مقاهي المبدعين من مصر إلى ميونيخ!

الفيشاوي في انتظار زبائنه

جلسات المقاهي في التراث الشعبي المصري لها نكهة خاصة، قلما تجدها في أي بلد آخر. لقد اهتم بها بشكل خاص نجيب محفوظ وركز عليها في معظم رواياته، وأسهب في عرض عالم القهاوي وحكايته وإبداعاته، وهو الذي قال عن تأثيرها عليه “إن المقاهي لعبت دوراً كبيراً في حياتي، وكانت بالنسبة لي مخزنا بشريا ضخما للأفكار والشخصيات”.

ليس مهما أن تكون مدخنا في المقهى حتى ترتاده، فالمقاهي الشعبية هي عالم قائم بذاته، يعكس حياة المجتمع المصري البسيطة، خاصة المقاهي المفتوحة في الشوارع المصرية والمختلطة بحركة الناس والباعة، فهي تصبح عالما خاصا يؤثر في فكر المفكر، ويلهم المبدع المتأمل لحركة الناس وتعاملاتهم في الشارع.

الفيشاوي

لعبت المقاهي دورا مهما في معظم روايات صاحب نوبل نجيب محفوظ، وقلما نجد رواية واحدة تخلو من المقهى وعالمه، منذ أول مقهى في حياته “قشتمر” الذي حملت اسمه إحدى رواياته ، إلى مقهى عرابي في حي الظاهر، ثم مقهى أحمد عبده الذي ذكره في قصر الشوق ومقهى كرس أو خان الخليلي الذي تغير إلى مقهى درويش، وهناك أيضا مقهى “كرشه” في زقاق المدق، ومقهى الكرنك وغيرها في الكثير من الأماكن ذات الحضور التي حرص أن يضمنها في رواياته لتأكيد إلهام المقاهي في مؤلفاته.

من المقاهي التي تجذبني دائما في زياراتي للقاهرة  “مقهى الفيشاوي” وهو من أقدم مقاهي القاهرة الفاطمية في حي الحسين الشهير، ومن أشهر زبائنه كان نجيب محفوظ ولا يزال يدين له بالشهرة المضاعفة.

لا يزال الفيشاوي على حاله يحتفظ بعبق التاريخ، وعالم المبدعين والمفكرين الذين كانوا يرتادونه بانتظام، ومع أن الدنيا تغيرت وسنوات العمر مرت الا أنه يعتبر بالنسبة لي من أكثر الأماكن التي تنقلني إلى الماضي دون الشعور بأن شيئا تغير، خاصة تلك الاجواء المحيطة بها في حي الحسين، أما المقاهي المجاورة فهي كلها تتنافس في جذب الزبائن تحت اسم نجيب محفوظ حتى تكاد تشعر من كثرة صوره وتردد إسمه أنه صاحب كل تلك المقاهي.

مع منتصف الليل ودعت الفيشاوي وأباريق الشاي الأسود المطعم بأعواد النعناع الأخضر، وهؤلاء الباعة الذين لايتوقفون لحظة عن المرور بين سيقان الزبائن الممتدة علي مقاعد المقهى العريق في الزقاق الضيق، خاصة باعة الكتب الذين يتوالى تكرار مرورهم دون ملل، يذكرون بثقافة المقاهي القديمة وحكايات المبدعين، أما جدران المقهى القديم، والمقاعد  والمريا العتيقة التي تزين الجدران وصور نجيب محفوظ التي تملأ المكان تشعرك لوهلة بأنك في متحف مفتوح لعالم قديم مازال يصارع للبقاء في زمن تغير تماما ولم يعد يحمل من الماضي الا تلك الشواهد الجامدة التي تذكر به.

في حجرة صغيرة ملحقة بالمقهى، ثمة الكثير من الصور للفيشاوي الكبير صاحب المقهى ونجيب محفوظ وكوفي عنان والملك فاروق والكثير من مشاهير المجتمع الذين زاروا المقهى وجلسوا فيه، اضافة الي العديد من الأدوات القديمة كالراديو والمصابيح والأرائك والسجاد القديم، ورغم قيمة هذه الاشياء المهمة الا ان الاهمال قد طالها، ربما لعدم إدراك قيمتها التاريخية من أصحاب المقهى الذين وصلوا إلى الجيل السابع الآن منذ افتتاحه في عام 1710 علي يد الحاج فهمي الفيشاوي.

مقهى أندريا

ليست القاهرة وحدها هي التي تشتهر بالمقاهي التاريخية، فالتاريخ في مصر يكتب سطوره عبر شواهد موغلة في القدم لا تتغير منذ الحقبة الفرعونية، في المنصورة أيضا اعتدت الجلوس على مقهى “اندريا” أحد أشهر المقاهي القديمة في تلك المدينة، والذي مازال يحتفظ بالأصالة وطابع العشرينيات منذ أن أنشأه الخواجة اليوناني كوستاس أندريا في سنة 1906 وكان مخصصا للجالية اليونانية التي استوطنت المنصورة بداية عام 1840، وكانت تعتبر المحافظة الثانية بعد الإسكندرية التي استوطنها يونانيون.

مكان المقهى الفريد جعله مميزة للغاية منذ تاريخ إنشائها، فهو يطل على نيل المنصورة في مقابل كوبري طلخا الذي يربط بين المنصورة وطلخا، ومما يضفي جمالا على الموقع أن “أندريا”  في وسط شارع الكورنيش، ويحمل أهم خاصية أحبها في عالم المقاهي وهي خاصية الاختلاط بالناس، فأنت فيها تستطيع أن تراقب حركة الشارع دون كلل.

جلس على هنا الكثير من مشاهير عصرهم مثل نجيب محفوظ، وعلي محمود طه، ومحمد عبد الوهاب، وأنيس منصور وفاتن حمامة، وقد لحن سيد درويش أغنية القلل القناوي على أحد مقاعده.أما أم كلثوم ابنة المنصورة فقد زارته في بداية عهدها مع والدها الشيخ أبو العلا وأنشدت طقطوقة يا عيني الهجر.

لم يكن “أندريا” مقهى عاديا، فقد كان مميزا جدا بالنسبة لأنه كان مركزا لكبار تجار القطن والعقارات والأراضي، فقد كانت المنصورة في ذلك العهد مركزا لتجارة القطن في الدلتا،. من حسن الحظ أن المقهى احتفظ باسمه عام 1958، عندما تم بيعه لأحد المصريين الذي اشتراه ومن ثم أوصى ورثته بعدم إزالة اسم “أندريا”، ليبقى اسمه خالدا حتى الآن.

مقاهي ميونيخ

في ميونيخ افتقد روح المقاهي العربية فليس لها أكثر من الاسم، وهي تفتقد كل ما فات في مقاهي مصر القديمة، فهي ليست أكثر من هجين يحاول أن يصل بالشكل فقط إلى صورة المقاهي العربية، فلا البيئة ولا المناخ ولا حتى الزوار مثل الشباب الألماني الذي يستبد به الفضول لتدخين الشيشة يعوضك شيئا عن المقاهي التاريخية في مصر.

أما أنا فقد وجدت ضالتي ليس في مقهى عربي لكن ألماني يحمل السمات العربية مشهورة بجلوس أبناء الجاليات الأجنبية والعربية عليه، وهو قريب جدا من محطة القطارات ويتميز بالمقاعد الخارجية المختلطة بحركة الناس خاصة في فصل الصيف، ومع أن حركة الشارع هنا مختلفة تماما عن الحركة هناك، إلا أنه يظل المكان الوحيد الذي يذكرك بعالمك البعيد الذي يصعب أن يتكرر في هذه البلاد.

المصدر : الجزيرة مباشر