الولايات المتحدة وعودة الوعي.. سوريا تنتظر

ضحايا السياسة الأمريكية التي أطالت عمر الاسد

عندما استخدم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مصطلح “الحرب الصليبية” في خضم فورة الغضب التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول، كان واضحا أن شعار مكافحة الإرهاب الذي رفع حينها قائما بشكل أساسي على الإسلاموفوبيا. وعلى الرغم من أن الرئيس بوش وصف ذلك لاحقا بزلة لسان، خاصة بعد تذكيره بأن ثمة دولًا إسلامية يحاول هو ضمها لتحالفه، فلم تكن الحملة التي بدأتها قواته في أفغانستان، ثم العراق، بعيدة عن الحملات الصليبية التي اتسمت بها حقبة العصور الوسطى.

في خضم تلك الحملة التي اتخذت نوعًا من وعود “اللاهوت السياسي” من قبيل “جلب الديمقراطية” و”حماية القيم الحداثية”، خضعت بلدان العالم لتصنيف أمريكي بدائي مثير: “من لم يكن معنا فهو ضدنا”.

للأسف تركيا لديها تجربة شبيهة للغاية بتلك الحملة الصليبية التي أعلنها بوش. ويتضح ذلك، على سبيل المثال، من المقارنة التي عقدها الصحفي روشان تشاكير، عندما شبه الحملة الأمريكية في أفغانستان بأنها “28 شباط/فبراير العالمية” (انقلاب 28 شباط في تركيا ضد حكومة الراحل نجم الدين أربكان). لكن يبدو أنه لم يكن مدركًا بأن هذا التوصيف إنما هو إقرار بأن ما حدث في 28 شباط كان انقلابًا، وأن الحملة التي رافقته كانت حملة صليبية أيضًا.

لم يكن هذا الشبه الوحيد بينهما فحسب، بل إن 28 شباط يشترك مع حملة بوش في قاسم مهم للغاية، وهو “الحرب الوقائية” القائمة على معيار اتخاذ الشعب عدوا، وتصنيف مدارس الإمام-خطيب تحت خانة “العدو السياسي” الذي تمثل آنذاك في حزب الرفاه.

الأجيال المعادية

كان من الواضح أن تلك العقلية كانت تضع في حسبانها أن “الأجيال المعادية” من الممكن أن تصل للسلطة بمفردها مطلع الألفية الثالثة ما لم يتم اتخاذ تدابير. لكن المفارقة التي تتكرر على مر التاريخ هي أنه على الرغم من إغلاق مدارس الإمام-خطيب في ظل تلك “التدابير” كي لا يصل أجيالها إلى السلطة لاحقًا، فإن ذلك لم يقف عائقًا امام حزب العدالة والتنمية من الوصول بالفعل للسلطة بمفرده عام 2002.

في نهاية المطاف خرجت تلك العقلية من 28 شباط وهي خاسرة تماما، بسبب جهلها المفرط وثقتها العمياء بالنفس.

وإذا ما كانت الحملة التي بدأتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر يمكن وصفها بـ”28 شباط العالمية”، فإن الفشل كان مصيرا محتومًا في كلا الحالتين. ولم تستطع تلك الحرب التي انطلقت ضد ما أسمته “الإرهاب الإسلامي”، أن تفلت من مصير مشابه لانقلاب 28 شباط. وبينما كانت تطمح تلك الحملات للقضاء على “كراهية الولايات المتحدة الأمريكية”، لم تفلح سوى في تأجيج تلك الكراهية.

بعد مضي عشرون عامًا، بات لزاما على الولايات المتحدة أن تجري تقييما أكثر حصافة بشأن ما كسبته وما خسرته داخليا وخارجيا، ويبدو أنها قد بدأت بالفعل ممارسة نقد ذاتي، أولًا في العراق ثم أفغانستان، وبالتالي قررت الرجوع من حيث كان الخطأ. ويجدر بنا أن نقول بأن هذا التحرك فيه منفعة للإنسانية.

من الآن فصاعدا

يمكن للولايات المتحدة من الآن فصاعدًا أن تؤسس علاقات أكثر نفعا على المدى الطويل؛ سواء مع العراق أو أفغانستان لكن بطريقة أفضل تضمن مصالحها من جانب، وتحترم شعوب هذين البلدين من جانب آخر. ولو نجحت في تأسيس هذا النوع من العلاقات فلن يعترض عليها أحد على الإطلاق، فضلًا عن أن هذه العلاقات ستكون أكثر فائدة لكلا الطرفين، طالما أنها -أي الولايات المتحدة- لن تلجأ لممارسات “28 شباط العالمية”، أو تتصرف كدولة احتلال.

على صعيد آخر، حينما كانت الولايات المتحدة تناقش فكرة سحب قواتها من العراق، ربما كانت لديها فرصة ثمينة لتحسين صورتها بشكل عام، وذلك من خلال سحب قواتها من سوريا، والوقوف إلى جانب شعب ضد ديكتاتور يمارس أبشع المجازر. إلا أنها ضيعت هذه الفرصة التاريخية عندما تحولت مغامرتها في سوريا إلى مسار مختلف تمامًا. حيث إنها من خلال الدعم الذي أغدقته على تنظيم إرهابي ضد دولة حليفة لها مثل تركيا، باتت بعيدة عن الشعبين السوري والتركي في آن واحد.

إن مغامرة الولايات المتحدة في سوريا لن تجلب لها أي منفعة على الإطلاق، تمامًا كما حدث في أفغانستان والعراق، لأنها مغامرة تتعارض مع الحقائق الاجتماعية لهذه الجغرافيا. وإن مصير أي نظام تؤسسه هناك عبر عمليات ديمغرافية أو عبر دعم تنظيم إرهابي ضد تنظيم إرهابي آخر؛ سيكون الفشل فقط.

لو كفت الولايات المتحدة عن سياساتها المعقدة التي أطالت عمر نظام الأسد الذي كان على وشك الانهيار، لكانت المياه في سوريا قد هدأت منذ فترة طويلة، ولكان تأسيس نظام سياسي جديد يسوده السلام مع الشعب احتمالًا غير بعيد، إلا ان الولايات المتحدة فضلت اتباع سياسة غير شفافة حتى مع حلفائها، مما أضر بالمنطقة وبالولايات المتحدة ذاتها.

لكن إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في الحل أو في الحفاظ على سمعتها على الأقل، فليس عليها سوى الابتعاد عن المسار الذي تسلكه حاليا إزاء سوريا. بذلك فقط قد تستعيد صورتها وسمعتها التي دُمّرت في أفغانستان والعراق.

المسار الجديد المأمول في سوريا يعتمد على تأسيس إدارة سياسية جديدة متصالحة مع الشعب، تضمن عودة السوريين من الشتات إلى أراضيهم ووطنهم. أما الأدوات اللازمة لتحقيق ذلك فهي واضحة للغاية.

 

المصدر : الجزيرة مباشر