الصين على شفا حفرة من النار!

جانب من الاحتجاجات أمام شركة إيفر غراندي

للشهر الثالث على التوالي يواجه الاقتصاد الصيني أزمات مالية طاحنة، فبعد خسائر شركات التكنولوجيا التي تعدت نحو تريليون دولار خلال أسبوع واحد، وما أعقبها من كوارث طبيعية مدمرة على مدن الجنوب، تواجه الصين “أضخم فقاعة اقتصادية في التاريخ” كما يصفها وانغ جيان لين أغنى رجل في الصين. تبين المظاهرات التي شاهدناها وتكررت خلال الأيام الماضية في شينزين وهي أكبر مدينة من حيث عدد السكان جنوب غرب البلاد، وهونغ كونغ وعشرات المدن الأخرى، أن الصين في طريقها إلى أزمة ضخمة.

وهناك من وصف الأزمة بأن “مؤسسات الصين المالية على شفا حفرة من النار”، ويعتقد كثيرون أن آثارها ستمتد لتصل إلى الأسواق الدولية، بما يعيد للأذهان الأزمة المالية التي عشناها عام 2008، وأدت إلى إفلاس بنوك عملاقة واختفاء شركات كبرى وانهيار في بورصات الأسهم والسندات، بداية من نيويورك إلى كل أسواق العالم.

كشفت حشود المتظاهرين أمام مقر شركة إيفر غراندي جروب China Ever Grande Group التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية والدولية خلال الأيام القليلة الماضية، عن حجم المأساة التي ستصيب مئات البنوك والشركات وملايين المواطنين مع الانهيار السريع الذي تعرضت له ثاني أكبر مطور عقاري في الصين.

فالشركة التي تستثمر في 1300 مشروع عقاري، تقع في 280 مدينة، ولديها عملاء بالملايين، منهم مليون و500 ألف فقط ينتظرون تسليم وحداتهم العقارية غير المكتملة منذ سنوات، أوشكت على الإفلاس. وهناك 128 بنكا و120 جهة تمويل غير مصرفي، تطالب الشركة بالأموال التي اقترضتها منهم على مدار السنوات الماضية، بينما الشركة التي ارتفعت ديونها الأكبر في تاريخ الشركات في العالم، حتى بلغت أمس الأول 305 مليارات دولار، لن تستطيع سداد حقوق المساهمين أو حاملي السندات أو دفع أقساط الدين التي ستحل الأحد 20 سبتمبر/أيلول الحالي. وهوت أسهم الشركة إلى أقل من قيمة الاصدار عام 2009، المقدر بـ3.5 دولارات هونغ كونغ، ولا تجد من يشتري أصولها، وتنتظر تدخلا عاجلا من الدولة لإنقاذ المساهمين والمشترين الذين لن يحصلوا في أكثر التقديرات تفاؤلا، إلا 25% من قيمة مستحقاتهم أو يمكنهم استلام ما يزيد عن مليون وحدة، غير مكتملة البناء.

الحماقة الأمريكية نفسها

ارتكبت الشركة الحماقة التي وقعت فيها الشركات الأمريكية، التي تسبب في كارثة عام 2008، إذ استغلت علاقاتها بالأجهزة الحكومية والبنوك الرسمية في الحصول على تمويلات بنكية ضخمة، وتوسعت في بناء مشروعات أكثر ضخامة على شكل ناطحات سحاب وأبنية فارهة وأحياء ومدنا جديدة، مستغلة علاقاتها مع الحكومات المحلية وقيادات في الحزب الشيوعي الصيني بتكرار الاقتراض لهذه المشروعات، بينما السوق في حقيقة الأمر يعاني من هبوط في الشراء وحرق للأسعار، الذي يقوم به بعض الموظفين  في الحكومات المحلية وأعضاء بالحزب الحاكم، ممن يتمكنون من الحصول على تسهيلات ائتمانية لحجز الوحدات وإعادة بيعها قبل تسلمها من الشركة.

خلق هذا التلاعب فقاعة ضخمة وكبرت هذه الفقاعة خلال  السنوات الثلاث الماضية، ورغم تحذير الخبراء من انفجارها قبل عامين من وقوعها، بعد أن زادت كميات المعروض من العقارات، وعدد الشقق الشاغرة، خاصة من الإسكان الفاخر وفوق المتوسط، عن 40% من تعدد الوحدات في البلاد، وانتشار ما يعرف بمدن الأشباح التي انتشرت بسبب زيادة المضاربات العقارية التي يشارك في ملكيتها رجال أعمال من المقربين للحزب الشيوعي، والحكومات المحلية التي توسعت في بيع الأراضي، لتوفير السيولة المالية لميزانياتها، بعد أن أصبحت المنافسة بين  حكام الأقاليم، في مدى قدرتهم على توفير المال اللازم لمدنهم، بعيدا عن الموازنة المركزية للدولة.

لم يخل الأمر من فساد اجتماعي واسع، فالصين من الدول القليلة في العالم التي لا تفرض ضرائب على الممتلكات العقارية، بما دفع معظم الشركات الصينية إلى الاستثمار في العقارات التي أصبحت توازي 10% من اجمالي الناتج الإجمالي الكلي للدولة. فخلال عام 2019، بلغت مبيعات العقارات 16 تريليون يوان، بما يوازي 2.5 تريليون دولار، بينما يشهد سوق العقارات انفجارا منذ عقدين كاملين. فالطبقة الوسطى الداعمة للحزب الحاكم ورجال الأعمال المقربين منه والحكومات المحلية التي تحولت إلى تجار أراض، تحالفوا جميعا ضد القيود التي حاولت الحكومة المركزية فرضها من أجل تقييد مبيعات الأراضي ومحاولات السيطرة على الفقاعة منذ بدايتها. وشكلت عوائد العقارات لهذه المجموعات حجر الزاوية في تكوين ثرواتهم الجديدة، بما حولهم إلى مضاربين عقاريين متحمسين وبعضهم شارك في الاحتجاجات التي تنظم أحيانا في الأقاليم من أجل السيطرة على الأسعار، بما يدفع الحكومة المركزية إلى التراجع عن اتخاذ حلول حاسمة لمنع الكارثة. أصبح القطاع العقاري يشكل الجزء الأكبر من ثروة الأسر، والبعض يعتقد أنه يمثل 30% من قيمة الاستثمار العام داخل الصين، كما أنه جزء كبير في عوائد غسيل الأموال وتهريب الثروات غير المشروعة، داخل الصين وخارجها، كما كشفت ذلك كثير من وقائع الفساد التي طالت وزراء ومسؤولين في الحزب الشيوعي على مدار السنوات الماضية.

تهديد البنوك الدولية.. والعربية أيضاً

تحول إفلاس مجموعة إيفر غراندي إلى كرة ثلج عملاقة نزلت من ثاني أعلى قمة اقتصادية في العالم، فأصبحت بذلك تهدد البنوك المحلية والدولية ومنها الأمريكية التي تطرح أسهمها في بورصاتها، بل والعربية حيث تشارك الصين في مشروعات عقارية ضخمة بها، كالتي تقام حاليا في مصر أو دبي وغيرهما، ممن يتشاركون مع تلك المجموعة أو البنوك الصينية الكبرى التي لن تستطع الحصول على مئات المليارات من الدولارات من الديون المتراكمة عليها. فمن المرجح إشهار إفلاس الشركة، لتجنب حالة الذعر التي أصابت الأسواق المالية، ومحاولة انقاذ الملايين من مالكي الوحدات، من خراب مالي، وإن كان ذلك غير مرحب به من قبل الرئيس شي جين بينغ، الذي وضع “الخطوط الحمراء الثلاثة” على شركات العقارات، بهدف تقنين نسب الائتمان والسيولة وضبط الميزانيات العمومية، وطبقها بسرعة البرق، على شركات تغولت في الفساد لسنوات. فالرئيس يرفع شعارا جيدا يستهدف جعل العقار لـ”العيش والسكن وليس للمضاربة”، لم يتمكن بعد من إزالة أسباب هذه المضاربات التي لا تتم بعيدا عن أيدي رجاله ومسؤولي الحزب والحكومات المركزية أو المحلية في الأقاليم. لذلك سيظل انهيار الشركات العقارية في الصين سيفا على رأس الاقتصاد الصيني، رغم أن هناك من يراهن على أن الحكومة الصينية “لن تفشل أبدا، في إدارة هذه الأزمات باعتبارها تملك أدوات السيطرة على أكبر ٦ بنوك تتحكم في 75% من سوق قروض الرهن العقاري والشركات العقارية والمالية الكبرى وتدفقات رأس المال حيث تتحكم في أموال التأمينات الاجتماعية وتملك كل أراضي الدولة وتدير سوقها الرأسمالي عبر قيادة مركزية اشتراكية.

لعنة الفقاعة العقارية في الصين لن تتوقف عند حدودها، بعد أن دفعت إلى تباطؤ ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر شريك تجاري لمصر وثاني أكبر شريك تجاري للدولة العربية. فسوق العقار الذي يتجاوز 4 تريليونات دولار سيقلل من الدعم المالي الموجه من الصين للخارج، في مشروعات كبرى قد تكون في العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها، لكن الأخطر من ذلك أن أسباب الفقاعة هي نفسها التي نشهدها في السوق المصري على وجه التحديد، ولا ينظر إليها أحد، حيث تفرح الحكومة بالمضاربات على أسعار العقارات وتتحكم في بيع الأراضي بأسعار خيالية، وتزهو بذلك بينما صنعت في السوق خللا يؤكد الخبراء أنه بوادر فقاعة مشابهة لما يحدث في الصين ومن قبلها وقعت في دبي والسوق الأمريكية. قد تحمي قوة الاقتصاد الصيني المتنوع سوق المال من الانهيار التام، ولكن إذا تدحرجت كرة الثلج في الاقتصاد المصري الذي يعتبر سوق العقار قاطرته للتنمية، فإنه سيتجه لا محالة إلى حفرة بركان ملتهبة.

المصدر : الجزيرة مباشر