العوالم الافتراضيّة وسطوة “المرياع”

أمّا المرياعُ ــ يا حفيظ السّلامة ــ فهو الكبشُ القائد الذي يقود القطيعَ دون أن يتخلّف أحدٌ عنه على الإطلاق.

والمرياع هو خروف يختارُه الرّاعي فورَ ولادته فيمنع من الرّضاعة من أمّه فلا يرضع ولا يتلبّأ منها أي لا يذوق اللّبأ وهو المادة الصّمغية التي تخرجُ من ضرع أمّه في الأيام الثلاثة الأولى بعد الولادة، بل يتم إرضاعه من علبة زجاجيّة تخرج من “الخرُج” الموضوع على ظهر حمار القطيع، فيعتقد هذا الخروف أنّ هذا الحمار هو أمّه فيتبعه في كلّ تحرّكاته.

وعندما يكبر هذا الخروف ويصبح كبشًا يتمّ خصيه ويطلق عليه اسم “المِريَاع” ولا يتمّ قصّ شيءٍ من صوفه ليغدو كثيف الصّوف وذلك بغية “الهيبة” التي ينبغي أن يكتسي بها القائد، ولإخفاء العُجَرِ والبُجَر التي تتنامى في أنحاء جسده.

ثمّ يوضع في رأسه جرس يسمّى “القرقاع” وهذا الجرس هو الذي يمثّل لغة الأمر لاجتماع القطيع والسير خلفه، فما إن يسير المرياعُ مزهوًّا بنفسه منتفشًا بصوفه الكثيف مزدانًا بالهيبة المصطنعة فيهزّ رأسه لينطلق صوت “القرقاع” الذي يفهمه القطيع جيّدًا حتّى تسارع أشتاتُ الأغنام للتجمّع العاجل والمسير المنتظم خلفه دون مخالفةٍ أو تأخّر، ويتبعونه مطأطئي الرّؤوس دون أن ينظروا أمامهم، ودون أدنى اعتراض منهم على مسيره ولو ساقهم إلى الهاوية أو إلى حتوفهم.

 المرياع وقطيعُهُ بين الهاوية والمسلخ

يذكر الكاتبُ الأردنيّ الأستاذ حلمي الأسمر في مقالة له عنوانها “درسٌ في الثقافة العامة” موقفين وحادثتين تدلان على حجم الاتباع الأعمى من القطيع لمرياعه.

الحادثة الأولى:

“يقول أحد الأصدقاء القدامى: تحضرني قصّة هنا وهو أنّ مرياعًا سار بالقطيع في منطقة وعرة حتى وصل إلى حافّة وادٍ سحيق؛ فانزلقت قدماه فسقط أسفل الوادي فما كان من باقي القطيع إلا أن لحقه ــ بحكم الاقتداء ــ واحدًا تلو الآخر كون النّعاج والخراف اعتادت أن تقاد!”

وهكذا لقي القطيعُ حتفه سقوطًا في قاع الوادي الذي سار إليه متبعًا خطوات المرياع ناظرًا تحت قدميه دون أن يكلّف نفسه أن يرفع رأسَه وينظرَ أمامه ليبصر الطريق المحفوفة بالمهالك التي يسلكها دون أدنى تفكير.

الحادثة الثّانية:

“مشهد آخرٌ، يرويه أحد زوّار المسلخ إذ يقول: ذهبتُ مع أبي يومًا إلى المسلخ ورأيت موقفًا عجيبًا، فقد رأيتُ مجموعةً من الشّياه عددها عشرون شاةً تساق إلى الذّبح دون أن تلتفت أو تفكّر بالهرب، ولاحظتُ أنها تتبع كبشًا قد جعله الراعي قائدًا لهم يتبعونه وهذا القائد مربوط بحبل يمسكه الراعي، فلمّا وصلت إلى مكان ذبحها بدأت الدّماء تنتشر من تلك الشياه، وذُبحَت كلها باستثناء القائد، وبعد ذبحها أخذ الراعي هذا القائد ورجع به إلى زريبته ــ بيت الغنم ــ سالمًا معافى.

فسألتُ أبي عن هذا الذي يتبعه الغنم حتى إلى ذبحها فقال لي: هذا يسمى “المرياع” يتبعه بقية القطيع إلى أي مكان، ويستخدمه الراعي لجمع القطيع في كل مكان، حتى ولو كان إلى الذبح!”

وهكذا ساق المرياع القطيعَ الذي يتبعه إلى الذبح وبقي سالمًا معافى يؤدّي مهمّة تطويع القطيع للسير بقدميه إلى المسلخ الذي لن يرجع منه أبدًا.

 المرياعُ في العوالم الافتراضيّة

ممّا يجب قوله هنا: إنّ ظاهرة المؤثّرين موجودة من بداية البشريّة وكانت تأخذ أشكالًا متعدّدة ومختلفة، لكنّها مع وجود العوالم الافتراضيّة وهجرة مئات الملايين من الشباب من عوالمهم الواقعيّة والإقامة في هذه العوالم الافتراضيّة أخذت ظاهرة المؤثّرين منحىً مختلفًا، فغدا البعض يتبعهم عدة ملايين وبعضهم يتبعهم مئات الآلاف وآخرون يتبعهم عشرات الآلاف، وأبرز ما في ظاهرة المؤثّرين في العوالم الافتراضيّة أنّها أسهمت في صناعة ثقافة القطيع وطبعت سلوك الكثير من المتابعين بسلوك القطيع وهذا احتاج إلى خلق الكثير من المراييع، فلكلّ قطيعٍ مرياعُه، ليغدو “المرياع” من أكثر الشّخصيّات حضورًا في هذه العوالم الافتراضيّة.

فالجمهور المنتمي إلى قطيع المصفّقين يغدو نجمهم ومتبوعهم كالمرياع انتفاشًا، ولكنّه في كثير من الأحيان انتفاش خلّبيّ سببه الصّوف المتكاثف الذي يخفي تحتَه العيوب الحقيقيّة، ويحقق الهيبة المصطنعة الجاذبة، فإبهار الصّورة وعلوّ الصّوت أو تنميق الكلام أو غير ذلك من المحسّنات للمظهر العام للكلام أو الظهور غدت أشد تأثيرًا من الفكرة وعمقها والمضمون وأصالته.

 المرياع بينَ قطيعَين

والمؤثّرون في هذا العالم الافتراضيّ قسمان؛ مؤثّرون تافهون يقدّمون كلّ غثّ ويفسدون الأذواق ويهتكون القيم فهؤلاء كالمرياع الذي يسوق قطيعَه إلى الهاوية فيسقط في قاع الوادي وهو يسير على خطى المرياع دون أن يتبصّرَ بالمآلات ودون أن ينظر إلى حافة المنحدر الذي غدت قدمه عليه فإمّا أنّها انزلقت أو أنّها على وشك الانزلاق.

وأمّا القسم الثّاني من المؤثّرين فهم المؤثّرون الذي يقدّمون محتوى حقيقيًّا له قيمةٌ وفائدةٌ وهؤلاء قلّة ندرة، ووجودهم ضروري لبناء الوعيّ وترشيد الجيل وتنوير الدرب، وعلى الرّغم من القيمة العاليّة التي تقدّمها هذه الشريحة من المؤثّرين إلّا أنّها لم تسلم من التشكّل بصورة “المرياع” مع المتابعين الذي تحوّلوا إلى قطعان تدخل مسالخ المعارك الافتراضيّة بين هؤلاء المؤثّرين فتسيلُ دماء الفضيلة وتُنحرُ آداب الحوار في مسلخ التصارع الذي يتحوّل بقدرة قادر من اختلاف في وجهات نظر يمكن احتماله واحتواؤه إلى صراعٍ بين الحقّ والباطل وبين الكفر والإيمان.

يرجع “المرياع” مزهوًا بنصره في هذه المعركة بينما تبقى القطعان تتناطح وتسيل دماء أخلاقِها وتتعمق الشروخ بينها في معارك وهميّة تمّ إقناعهم أنّها معارك وجوديّة وصراعات صفريّة.

  ثُمّ ماذا؟!

هنا تظهر الحاجة الماسّة إلى ضخّ جرعات عالية ومكثّفة وكبيرة من الوعي بضرورة رفض التّصنيم للأفراد أيّا كانوا، والتفريق بين الاتباع على بصيرة والتعصب الاعمى للأشخاص والتيّارات التي يمثّلها هؤلاء المؤثّرون.

كما أنّنا بحاجة إلى التّعامل مع التفاهة المنتشرة التي غدت منهجًا متصاعدًا متكاملًا في العوالم الافتراضيّة وفق منهجيّات جديدة فاعلة ومغيّرة بعيدة عن إشباع المؤثّرين التّافهين شتمًا بينما هم قد أودَوا بجيلٍ عريضٍ سنقفُ يومًا ــ إن لم نتدارك ــ متحسّرين على إفلاته منّا وضباعه من بين أيدينا وقد تاهوا خلف كلّ “مرياع” وأخذ بألبابهم كل “قرقاع”

المصدر : الجزيرة مباشر