الأزمة الليبية.. هل ترحل القوات التركية؟!

الوجود التركي والروسي في ليبيا يزعج أوربا

ما بين مؤتمر برلين-1 ومؤتمر برلين-2، والذي يفصل فارق زمني بينهما بنحو عام ونصف، ظلت الأزمة الليبية تراوح مكانها، رغم أن أهم توصيات برلين-1 كان وقف إطلاق النار بين القوات المتحاربة، وسحب المرتزقة، والقوات الأجنبية الموجودة على التراب الليبي.

جاء مؤتمر برلين-2 والقوات التركية ما زالت موجودة فعليا وعمليا على الساحة الليبية بالإضافة إلى مرتزقة (فاغنر) الروسية، والجنجويد السودانية، فما الذي عرقل انسحابهم حتى الآن؟ وإذا استمر الوضع كذلك فهل سيكون هناك برلين-3 وبرلين-4 وغيرهما؟ وكيف ستجري الانتخابات الليبية في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل في ظل وجود هذه القوات؟

الأتراك يرون أنفسهم الأقرب في الوقت الحالي إلى حل المشاكل الأوربية

تنفي تركيا أن لها قوات عسكرية هناك، وإنما خبراء يدرِّبون الجيش الليبي، وهم قد أتوا إلى ليبيا حسب اتفاق مبرم مع حكومة الوفاق (المعترف بها دوليًّا) هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى وهي الأهم أن القوات التركية جاءت إلى ليبيا بشكل علني لم يكتنفه أي غموض، فقد جرت فصوله أمام الإعلام، وشاهدنا جميعا مخرجاته، وكيف أن البرلمان التركي قطع إجازته للموافقة على إرسال القوات إلى ليبيا، وفي وقت أشار فيه خبراء إلى أنه من المؤكد أن ذلك جرى بموافقات أوربية أمريكية، فتركيا عضو في حلف الناتو الذي من أهم بنوده الحفاظ علي سلامة الدول المنطوية تحت لوائه، ولا يمكن لها أن تذهب إلى منطقة بها صراع قد يضطر فيه الناتو للتدخل بغرض حمايتها إذا ما تعرضت للخطر الأمني هناك.

ويرى الأتراك أنهم الأقرب في الوقت الحالي إلى حل المشاكل الأوربية، المتمثلة في الخط الشرقي والجنوبي، وعلى رأسها وقف الهجرة غير الشرعية التي تمثل الهاجس الأكبر المخيف للأوربيين من تدفقها إليهم، ويبدو هذا هو السبب الرئيسي الذي لا يسعى إليه الأوربيون في التصعيد مع تركيا.

ومن المعروف أن تركيا لعبت دورا كبيرا في إيقاف سيول الهجرة المتدفقة على أوربا عبر السنوات الماضية خاصة بعد اتفاقية 2015 التي نصت على إعادة المهاجرين إلى تركيا قبل البت في قبول طلباتهم، وهو أمر جعل تركيا تستقبل قرابة الأربعة ملايين مهاجر.

في ليبيا، أصبحت تركيا الآن على الجانب الآخر من المتوسط متحكمة بورقة الهجرة وهذا بالتأكيد يعطيها قوة سياسية لحماية مصالحها التي قد لا تتفق في العموم مع مصالح الاتحاد الأوربي، لكنها أمسكت بورقة ضغط جديدة في شاطئ تشكل الهجرة منه حوالي 92% من مسارات الهجرة المفتوحة إلى أوربا، لهذا يبدو أن دول الاتحاد الأوربي وأمريكا غير متحمسة للانخراط في الملف الليبي بكل ثقلها بسبب خوفها من تحول شواطئ ليبيا إلى بوابات لعبور آلاف المهاجرين إلى أوربا.

في مؤتمر برلين الأول حذر مفوض شؤون اللاجئين الأوربي في منطقة حوض البحر المتوسط فينسنت كوشيتال من موجة هجرة جديدة عبر المتوسط في حالة تفاقم الأزمة الليبية، وهو يرى أن تركيا وروسيا سيكون بإمكانهما مستقبلا التحكم في ملف الهجرة الليبي وأعداد المهاجرين من شمال المتوسط إلى أوربا.

باتت تركيا وروسيا تشكلان طوقًا حول أوربا من خلال الأدوار العسكرية والأمنية التي انخرطتا فيها

باتت أوربا تعرف وتعترف أن الوجود التركي في ليبيا أصبح يشكل لها صداعا، وقد أعربت عن ذلك المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل مؤتمر برلين-2 عندما قالت “إن أوربا تواجه تحديات كبيرة في التعامل مع تركيا وروسيا”.

بالتأكيد أن ما تراه المستشارة الألمانية صحيحا، خاصة بعد أن باتت تركيا وروسيا تشكلان طوقا حول أوربا من خلال الأدوار العسكرية والأمنية التي انخرطتا فيها وتسببت في خلط أوراق الأمن الأوربي من أوكرانيا إلى القوقاز ثم في شرق المتوسط وسوريا وصولا إلى ليبيا.

لا شك أن التفاهم الروسي التركي حول مصالحهما المشتركة في المنطقة والتي باتت الأكثر نجاحا، مثل تدشين خط الغاز (ستريم تركيا) الذي سيضخ الغاز الروسي إلى دول جنوب أوربا يجعل الدولتان قادرتان على تنفيذ أجندات سياسية لصالح بلديهما، في وقت أوشك فيه الروس على الانتهاء من خط ستريم-2 الذي سينقل الغاز إلى ألمانيا والذي تم وسط معارضة أمريكية كبيرة، وهو الأمر الذي يضيف إلى روسيا قوة أكبر في دعم قراراتها السياسية، فصنبور الغاز الواصل إلى ألمانيا ومن ثم إلى دول غرب وشمال أوربا سيصبح في يد الدب الروسي، مما يتيح له التحكم في القرار الأوربي السياسي.

إذن لا مؤتمر برلين11 ولا مؤتمر برلين-2 ولا حتى المؤتمر الجديد المقترح في لندن لممارسة الضغط على سحب القوات الأجنبية سيفلح وحده دون إرادة القوى الكبرى التي تستطيع فعلا فرض الحل في ليبيا،  فمصالح العلاقات بين الدول هي التي ستحدد مستقبل ليبيا، لا ليبيا وحدها ولا اللاعبين في الأجندة الليبية من الدول الكبيرة، فروسيا التي ضمنت وضعا مستريحا في سوريا، وكذلك تركيا أصبح الآن بإمكانهما التوصل إلى فرض أمر جديد في الشأن الليبي، أما الدور الفرنسي والإيطالي الذي اهتم أكثر بالثروة الليبية على حساب المصالحة، فإنه لم يحرز أي تقدم في ظل تنازع المصالح بينهما.

لا يجب تعليق أمال كبيرة على إخراج القوات الروسية أو التركية من ليبيا في ظل التراخي السياسي الأوربي غير المدعوم من أمريكا، فقد كان واضحا في اجتماعات الناتو الأخيرة أن الرئيس جو بايدن جعل ملف العلاقات الروسية التركية أدنى في الاهتمام من الملف الصيني الذي يعتقد أنه الخطر الذي يهدد الولايات المتحدة وليست ليبيا.

المتفائلون يعتقدون أن روسيا وتركيا في نهاية المطاف قد تخرجان فعلا ولكن بعد مقايضة اقتصادية قد تحصل فيها على نسبة كبيرة من عقود الإعمار والغاز في ليبيا .

المصدر : الجزيرة مباشر