إهمال “المبدعين” في مصر مسؤولية من؟

كان ذلك المساء في مدينة المنصورة قبل عدة سنوات،  عندما قررت السيرعلى طريق الكورنيش الطويل،  الذي يمتد من مبني المحافظة إلى مبني الجامعة،  وعند فيلا “غيث” الشهيرة حيث يتفرع طريق الكورنيش إلى فرعين،  أحدهما يواصل الامتداد على النيل،  والآخر يأخذك إلى الطريق العلوي القديم، وفي منتصف تلك التفريعة ينتصب هناك تمثال من الصعب التعرف عليه، بسبب كمية الأتربة والملصقات الورقية التي شوهته، وحبال الإعلانات التي تتدلي من كل جانب فيه ، هذا فضلا عن وجوده أصلا في مكان بائس، غير منظم، ويفتقر إلى الخضرة التي تحيط به.
أما صاحب التمثال فهو الكاتب المبدع أنيس منصور ابن مدينة المنصورة، وأحد رموز الإبداع المعاصر في مصر، وبما لأن كتب أنيس منصور كانت تستهويني في مرحلة الشباب المبكر فقد حزنت على هذا التشويه الذي أضاع معالم التمثال، وحزنت أكثر على أن أحدا لم يهتم بتنظيف التمثال ولا باختيار مكان مناسب له.
كثير من أبناء الأجيال الجديدة  نشأ وسط الاضطراب الثقافي الحاصل في مصر الآن، والذي من أهم نتائجه ظهور أذواق مختلفة في كل فنون الثقافة، لا سيما الموسيقي والطرب الجميل،  الذي حلت محله عشوائيات موسيقي المهرجانات، كذلك أيضا برامج المساء التليفزيونية “التوك شو” وما تحمله من نفاق وتزلف سياسي هابط ، إضافة إلى الصحافة الفاشلة التي تدنت مبيعاتها إلى حد مؤسف، وهؤلاء ربما لا يعرفون أنيس منصور، ولم يقرأوا كتابا واحدا له، مع أن جيلنا كان مهووسا بكتبه المثيرة في ذلك الوقت مثل حول العالم في 200 يوم، وأرواح وأشباح، والذين هبطوا من السماء وغيرها.

كل المنصورة وهي عاصمة ثالث أكبرمحافظة بعد القاهرة والإسكندرية من حيث تعداد السكان لا يوجد بها متحف واحد

وقد أنجبت المنصورة  العديد من أساطين الأدب والفن الثقافة مثل أم كلثوم، ورياض السنباطي رفيق رحلتها، وأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، وأبو التعليم المصري علي مبارك، ورائد الرواية العربية محمد حسين هيكل، ومحمد التابعي أحد أعلام الصحافة الحديثة، وزكريا الحجاوي رائد الفن الشعبي، وشاعر الجندول علي محمود طه، وكامل الشناوي وغيرهم كثيرون، لكنك لا تجد لهم أي أثر يدل علي انتمائهم لهذه المحافظة.
كل المنصورة، وهي عاصمة ثالث اكبرمحافظة بعد القاهرة والإسكندرية من حيث تعداد السكان، لا يوجد بها متحف واحد لأي من هؤلاء القامات، بل يوجد فقط متحف تاريخي واحد آيل للسقوط وهو دار ابن لقمان، تلك الدار التي أسر فيها الملك الفرنسي لويس التاسع عشر أثناء حملته الصليبية علي المنصورة سنة 1250م.
في مدخل مدينة المنصورة هناك تمثال آخر وحيد لام كلثوم، كان تمثالا  متواضعا من قبل في ميدان محطة السكة الحديد، وبعد الانتقادات التي وجهت له ، تم عمل تمثال أفضل بكثير، ونقل التمثال القديم إلى مدينة السنبلاوين التي تتبعها قرية أم كلثوم ” طماي الزهايرة”، وعدا هذين التمثالين لا أثر على الإطلاق لأي واحد من المبدعين الآخرين،  ولا أي أثر آخر لام كلثوم الأشهر في المنصورة ، ولا حتى في مسقط رأسها، فبيتها القديم غير موجود، مع أن قريتها هذه كان يمكن أن تتحول إلى متحف مفتوح، يحكي نشأة ام كلثوم، وتاريخها، ويجلب للمحافظة والقرية الكثير من السياح المهتمين بالثقافة والفن من كل أرجاء العالم العربي.
بالتأكيد وراء هذا الإهمال أسباب تعود إلى ظروف الحياة التي يعيشها المصريون الآن، والتي تجعلهم مشغولين بتحسين ظروف معيشتهم على حساب الاهتمام بالثقافة والإبداع والهواية.

إن تخليد اسم هذا الموسيقار الشهير ابن المدينة ليس له مثيل في أية مدينة أخرى

أتذكر في مدينة “سالزبورغ” في النمسا عندما زرتها للمرة الأولى أن كل شيء فيها كان يحمل اسم “موتزارت” ذلك الموسيقي الموهوب المبدع، ابن المدينة، والذي ولد في سنة 1756 وتوفي في سنة 1791، لقد أصبح البيت الذي ولد فيه محطة سياحية عالمية مهمة في النمسا، وقلما يزور أحد سالزبورغ دون أن يعرج على بيت “فولفغانغ أماديوس موزارت”، إنه الموقع الأكثر أهمية على خريطة السياحة للمدينة، حتى القهوة التي كان يجلس عليها والقريبة من بيته أصبحت أثرا سياحيا يتدفق عليه السياح، أما “الشكولاتة” التي تحمل اسمه وصورته فقد أصبحت الأشهر في العالم، ولا يمكن أن تزور المدينة من دون أن تعود محملا بالهدايا منها، كل تلك الصناعة السياحية اصبحت تحقق دخلا سياحيا كبيرا للمدينة من شهرة ابنها ، وهذا تحديدا ماكان يمكن أن يتحقق لمدينة المنصورة من شهرة أم كلثوم والمدن المصرية الاخري التي أخرجت عمالقة الادب والإبداع كطه حسين، والعقاد، وعبد الوهاب وغيرهم.
الشيء نفسه رأيته في مدينة بون الألمانية، والصناعة السياحية نفسها مع ابن المدينة الموسيقار الشهير “لودفيج فان بيتهوفن” فأينما حللت في جهات المدينة الأربع تجد اسم بيتهوفن في أزقتها وشوارعها، فهذا مطعم بيتهوفن وتلك صيدلية بيتهوفن، وهذه الساحة الكبيرة هي كذلك ساحة بيتهوفن.

إن تخليد اسم هذا الموسيقار الشهير ابن المدينة ليس له مثيل في أية مدينة أخرى، حتى أنك تكاد تشعر أن بيتهوفن يعيش في داخل كل بيت ويقف على ناصية كل شارع في بون.
بيت بيتهوفن الذي ولد فيه عام 1770 والمبني على طراز الباروك، مازال يحمل فيه كل خصائص ذلك الماضي الجميل، الباب الخشبي للمنزل يحتفظ بشكله القديم، والأهم من كل ذلك أنه في كل عام تحتفل ألمانيا بذكراه من خلال المهرجان الموسيقي العالمي الذي يحمل اسمه وتستضيفه مدينة بون سنويا في الفترة من 31 من أغسطس/آب وحتى الأول من أكتوبر/تشرين الأول من كل عام.
هذه فقط عدة أمثلة بسيطة في كيفية تخليد ذكرى المبدعين في بعض المدن الأوربية، فقط كل مدينة أنجبت علما، مبدعا، عبقريا تحولت إلى مدينة سياحية عالمية لمحبي الموسيقى والثقافة والفنون، وبالتأكيد هناك مثلها العشرات في كل مدن أوربا المختلفة.
الثقافة الأوربية تضع مفكريها الذين أثروا الحياة الأدبية فيها في مكان مرموق، لأنهم الشعلة التي تضئ للأجيال طريق المعرفة والإبداع وتفتخر بهم مدنهم، فما بالك بمدينة المنصورة وقد خرج منها عشرات المبدعين والمفكرين في كل مجالات الأدب المختلفة، كان يمكن أن يتغير بها الحال لو أحسنت تخليد هؤلاء العمالقة.
كان يمكن أن تتحول إلى عاصمة السياحة الثقافية والفن في العالم العربي كله، كان يكفيها فقط أم كلثوم، التي لا يوجد لها أثرغير التمثال، كان يمكن للدولة ان تبتكر أفكارا سياحية  كأوربا  تجذب السياح وتنشط الحركة الثقافية والفنية،  لكن العقم الإداري في الدولة،  وأفكار السوق في المكسب والخسارة ، لم تستطع الوصول بقدراتها المحدودة إلى تحويل الثقافة الي سياحة تنتعش منها محافظات مصر التي أنجبت عمالقة كبارا من اقصي جنوب الصعيد إلى اقصي شمال الدلتا.

المصدر : الجزيرة مباشر