية المبادئ

اختار رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ذكرى توقيع اتفاق إعلان مبادئ سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان في الخرطوم في يوم 23 مارس/آيار سنة 2015، ليعلن أمام برلمان بلاده عن أن بلاده ستمضي في ملء سد النهضة في الموعد المحدد في يوليو/تموز المقبل وسيتم الانتهاء منه في الموعد المحدد دون تأخير، وأن بلاده لا يمكنها تفويت موسم الأمطار المقبل لأن ذلك يكلفها خسارة نحو مليار دولار. وكان أحمد قد صرح بتنفيذ المرحلة الثانية من ملء خزان السد في يوليو/تموز 2021 بحجم 13.5 مليار متر مكعب من المياه وقال إن بناء السد سيكتمل بحلول 2023.

وقبل تنفيذ الملء الأول لخزان السد العام الماضي، قالت إثيوبيا في خطاب رسمي إلى مجلس الأمن أن مصر وقعت على اتفاق إعلان المبادئ وهي على علم تام بأن الملء الأول هو جزء من التشييد وأن الحكومة المصرية تعترف بذلك مما يعطي إثيوبيا الحق في ملء خزان السد بالتوازي مع أعمال التشييد. وقالت إن المرحلة الأولى للملء الأول سوف تحتجز 18.4 مليار متر مكعب خلال عامين، بواقع 4.9 مليار متر مكعب في السنة الأولى، و13.5 مليار متر مكعب في السنة الثانية. وأكدت أنها غير ملزمة قانونًا بطلب موافقة مصر على ملء السد. وذلك وفق خطابها إلى مجلس الأمن في يوم 14 مايو/أيار سنة 2020.

ادعاء إثيوبيا بأن ملء خزان السد بكميات محددة من المياه، وبمواعيد محددة، وأنه يتم بعلم وبموافقة الحكومة المصرية، وأنه كما هو متفق عليه في إعلان المبادئ الذي وقعه في مارس 2015، وامتناع الحكومة المصرية عن الرد رغم خطورة الإدعاءات ودقتها وجرأتها ليس له تفسير إلا أن الاتفاق الذي وقع عليه السيسي وتتداوله وسائل الإعلام يحوي بنودًا أخرى غير معلنة. وربما يؤكد ذلك عدم وجود صورة من النسخة الأصلية للاتفاق والموقعة من رؤساء الدول الثلاثة رغم مرور أكثر من خمس سنوات.

وفي هذا تأكيد على نجاح إثيوبيا في السيطرة والتحكم في النيل الأزرق كله والذي يرفد نهر النيل بهذه النسبة

الملاحظ أن الصمت المصري والعجز والارتباك أغرى إثيوبيا بمطامع جديدة لم تجرؤ على المطالبة بها في مرحلة من مراحل التاريخ السحيق قبل توقيع اتفاق إعلان المبادئ. ولأول مرة في التاريخ يصرح مسؤول إثيوبي، وهو نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، ديميكي ميكونين، ويشغل أيضا رئيس المجلس الوطني لبناء سد النهضة الإثيوبي، بأنه لا يمكن لأحد أن يحرم إثيوبيا من نصيبها البالغ 86% في مياه نهر النيل. وفي هذا تأكيد على نجاح إثيوبيا في السيطرة والتحكم في النيل الأزرق كله والذي يرفد نهر النيل بهذه النسبة. وهو الهدف الذي عبر عنه سلفه غيدو أندارغاشيو عقب الملء الأول في يوليو/تموز الماضي بقوله إن نهر النيل أصبح بحيرة إثيوبية محلية، وإن “النيل ملك لنا” وإن “ما قمنا به من بناء سد النهضة هو بمثابة تغيير الرؤية والأهداف وأحدثنا تغييرا في التاريخ والجغرافيا السياسية للمنطقة”. وما كان للخلف أن يتفوه بذلك لولا السكوت على ادعاءات السلف.

بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ كتبت مقالا نشر بعد ثلاثة أيام في صحيفة العربي الجديد قلت فيه إنه لا يستطيع أحد أن يفسر جرأة النظام المصري وتسرّعه في التوقيع على اتفاق مبادئ بشأن سد النهضة مع إثيوبيا خاصة أن حق مصر في مياه النيل ثابت، لا يحتاج لتوقيع اتفاقيات إضافية، ومستقر عبر التاريخ، وبذلك تستطيع إثيوبيا استقبال التمويل الأجنبي وإنجاز السد الكارثي. وقلت أيضا إنه لا يستطيع أحد من الخبراء أن يقدر حجم الخسائر التي ستلحق بدول المصب، خاصة مصر، في ضوء غياب تفاصيل الاتفاقية حتى على أعضاء الوفد المصري الذين أقرّوا بجهلهم بتفاصيل الاتفاقية، ما يذكرنا باتفاقية كامب ديفيد التي عقدها السادات مع إسرائيل، والتي لم تتضح أسرارها كاملةً حتى الآن. ولم يكن هذا التنبؤ سبق مني أو تنجيم بالغيب في وقت كانت الدعاية الإعلامية تعزف كلمتين فقط: السيسي حلها. الجميع أدرك خطورة الاتفاق، حتى الأنعام على ضفاف النيل وشواطئ الترع في مصر أدركت ذلك. لكن الإعلام المصري أثبت أنه أضل من الأنعام وأعظم غفلة.

وفي 16 نوفمبر سنة 2017 اتهم رئيس أركان حرب القوات المسلحة السابق الفريق سامي عنان النظام بالخطيئة. وقال: “إن الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة ملف سد النهضة. فشل يصل إلى حد الخطيئة، بدأ منذ أن وقّعت مصر على إعلان الخرطوم الثلاثي في مارس/آذار عام 2015، مؤتمر حسن النوايا، ورفع الأيدي. العلاقات الدولية لا تدار بحسن النوايا ولكن بالمصالح، ويجب محاسبة كل مَن أوصلنا إلى هذا الوضع الكارثي المهين، وقيام مؤسسات الدولة وأجهزتها بدراسة كافة الحلول المتاحة لإصلاح هذا الموقف السيئ للحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، ويجب إعلام الشعب بكافة الأمور والمستجدات بشفافية كاملة، وعلى الدولة أن تعلن أن كل الخيارات متاحة للدفاع عن الأمن القومي لمصر وحقوقها التاريخية في مياه النيل”.

ورغم ذلك، فما تزال أمام السيسي فرصة لتصحيح الخطيئة التي ارتكبها بتوقيع اتفاق المبادئ وتحسين الموقف التفاوضي المصري أمام السيطرة الإثيوبية

لا شك في أن توقيع الجنرال السيسي لاتفاق مبادئ 2015 كان الأخطر على الموقف المصري من إثيوبيا، وسببًا مباشرًا للمطامع الإثيوبية في حقوق مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل. وأعطى شرعية للسد كان محرومًا منها قبل توقيع الاتفاق. وحرم مصر من اللجوء منفردة إلى مجلس الأمن والمطالبة بوقف بناء السد بموجب البند السابع الذي يجيز التدخل بكل السبل للدفاع عن الأمن القومي للدولة.

ورغم ذلك، فما تزال أمام السيسي فرصة لتصحيح الخطيئة التي ارتكبها بتوقيع اتفاق المبادئ وتحسين الموقف التفاوضي المصري أمام السيطرة الإثيوبية. وذلك بسبب مخالفة إثيوبيا للبندين الخامس والثامن من الاتفاق. فقد نص المبدأ الخامس على تنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالآثار السلبية للسد على مصر والسودان. ونص المبدأ الثامن على استكمال إثيوبيا الأعمال المتعلقة بأمان السد. وهي التوصيات التي وردت في تقرير لجنة الخبراء الدوليين لتقييم دراسات السد، وهو التقرير الوحيد في الأزمة الذي يتميز بصفة الدولية ويحظى باعتراف إثيوبيا وبتوقيعها عليه. ونص الاتفاق أيضًا، وهذا هو المهم، على أن تستخدم الدول الثلاث المخرجات النهائية للدراسات الفنية في الاتفاق على قواعد الملء الأول للسد، وعلى قواعد التشغيل السنوي.

وحدد الاتفاق الإطار الزمني لتنفيذ هذه الدراسات، وهو 15 شهراً، منذ بداية إعداد الدراستين. واتفقت الدول الثلاث في 21 سبتمبر/أيلول 2016 على تحديد مكتب فرنسي لإجراء الدراسات خلال 5 شهور وبحد أقصى 11 شهرًا. وبعد انقضاء المدة المحددة بشهرين، رفضت إثيوبيا اعتماد التقرير في نوفمبر/تشرين ثاني 2017، الأمر الذي يلزم السيسي بسحب التوقيع من الاتفاق ووقف المفاوضات العبثية وحرمان السد الذي يهدد حق المصريين في المياه والحياة من الشرعية ورفع الأزمة إلى مجلس الأمن وبالتالي منع إثيوبيا من فرض الأمر الواقع.

في فبراير/شباط الماضي دشن اتحاد القوى الوطنية المصرية في الخارج حملة إلكترونية للتوقيع على وثيقة تطالب بإسقاط توقيع الجنرال السيسي على اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة الإثيوبي التي أعطت أديس أبابا شرعية قانونية لاستكمال بناء السد وتهديد الأمن القومي المصري للخطر، ولمخالفتها المادة 44 من الدستور المصري والتي تلزم الدولة المصرية بحماية نهر النيل من الاعتداء عليه والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به.

قال أحمد: “هناك مشكلات تتعلق بالتصميم، لقد سلمنا مشروع سد مائي معقد إلى أشخاص لم يروا أي سد في حياتهم”

الإخلال بالمواصفات والمعايير الدولية للسدود يعرض سلامة السد ومعامل الأمان فيه للخطر، ويهدد بانهياره في المستقبل، مخلفًا تسونامي يمكن أن يغرق مدينة الخرطوم بالمياه التي يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار، ويعرض السد العالي في أسوان للانهيار وغرق المدن المصرية. وقد اعترف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في مؤتمر صحفي بعد توليه السلطة في أبريل/نيسان سنة 2018 بارتكاب أخطاء في تصميمات سد النهضة، تجيز لمصر وقف بناء السد وتعليق المفاوضات. فقال أحمد: “هناك مشكلات تتعلق بالتصميم، لقد سلمنا مشروع سد مائي معقد إلى أشخاص لم يروا أي سد في حياتهم”، يقصد شركة المعادن والهندسة التابعة للجيش الإثيوبي. واتهم أحمد إدارة الشركة بأنها: “غير ناضجة وتفتقر إلى الخبرة وتتمسك بثقافة عمل غير لائقة”. وهذا هو السبب في تأخير افتتاح السد الذي كان مقرراً له في سنة 2017 وتأجيله إلى 2023.

بعد الملء الأول للسد في منتصف السنة الماضية، دشن خبراء في القانون الدولي للمياه من مصر والسودان “الحملة الدولية لحماية مصر والسودان من العطش” وأقاموا مؤتمرا في يوم 25 يوليو/ تموز بعنوان “صرخة شعبي مصر والسودان، لا للعطش.. لا للغرق.. لا للدمار” بثته وسائل إعلام دولية في حينه. وأوصى المؤتمر في بيانه بإيقاف المفاوضات فورا حتي لا يشكل الملء الأول “سابقة قانونية ” لأن استمرار المفاوضات بعده يعني ضمنيا “تقنين وشرعنة” الملء الانفرادي غير المشروع.

وطالب البيان حكومتي مصر والسودان بسحب التوقيع على اعلان المبادئ فورا، حيث إن الملء بإجراء منفرد هو انتهاك إثيوبي لإعلان المبادئ. وكذلك رفع القضية لمجلس الأمن بموجب الفصل السابع للمطالبة باستصدار قرار يلزم إثيوبيا بوقف بناء السد حتى إبرام اتفاق ملزم يحدد حقوق والتزامات كل دولة من الدول الثلاث. ذلك أن مجلس الأمن سبق وطالب إثيوبيا بعدم الملء بإجراء منفرد.

إلإدعاءات الإثيوبية تحتمل المغالطة، وبالتالي وجب على الجنرال السيسي الانسحاب من المفاوضات بسبب المغالطات الإثيوبية ومخالفة إتفاق إعلان المبادئ. وقد تكون الإدعاءات صحيحة، وفي هذه الحالة فإن سحب التوقيع من اتفاق المبادئ لعدم تطبيق البندين الخامس والثامن يكون أوجب. وذلك لتصحيح الخطيئة ولإثبات الجدية في مواجهة الأزمة التي تهدد حياة الشعب المصري، ولتبرئة ساحة النظام من الخطيئة والتقصير في إدارة الأزمة، وهي التهمة الخطيرة التي وجهها رئيس أركان الجيش المصري السابق وترقى إلى الخيانة العظمى.

المصدر : الجزيرة مباشر