الشّتائم السّياسية.. ودراسة بريطانية: إنها تريح الجسم!

يمكن اعتبار الشّتيمة السّياسية فعلُ مقاومةٍ سلمي يُعبّر عن رأي الشّعوب المقموعة التي انفلتت من أسر السّلطات الاستبدادية، وقد تبدت في اللافتات والأهازيج التي اخترعها المتظاهرون العرب في سنوات الرّبيع العربي. محافظين بذلك على نفس النّسق الثّقافي الذي انتهجه بعض الشّعراء مثل مظفر النّواب في العراق، ونجيب سرور في مصر.

وللشتيمة أثواب ترتديها بحسب الموقف والشّخص. فقد تكون مهذبة وحادّة في الوقت نفسه، وقد تكون فجة ومباشرة ومقذعة. وقد استخدمها رؤساء العالم للتعبير عن الاستهانة والتّحقير لرؤساء آخرين.

استخدام الشّتيمة كموقف سياسي.

المتداول عالمياً تراشق الرّؤساء بالشّتائم واستخدامها كسلاح يمكن أحياناً أن يكون أشدّ تأثيراً بما يملكه من قوة على الجرح والإهانة والاستفزاز الذي يؤدي إلى ردود أفعال عنيفة قد تكلّف البادئ بالشّتم ثمناً باهظاً حسب ما تفرضه سياسة الرّئيس وقوة تحكّمه بأعصابه وضبط ردّ فعله. وعُرف من الرّؤساء “العرب” المعاصرين عبارات قالها القذافي حين وصف شعبه “بالجرذان والفئران والقطط”. وزين العابدين بن علي الذي وصفهم “بالعصابات الملثمة”. وعمر البشير وصفهم “بشذاذ الآفاق”. أمّا بشّار الأسد فقد وصفهم “بالجراثيم” واستخدم الكيماوي كمطهر!

من الزّعماء العرب عُرف عبد النّاصر بميله للفكاهة في خطاباته التي يلقيها أمام الجماهير، وبما يملكه من سرعة بديهة في إجاباته على محاوريه. لم يستخدم عبد النّاصر شتائم مقذعة في حق خصومه، لكنّها كانت عميقة الأثر ومستفزة ومهيّجة للجماهير وذات وقع قوي يؤدي بالنّاس للخروج إلى الشّوارع تعبيراً عن موقف الزّعيم نفسه. ففي خطابه الذي ألقاه في /2/10/ 1960/ أثناء الوحدة، واستهزأ فيه من الملك حسين ووصفه بالملك الصّغير والملك الأجير واتّهمه بالعمالة والتّآمر على مصر وعلى دولة الوحدة وأنّ الأمريكان استأجروه كما استأجروا جده. خرج النّاس في سوريا إلى الشّارع ليهتفوا “شعبٌ واحد لا شعبين اسمع يا حسين”.

وفي خطاب آخر قال: “لما تطلع الإذاعة البريطانية وتقول: إنّ عبد النّاصر كلب، نرد عليهم ونقولهم وأنتوا ولاد ستين كلب”.

وفي مؤتمر صحفي سأله أحد الصّحفيين الأجانب عن تحمّله للأزمات بعد مضي أحد عشر عاماً عليه في السّلطة، وهل يلعب سنه دورا في ذلك. أجاب عبد النّاصر: “بالنسبة للسن أنا ما عجزتش قوي ولسه ما بلغتش الخمسين وأنا مش (خرع) زي المستر ايدن” كما أضاف بأنّه يقرأ الديلي اكسبريس باستمرار وحين لا يشتمونه يزعل! فهم يشتمونه منذ سنة 56.

وهذا القول يدل على أنّ الأمريكان كانوا يستخدمون القوة الإعلامية الضّاغطة للشتائم للتقليل من شأن عبد النّاصر والتّأثير على مواقفه عالمياً.

الشّتيمة وسيلة تنفيس عن الألم.

الغريب أنّ النّظريات العلمية الجديدة نسفت الكثير من المفاهيم الأخلاقية السّائدة التي نشأت عليها الأجيال السّابقة من اعتبار الشّتيمة انحدار اخلاقي ودليل على التّربية السّيئة. فقد ظهرت دراسة بريطانية لطبيب بريطاني يُدعى “ستيفنز” يقول فيها “إنّ للشّتيمة تأثير إيجابي يريح الجسم، ويفعل فعل المُسكّن للألم، وأنّ الإنسان لا يتعلّم الشّتيمة من الشّارع ورفاق السّوء بل هو شتّام بالفطرة! وأنّ الشّتيمة لا تعدو عن كونها ردّ فعل إيجابي على مؤثرات خارجية ضاغطة على النّفس البشريّة. ليس هذا فقط فهي ترفع مقدرة الإنسان على التّحمل وتشعره بالارتياح”.

الشّتائم السّياسة الشّعبية

كما استخدم السّاسة الشّتيمة استخدمها الشّعب بالمقابل كرد فعل على التّسلط وطغيان الحكومات، وخاصة بعد ثورات الرّبيع العربي، وكانت السّاحة اللبنانية الأحدث في استخدام الشّتيمة في المظاهرات والأكثر مباشرة وتحدياً. وقد استخدمت الهتافات واللافتات والكتابة على الجدران والأهازيج.

على أحد الجدران في بيروت كتب أحدهم شاتماً أعضاء مجلس النّواب “128 عرصا” وهذا القول سبقه في التّاريخ قولٌ مشابهٌ لأجداد المتظاهرين الحاليين “99 حرامي” وهو عدد النّواب في ذلك الوقت.

الجرأة التي سادت المظاهرات اللبنانية خاصة من “الإناث” فاقت المتوقع وقضت على كلّ المفاهيم الأخلاقية السّائدة، ولم يقتصر ذلك على الشّارع بل تجاوزه لمواقع التّواصل “تويتر وفيس بوك”. ووصف بعض المراقبين ذلك بأنّه تدهورٌ أخلاقي ظهر مع بدء الحرب الأهلية وسقوط الضّوابط وسيادة البذاءة.

لكن هؤلاء لم ينظروا إلى هذه الظّاهرة نظرة موضوعية تشمل الظّرف التّاريخي الذي وصلت فيه درجة الكبت والقمع إلى أقصى حدودها وجعلت بركان “البذاءة” ينفجر محطّماً التّابوهات الدّينية والجنسية والسّياسية. وكما اعتُبرت القصائد البذيئة في عالمنا العربي فعل مقاومة صارت الشّتائم الموجهة إلى الأنظمة فعل مقاومة وكسر للقيود خصوصاً في الدّول التي امتدّ إليها الرّبيع العربي مطالباً بإسقاط أنظمتها الشّمولية والطّائفية.

وقد ألغت الشّتائم المسافات والمقامات وساوت بين الرّؤوس فشتْمُ متظاهر لرئيس دولة أو صاحب سلطة يلغي قيمة المنصب والمكانة التي يتمتع بها. وقد ساعدت منصات التّواصل الاجتماعي على إلغاء تلك المسافة وتمكين من يشاء من وضع رأسه مقابل أيّ زعيم أو صاحب سلطة وشتمه والهزء منه.

مواقع التّواصل الاجتماعي ساهمت أيضاً بالإطاحة بالثّوابت وقلبت الموازين، فصار السّياسيون في موقع الدّفاع عن أنفسهم إزاء الشّتائم التي يتلقّونها من المتظاهرين.

الشّتائم العنصرية

لم يكن الشّاعر المهجري “إيليا أبو ماضي” أوّل شاعر عبّر عن موقفه العنصري من الآخر “الأسود” حيث قال في قصيدته فلوريدا التي يراها جنة:

إلا ذوو السّحن السّوداء واعجبا   …  أجنّةٌ وذبابٌ في نواحيها؟

فقد سبقه المتنبي بقوله:

لا تشترِ العبد إلا والعصا معه … إنّ العبيد لأنجاس مناكيد.

وفي المقام نفسه شتم الرّئيس الفلبيني رودريغو دويوترتي نظيره الأمريكي “أوباما” بقوله له “ابن العاهرة” لكن أكثر الشّتائم التي تناولت أوباما كانت بسبب لونه.

شتم الظالمين.

“تُحظّر الفقرة 2 من المادة 20 في العهد الدّولي الخاص بالحقوق المدنية والسّياسية أيّ دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدّينية تُشكّل تحريضاً على التّمييز أو العداوة أو العنف”.

السّؤال الذي يتبادر إلى الذّهن “هل شَتمُ الظّالمين وأصحاب السّلوك السّيئ حقٌ للأفراد والجماعات؟ وهل تتضمن تحريضاً على الكراهية؟”.

يجيب على هذا السّؤال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة “19” منه: “لكلِّ شخص حقُ التّمتع بحرِّية الرّأي والتّعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.

نخلص إلى أنّه ليس من حق أحد حرمان النّاس من حريّتهم في التّعبير واختيار الوسيلة التي يرونها مناسبة لذلك حتّى لو كانت أبشع نوع من الشّتائم في وجه نظام اعتقلهم وقتل أكثر من مليون شخص منهم وهجّر ملايين آخرين؛ لأنّهم قالوا “لا” للظلم، والاستبداد، وطالبوا بحياة أفضل.

 

المصدر : الجزيرة مباشر