الزراعة: جريمة في مصر

لا يوجد دولة في العالم النامي أو النائم إلا وتدعم المزارع وتشجعه لإنتاج الغذاء، إلا في مصر، فقد خلت الميزانية العامة من بند دعم المزارعين. ورغم ذلك لم تترك الحكومة الفلاح يواجه المجهول فحسب، بل ولاحقته بالأزمات. ولم يكد الفلاح المصري يتنفس الصعداء بعد حملة الجنرال عبد الفتاح السيسي لهدم البيوت والهجمة البربرية لقوات الجيش والشرطة على القرى المصرية لإزالة وإبادة المباني المقامة على الأراضي الزراعية بالمعدات الهندسية، حتى استيقظ على صدمتين جديدتين من تصميم وإخراج الجنرال وحكومته. أما الأولى فهي فرض رسم ترخيص لماكينات رفع المياه قيمته 5 آلاف جنيه لمدة خمس سنوات. أما الثانية فهي مصادرة مزارع البحوث الزراعية التابعة لمركز البحوث الزراعية وكليات الزراعة والمستخدمة في استنباط الأصناف والسلالات النباتية والحيوانية وتحويلها إلى مشروعات عقارية ومساكن.

وبسبب الظلم الموجود في المادة رقم 38 والخاصة بفرض رسم الترخيص على ماكينات الري، طالب عدد من الأعضاء بحذفها

يتعرض الفلاحون لخسائر مالية فاقت طاقتهم بسبب كوارث السيول وموجات الحر والصقيع غير المسبوقة والتي تكررت على فترات متقاربة منذ اعتلاء السيسي كرسي الحكم، وبسبب الغرامات المالية التي فرضها على مزارعي الأرز بل والسجن أيضا، وكذلك الزيادات الكبيرة في أسعار الأسمدة التي زادت في عهده إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في سنة 2013. ولا يجد الفلاح من يدافع عن حقوقه ضد قانون الري الجديد بعد أن جمدت نقابة الفلاحين نشاطها النقابي بسبب تجاهل الحكومة لمطالبها بتعويضهم ورفع أسعار المحاصيل، وبعد تواطؤ لجنة الزراعة والري بمجلس النواب مع الحكومة ضد مصالحهم وموافقتها على مشروع القانون.

وبسبب الظلم الموجود في المادة رقم 38 والخاصة بفرض رسم الترخيص على ماكينات الري، طالب عدد من الأعضاء بحذفها، ليس للظلم المحيط بها، ولكن لتفويت الفرصة على قنوات المعارضة من الهجوم على الحكومة لأنها تبيع المياه للفلاحين. ذلك أن صحيفة المصري اليوم سبقت إعلام المعارضة في فضح أهداف حكومة السيسي، وكتبت مانشيت عريض أحمر تقول فيه “هل ستبيع الحكومة مياه الري للفلاح؟.. المادة 38 من قانون الري الجديد تجيب”!!

ونشرت الصحف القومية نص المادة 38 من القانون والتي جاء فيها أنه: “لا يجوز بغير ترخيص من الوزارة إقامة أو تشغيل أي آلة رفع ثابتة أو متحركة تدار بإحدى الطرق الآلية (الميكانيكية) أو غيرها لرفع المياه أو صرفها على مجري نهر النيل أو المجاري المائية أو شبكات الري والصرف العامة أو الخزانات، سواء لأغراض الري أو الصرف أو الشرب أو الصناعة أو غيرها وكذا رفع المياه من بحيرة ناصر، ويصدر الترخيص لمدة لا تزيد على خمس سنوات قابلة للتجديد وبعد أداء رسم ترخيص بما لا يجاوز 5 آلاف جنيه ويستحق نصف الرسم عند تجديد الترخيص”.

بيع مياه الري للفلاحين ليس جديدا، فقد كشف نصر علام وزير الرى في عهد المخلوع مبارك، عن تعديل قانون الرى رقم 12 لسنة 1984 قبل ثورة يناير بستة أشهر ليسمح للقطاع الخاص بتشغيل مشروعات الري والصرف مقابل تحصيل ثمن الخدمة. وتقدم النائب البرلماني علي لبن ببيان في مجلس الشعب حول تعديل القانون وتخطيط الحكومة لإضافة مواد تسمح بخصخصة مياه الرى وبيعها للمزارعين من خلال شركات استثمارية وروابط مستخدمي المياه بتعليمات وتمويل من البنك الدولي، ولولا ثورة يناير لتم تعديل القانون وتنفيذه.

وهذا محمد عبد العاطي وزير الرى في عهد السيسي، يقول إن القانون الجديد يستهدف تفعيل مشاركة القطاع الخاص وروابط مستخدمي المياه للوزارة في تحمل مسئوليات إدارة وتشغيل وصيانة أجزاء من نظم ومرافق شبكات الري والصرف بشروط محددة، ما يعد خصخصة وبيع لمياه الرى كما كان مخطط له في عهد المخلوع حسني مبارك. ورغم أن المادة 38 صريحة في تقنين بيع المياه، لكن وزارة الرى نفت في بيان لها تحديد رسوم قدرها 5 آلاف جنيه نظير استخدام ماكينات رفع المياه، وذكرت أنها معلومات منقوصة، وأن ماكينات الرفع التى يستخدمها المزارعون ترفع المياه من المساقى الخاصة بهم وهذه الماكينات ليست عليها أي رسوم، وأن الرسوم ستطبق على ماكينات الرفع الموضوعة على الترع العامة.

وهي مراوغة ساذجة لأن الترع العامة وحدها هي مصدر مياه الرى أما المساقي الخاصة فهي مستقبلة للمياه وليست مصدرا لها. وإذا لم يكن السماح للقطاع الخاص بتشغيل الترع وشبكات الرى بيع للمياه فماذا يكون؟! إن مبارك الذي أفقر الفلاحين وجفف ريقهم كان أكثر رحمة من السيسي، أو قل أقل إفقارا لهم، ذلك أن قانون مبارك كان ينص في المادة 49 على فرض رسم قدره 20 جنيها على ماكينات الرى ولمدة عشر سنوات، وجنيهين على السواقي التي تدار بالماشية، ودون مقابل للطنبور والشادوف والآلات اليدوية. وفي الواقع كان القانون لا يطبق لأن مهندسي الرى يشفقون على الفلاح الفقير. أما السيسي فليس عنده إلا الدفع أو الحبس.

استخدام الفلاحين ماكينات الرى إيجابية يشكرون عليها، فهي توفر نصف مياه الرى. ورغم تكلفتها العالية يستدين الفلاح ليشتريها مجبرا لا مختارا بسبب شح مياه الري وانخفاض منسوبها في الترع وتخلي الدولة عن دورها الدستوري في توفير المياه وعناصر الإنتاج الزراعي. ويضطر الفلاح لشراء الماكينة رغم أن مساحة الأرض التي يمتلكها صغيرة، فبدون ماكينة الرى لا يستطيع المزارع رى قيراط واحد من أرضه.

وتدرك حكومة السيسي أن 70% من الفلاحين يمتلكون مساحة زراعية أقل من فدان، وتقوم بحصر عدد ماكينات الري لدى الفلاحين بدقة منذ سنوات. وفي إحصاء سنة 2019، قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في بند الجرارات الزراعية وماكينات الرى إن الفلاحين يمتلكون مليونا و38 ألف ماكينة رى. ورغم علم الحكومة أن 70% منها مخصصة لرى مساحة أقل من فدان، فإنها تستهدف تحصيل 5 مليارات جنيه من الفلاحين المعدمين بمعدل ألف جنيه في السنة. وهي تعلم أنه لا يوجد نصف فدان يكسب 5 ألاف جنيه في عهد الجنرال المبارك ولو زرع بالحشيش والأفيون.

في صباح يوم بارد من الشهر الماضي، داهمت جحافل مجلس الوزراء وهيئة المجتمعات العمرانية وديوان محافظة الشرقية المزرعة البحثية بمحطة كفر حمام التابعة لمركز البحوث الزراعية

أما الصدمة الثانية التي وقعت على رأس الفلاحين والزراعة المصرية فهي استيلاء الجيش على محطات البحوث الزراعية التابعة لمركز البحوث الزراعية والموزعة في عموم المحافظات المصرية، من أسوان للأسكندرية، وأراضي المزارع البحثية التابعة لكليات الزراعة والصيدلة والطب البيطري بالجامعات المصرية، ومصادرتها بغرض بناء عمارات سكنية على أطلالها. وهي التي تمثل عقل الزراعة الذكي وقلبها النابض، وهي مختبر علماء البحوث الزراعية المصريين الذين وصل عددهم إلى 20 ألف باحث، وفيها تراكمت خبرات أجيال من الأساتذة وخلال عقود من الزمان.

في صباح يوم بارد من الشهر الماضي، داهمت جحافل مجلس الوزراء وهيئة المجتمعات العمرانية وديوان محافظة الشرقية المزرعة البحثية بمحطة كفر حمام التابعة لمركز البحوث الزراعية طمعا في الاستيلاء عليها لموقعها الاستراتيجي الذي يبعد عن مدينة الزقازيق المزدحمة بالسكان بـ2 كيلومتر فقط. وقامت جرافات الهيئة الهندسية بتجريف القمح المخصص للتقاوي. وفي الحال قامت الحفارات بحفر أراضي المزرعة والبدء في البناء. ولم تشفع توسلات رئيس المحطة الذي شارك في تأسيسها مع الأساتذة وهو باحث في بداية مشواره العلمي قبل نصف قرن. وفي نفس التوقيت هبطت نسور الجيش المصري على محطة بهتيم للبحوث الزراعية والبالغة 380 فدانا، للاستيلاء على أرض المحطة طمعا في موقعها الإستراتيجي التابع لمدينة شبرا الخيمة بجوار الطريق الدائري.

وقبلهما تم الاستيلاء عنوة على مزرعة بحوث الإنتاج الحيواني بالصبحية بالإسكندرية وذلك بغرض تحويلها أيضا الي مدينه سكنية بسبب موقعها الفريد حيث تمتد حدودها من سموحة حتى باكوس، وأيضا تم الاستيلاء على مساحة كبيرة من أراضي محطة البحوث الزراعية بالجميزة ثم بسخا، أكبر وأقدم محطة بحثية في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا بغرض تحويلها الى وحدات سكنية. ومؤخرا اجتاحت قوات الأمن مزرعة الراهب التابعة لكلية الزراعة بجامعة المنوفية والتي تبلغ مساحتها 55 فدانا طمعا في موقعها لتحويلها إلى مشروعات سكنية.

أخبرني باحث مقرب من قيادات وزارة الزراعة أن الوزير الحالي قام بتأجير 9 آلاف فدان من أراضي قطاع الإنتاج والمخصصة للتقاوي عالية الإنتاج إلى القوات المسلحة بسعر 50 جنيها للفدان

وقد سبق الاستيلاء على نصف مزرعة الإنتاج الحيواني بطوخ طنبشا التابعة للكلية أيضا. ورفض عميد الكلية القرار لأنه لا يعقل وجود كلية زراعة دون مزرعة بحثية تقدم خدماتها التعليمية والبحثية على مدار أكثر من 75 عاما لأكثر من 6500 طالب في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا. وقال إن مجلس الكلية الذي يضم 45 عضوا في حالة انعقاد دائم حتى يتم إلغاء القرار أو تقديم استقالة جماعية.

أخبرني باحث مقرب من قيادات وزارة الزراعة أن الوزير الحالي قام بتأجير 9 آلاف فدان من أراضي قطاع الإنتاج والمخصصة للتقاوي عالية الإنتاج إلى القوات المسلحة بسعر 50 جنيها للفدان ولمدة 50 سنة. وقال إن محافظ الوادي الجديد، وهو عسكري بدرجة لواء، زار الوزير في أول يوم له في الوزارة ليهنئه على المنصب، وقبل الإنصراف وقع له الوزير على التنازل عن مزرعة ومحطة البحوث الزراعية بالوادي الجديد بما عليها من مزروعات تجريبية ومعامل بحثية ومبان إدارية، ومساحتها 90 فدانا وتحويلها إلى مجمع ترفيهي، رغم رفض الوزير السابق ورغم تجريم الاعتداء بالبناء على أرض زراعية، ورغم وفرة الأراضي الصحراوية بالمحافظة.

محطات البحوث الزراعية ومزارع كليات الزراعة هي منبع الخير والنماء في الريف المصري، منها يحصل الفلاح على تقاوي القمح التي تنتج 25 أردبا للفدان، بعد أن كانت لا تتجاوز 10 أرادب فقط. ومثلها من الذرة التي زادت انتجيته إلى 30 أردبا، والقصب الذي وصلت انتاجيته إلى 50 طنا، والأرز الذي وصلت إنتاجيته إلى 7 أطنان في مقابل 5 أطنان في أفضل دول العالم. وغيرها من أصناف الخضروات والفاكهة وسلالات الدواجن والمواشي والأسماك. وباجتهاد الباحثين المصريين المبدعين ومنظومة مزارع البحوث والتجارب تربعت مصر على عرش الإنتاجية العالمية في القمح والأرز وقصب السكر والإستزراع السمكي، وغيرها من المحاصيل. ولولا الفساد السياسي الذي يحارب التوسع في زراعة القمح والأرز والقطن لاكتفت مصر من الغذاء تماما.

أراضي البحوث الزراعية في الكليات والمراكز والمحطات البحثية في المحافظات وخاصة المركز الرئيسي بجوار جامعة القاهرة صيد ثمين للجنرال، كما كانت لجماعة الليبراليين الجدد بقيادة جمال مبارك. أذكر أن أمين أباظة، وزير الزراعة قبل ثورة يناير، تفقد مقر ومزرعة مركز البحوث الزراعية الموجود بين كليتي الهندسة والزراعة في 9 شارع جامعة القاهرة قبل شهور من ثورة يناير، وسأل أحد الأساتذة عن عمل الباحثين في المركز. فقال الأستاذ إنهم يستنبطون سلالات وأصناف الخضر والفاكهة عالية الإنتاج. فرد عليه الوزير بازدراء إنت عارف إن المتر الذي تقف عليه يساوي 50 ألف جنيه!!
أستطيع أن أشتري بذور عالية الإنتاج من أقرب دولة، يقصد إسرائيل، وبتكلفة أقل. ثم نظر لمن حوله وقالك اعطوهم قطعة أرض بديلة في مدينة 6 أكتوبر.

الاستيلاء على الأراضي الزراعية المخصصة للبحوث الزراعية وتحويلها لمشاريع استثمار عقاري تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مخطط ومدبر. وحديث السيسي المعسول عن المحافظة على الأراضي الزراعية ومنع البناء عليها وقوله “خلونا نصلح اللي إحنا فيه ونحافظ على المتاح من أرضنا، ومستقبل الأجيال” وقوله “والله العظيم ده خراب يا جماعة.. بشوف بلدنا بتتدمر وبتتقطع 100 حتة كل يوم.. بقينا أعدى أعاديها” هو للاستهلاك الإعلامي فقط.

فمعالجته للبناء على الأرض الزراعية بالتدمير والهدم كشف بوضوح أنه ليس الحارث الأمين على الأراضي الزراعية، ولا الأمن الغذائي ولا مستقبل الأجيال القادمة، وأنه يحمل مشروع إبادة للعمران المصري والزراعة المصرية. فهو الذي يدعي أن المحافظة على الأرض الزراعية وهو الذي قال في نفس المكان والزمان “لو عاوز تبني خليني أنظملك وأبنيلك أنا.. حتى لو على أرض زراعية” وهو الذي قال “أقبل البناء حتى على أرض زراعية لكن يجب أن يكون هذا البناء مخططًا”. وهو الذي قال “أنا بقبل إني أبني.. وحتى على أرض زراعية؟!.. أيوة طبعا!! لكن أنا أخططلك الأرض.. وأبنيلك.. حتى لو كانت على أرض زراعية”. إنه ينفذ سياسة جمال مبارك نفسها التي أفشلتها ثورة يناير، وأرى أنه ليس بعيدا عن المصير نفسه.