الأنفاس الأخيرة للمكتبات السورية

لاشكّ أنّ المكتبات هي الرّئة التي يتنفس من خلالها الجسد الثّقافي في أيّ بلد من بلدان العالم. وزيادة أعدادها تعني أنّ هذا الجسد في وضع صحي جيد بينما يُشكّل تناقصها حالة اعتلال سيزداد سوءاً كلّما ازداد نقصها. وعندما يقع الوطن فريسة الاستبداد الفردي سيختنق الوطن ويختنق معه هذا الجسد الثّقافي، ولن تكون المكتبات في هذا الوضع سوى أنفاس أخيرة لجسد بدأ يدخل حالة الغياب.

مكتبة نوبل

نعى المثقفون اليساريون السّوريون -مؤخراً-على مواقع التّواصل مكتبة نوبل التي اتّخذ صاحبها قراراً بإغلاقها نهائياً؛ لأنّ سوق الكتب لم يعد رائجاً ولم يعد يطعم خبزاً في زمن صار فيه الحصول على ربطة خبز يتم عبر البطاقة الذّكية وضمن طابور قد يستغرق نصف النّهار. والوضع المأساوي لأصحاب الصّناعات يزداد سوءاً في ظلّ الانهيار الاقتصادي وانهيار سعر الليرة ما جعل الكثيرين يتخلّون عن حرفهم خاصة اليدوية.

اللافت للنظر في هذا الموضوع أنّ المثقف السّوري يتبنى من حيث لا يشعر مبدأ الكيل بمكيالين، إذ لم نسمع له صوتاً عند إغلاق بعض المكتبات بالشّمع الأحمر ولم نسمع له صوتاً حين دمّرت البراميل المتفجرة المكتبات والحجر والبشر معاً. عدم اهتمام المثقفين السّوريين بتدمير مكتبة عجّان الحديد -مثلاً- وتباكيهم على مكتبة “نوبل” أنّ تلك المكتبة التي أغلقها صاحبها بنفسه لن تؤذي أصحاب النّعي؛ لأنّها لا تدخل ضمن إطار التّحريض على الدّولة ولا تُصنّفهم كإرهابيين ولا يمكن أن يحسبوا على المعارضة وهو أضعف الإيمان.

الناعي لمكتبة “نوبل” يمكنه التّفجع عليها ما استطاع. أمّا عجّان الحديد فناعيها سيشحط من قبل المخابرات إلى حيث لا عودة ولن يرى النّور ثانية. مع أنّ المبدأ العام يجب أن يبقى ضمن إطار الحفاظ على كلّ المكتبات حرصاً على صحة الجسد الثّقافي وصحة الوطن.

عجّان الحديد

حين تتحوّل المكتبة من مكان لبيع الكتب إلى مركز يلتقي فيه المثقفون بحثاً عن المعرفة ويكون “الكُتبي” أكثرهم معرفة وثقافة فاعلم أنّك في مكتبة “عجّان الحديد” وأنّك في حلب الشّهباء.

تأسست المكتبة عام 1787 موقعها قرب “جامع زكريا” الذي أُطلق عليه اسم “الجامع الأموي الكبير”. وقد استطاع أحد ورثتها -حامد عجان الحديد- أن يجلب للمكتبة أمّهات الكتب والمخطوطات النّادرة وذلك في سفراته المتعددة إلى إسطنبول والهند ومصر والمغرب، ولم يقتصر نشاطه على بيع الكتب للمهتمين بل كان أكبر مُورّد كتبٍ للمكتبة الوطنية في حلب. وكانت مكتبته ملتقى لرجال الفكر والسّياسة والأدب، مساهماً بذلك في نشر الثّقافة ومنْح حلب صورتها المضيئة، وقد بقيت المكتبة على مدى مئتين وعشرين عاماً المكتبة الأضخم في حلب قبل أن تُدمّرها براميل بشار الأسد المتفجرة كما دمرت حلب القديمة بكاملها. توفي حامد سنة 1976 قبل طوفان البعث الذي اقتلع الثّقافة من جذورها وأعاد تدويرها لتصبح سلعة كغيرها من السّلع.

ليست دمشق عاصمة الثّقافة السّورية كما يدّعي البعض أو يتخيلون، فنظرة بسيطة إلى تاريخ المكتبات تُرجّح الكفة لمدينة حلب، المدينة التي شكّلت ثقلاً حضارياً وثقافياً وتجارياً وصارت في عهد البعث العاصمة الاقتصادية لسوريا. وقد كانت في القرنين الأخيرين من عهد السّلطنة العثمانية المدينة الثّانية في السّلطنة بعد إسطنبول من حيث “الاقتصاد والثّقافة”.

مكتبة عجّان الحديد هي تاريخ مدينة حلب التي يعرفها ويقصدها كلّ طلبة العلم ومحبي القراءة.

المكتبة الظّاهرية والأسد

ضمن المخطط التّدميري الذي انتهجه حافظ الأسد في تشويه وجه سورياً عمرانياً وثقافياً بنى الأسد أكبر مكتبة في سوريا في العاصمة دمشق وأطلق عليها اسمه “مكتبة الأسد”، وذلك للتغطية على الوجه الثّقافي الحقيقي لمدينة دمشق المتمثل في “المكتبة الظاهرية” التي نقلت محتوياتها والأدق “سرقت” محتوياتها وأودعت في “مكتبة الأسد ضمن مخطط مدروس لتفريغ الدّولة من أيّ حالة ثقافية تضرّ بمصالح المافيا الحاكمة ونهجها الطّائفي، وليصبح الرّئيس المثقف الأوّل في الدّولة كما كان المعلّم الأوّل والرّياضي الأوّل والحاكم المطلق.

اقتران الثّقافة السّورية باسم الأسد امتدّ إلى المطبوعات الحديثة برمتها، والصّحف ودور النّشر والإعلام وكلّ ما له علاقة بالثّقافة من قريب أو بعيد.

وحالة “الإفلاس” الثّقافي لم تقتصر على المكتبات والصّحف بل طالت المفكرين والكُتّاب والشّعراء، فقد كرّس النّظام السّوري أسماء بعينها من مؤيديه لتكون الوجه الثّقافي للبلد وأبعد المفكرين الحقيقيين الذين لم يطبّلوا للنّظام ويدعموا مجازره وطغيانه، فبرز أدونيس كشاعر أوحد، وتصدّر دريد لحام المشهد الدّرامي، واستمرّ “علي عقلة عرسان” ثلاثين عاماً في حكم “اتّحاد الكتّاب العرب” قبل أن ينتقل مركز الاتّحاد إلى القاهرة.

المكتبات والثّورة

يمكن لمكتبة أن تكون مركزاً ثقافياً، كما يمكنها أن تتحوّل إلى بؤرة ثورية حين ينشر صاحبها فكراً حرّاً بين الأجيال الشّابة بما ينتقيه لهم من كتب مع تسهيلات في الأسعار أو الإعارة أو تأمين كتب من الخارج غير موجودة في البلد بسبب وضع سياسي معين. لأجل ذلك حارب الطّغاة المفكرين من أصحاب المكتبات الذين آمنوا بأنّ العقل مفتاح الشّخصية الإنسانية وتغذيته بالحريّة العتبة الأولى لبناء مجتمع جيد. وهذا ما آمن به صاحب مكتبة “أرميتاج” في حلب، فاعتقله النّظام السّوري عام 2012 ومات تحت التّعذيب عام 2016 في سجن صيدنايا، لا شكّ أنّ معظم القرّاء من الشّباب سيذكرون “جهاد جمال” وإن أغلقت مكتبته بالشّمع الأحمر فقد ترك أثره الباقي ورحل.

مكتبة الفجر

تُشكّل مكتبة الفجر في حلب المثال الأوّل على بداية خنق الجسد الثّقافي في سوريا، فمع انهيار الاتّحاد السّوفياتي وبداية تراجع الشّعارات الممجدة له في سوريا بدأ الطّلب على الكتب اليسارية يتراجع بشكل كبير ما جعل صاحب مكتبة الفجر يعرض الكتب بخصومات تصل إلى 70% بالمئة دون جدوى، وهذا مؤشر إضافي على تدهور الحالة الاقتصادية للمدينة بعد أن قبض نظام البعث وضباط الأسد الأب على مفاصل الاقتصاد في المدينة، إثر إلقاء القبض على كلّ يساري معارض وزجه في السّجن ، فما كان من صاحب المكتبة إلا أن حوّلها إلى دكان لبيع الكنافة النّابلسية ولم نقرأ في حينها أيّ تعقيب على هذا الإغلاق فقد كان بعض المثقفين يتهامسون سراً في ذلك الزّمن.

المصدر : الجزيرة مباشر