إثيوبيا في مواجهة طالبان

متابعة ملف مياه النيل وبناء إثيوبيا سدودا عليه، كارثة ستحل عاقبتها على كل المصريين، وستطال الجميع لن تستثني أحدا، والحديث عنها ليس ترفا نقاشيا يدور على ألسنة النخب، أو شأنا خاصا يدور الحديث عنه في الغرف المغلقة، وليس من فروض الكفايات التي لو قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإنما فرض متعين على عين كل إنسان يحيا على أرض مصر، التي اقترنت فيها معاني الحياة بشريانها النابض نهر النيل، وظهرت مظاهرها على ضفافه، ووصف هذا الاهتمام بـ”الهري” -مصطلح عامي دارج معناه الثرثرة بلا طائل والكلام فيما لا يفيد- هو استخفاف بالشعب ومخاوفه، واستهتار بحاضره ومستقبله!

كنت متأكدا من أن اللجوء لمجلس الأمن مضيعة للوقت ويصب في صالح إثيوبيا وكتبت عن ذلك، لكني فوجئت بأمرين:

الأول: أن الوفد المصري كان متأكدا من ذلك أيضا، وأعلنوا هذا بعدما ردهم مجلس الأمن إلى الاتحاد الأفريقي من جديد!

الثاني: جاءت أغلب الكلمات في صف إثيوبيا -وكذلك القرار النهائي- بما أظهر ضعف الموقف المصري، وفشلت الدبلوماسية المصرية حتى في مجرد الحصول على مجاملات كلامية، وهذا بدوره أعطى دفعة لإثيوبيا وجعلها أكثر صلفا وعنتا، ورفعت نبرة التصعيد والتحدي على لسان زيرهون آبيبي أحد أعضاء فريق التفاوض حيث قال: إن بلادنا ماضية في الملء الثاني ومن المستحيل إيقاف التعبئة، لا سيما وأن دولتي المصب وقعتا على اتفاقية المبادئ عام 2015، وإننا لا نعترف بمصطلح الحقوق التاريخية في ‎مياه النيل، ولا حاجة لنا في مباركة ‎مصر والسودان!!

أمريكا حين قررت التفاوض وطلبت من طالبان تحديد الوفد والاتفاق على المكان، جاء رد طالبان أن وفدنا للتفاوض هم أسرانا

بالتوازي مع هذه الأحداث كانت أمريكا تغادر بالكلية أرض الأفغان، ولما أعلنت نيتها عن الانسحاب سبقها كثير من حلفائها ولسان حالهم يقول: “انج سعد؛ فقد هلك سعيد”، وفي المقابل بدأت حركة طالبان في السيطرة على معظم التراب الأفغاني، لا سيما المناطق الحدودية ومعابر التماس مع دول الجوار.

وأنا أتابع صبر الشعب الأفغاني وجلد طالبان في مقارعة أكثر من 40 دولة على مدار 20 سنة، وإدارتها لمفاوضات ندية مع الولايات المتحدة الأمريكية، متمسكة فيها بمبادئها ومحافظة على ثوابتها، التي في مقدمتها عزة الأفغان المستمدة من عظمة الإسلام، وشهادة القريب والبعيد لهم بذلك.

ويكفي أن نعرف أن أمريكا حين قررت التفاوض وطلبت من طالبان تحديد الوفد والاتفاق على المكان، جاء رد طالبان أن وفدنا للتفاوض هم أسرانا الذين عندكم في سجن جوانتنامو -سيئ السمعة- فعليكم الإفراج عنهم أولا!

وبالفعل استقبلتهم قطر، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الدوحة هي عاصمة التفاوض المختارة، وحاولت أمريكا نقل بعض محطات التفاوض إلى عواصم خليجية أخرى، وقوبل هذا بالرفض من قبل طالبان، واشترطت أمريكا أن تضع الحركة سلاحها قبل التفاوض، فقال المتحدث باسم طالبان: لولا هذا السلاح ما جلستم معنا، بل ورفض إيقاف القتال قبل ظهور ملامح الحل وتبلور مسار التفاوض.

ومن عجائب القدر أن الإعلام المصري جنّد جيوشه للسخرية من طالبان والأفغان، وعرض مسلسلا في رمضان اسمه “الطريق إلى كابل”

جلست أستعرض هذا وغيره كثير، مقارنًا بين موقف مصر الكبيرة التي تقزَّمت وتأزَّمت وأصبحت كما قال الحازم البصير: “أضحوكة العالم” مع إثيوبيا التي تتلقى هزائم يومية على يد مجموعات شعبية غير نظامية في “تيغراي”، في مقابل موقف حركة طالبان التي تغنم سلاحها من عدوها ثم تحاربه به، ولا تملك شيئا من أسباب القوة إلا أنهم أصحاب الحق والأرض، وتتفاوض بشمم مع أكبر إمبراطورية احتلال عرفها العالم، بما يؤكد أن العالم لا يعترف إلا بالقوة ولا يحترم إلا الأقوياء، وأن قوة الحق وصدق التمسك أكبر من كل وسائل القوى المادية.

لكن السؤال الذي أبحث له عن إجابة: ما الذي حشر مصر في هذه الزاوية؟ وما الذي أضعفها حتى بدت من الهُزال كُلاها، وهي صاحبة الحق وتملك القوة التي تستطيع أن تدافع بها عن حقها؟

وعدت لأجيب نفسي إن العبرة ليست في السلاح، ولكن في اليد التي تمسك به، فليست الأيدي المتوضئة مثل الأيدي المدمنة التي أدمنت التفريط والتنازل.

‏وما تنفعُ الخيلُ الكِرامُ ولا القَنا

إذا لم يكُن فوقَ الكِـرامِ كـِــرامُ؟

ومن عجائب القدر أن الإعلام المصري جنَّد جيوشه للسخرية من طالبان والأفغان، وعرض مسلسلا في رمضان اسمه “الطريق إلى كابل” ، وبالفعل فإن طالبان في طريقها الآن إلى كابل، وربما بعد أيام تعلن عن تحرير ما تبقى من أفغانستان، وليت عالم السياسة كان كعالم الرياضة إذا لطالبنا بالتعاقد مع فريق من طالبان لإدارة المفاوضات مع إثيوبيا، أو نرسل المفاوضين المصريين للاحتراف عند طالبان.

المصدر : الجزيرة مباشر