الضمير الشعبي وصناعة البطولة

صاحب الشفرة النوبية في حرب أكتوبر

“مشهد عارض “

ميدان التحرير.. غروب

هدوء شديد بمحيط الميدان بعد إغلاق المكان من كافة مداخله لم يبق في الميدان سوى بعض عربات الشرطة.

بوابة المسجد الكبيرة مفتوحة، أمامها مجموعات ضخمة من حاملات الورود، توحي أن هناك عزاء لشخص مهم.

يبدو المشهد وكأنه لا يوجد معزين داخل العزاء.. الجميع في انتظار النعش الذي يحمل جثمان الفقيد المهم..

دخل النعش إلى الميدان وخلفه مجموعة قليلة جدا من المعزين، بينما يقف فلاح بسيط على طرف الميدان يتساءل عن صاحب النعش الذي لا يوجد في جنازته أحد، فيجيبه شاب بجواره “دي جنازة واحد بيقولوا شهيد”..

يتساءل الفلاح مره أخرى: شهيد ومفيش حد ماشي وراه.. يا ولداه؟

ثم ينطلق الفلاح ليلحق بالجنازة وينظر الشاب إلى نفسه في خجل، ثم يلحق بالفلاح وما هي إلا دقائق حتى كان الميدان الفارغ يمتلئ بالمشيعين للجثمان الذي ما إن صل إلى ميدان طلعت حرب حتى كانت الآلاف من الشعب المصري يمشون وراء الجنازة..

يتساءل شاب من المشيعين: “جنازة مين دي؟”، يجيبه آخر: جنازة واحد اسمه رأفت الهجان.. فيتساءل الشاب في غرابة: مين رأفت الهجان؟

هكذا استطاع الكاتب الكبير صالح مرسي رائد الكتابة الجاسوسية رسم صورة للوجدان الشعبي الذي يحمل للأبطال والشهداء تقديرا وحب حقيقي لا يغيب مهما طالت السنين.

وهكذا ودع المصريون منذ أيام قليلة الحاج أحمد إدريس ابن النوبة صاحب فكرة استخدام الشفرة النوبية بين القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.

ملايين المصريين ترحموا على الصول الذي استطاع أن يقترح شفرة لا يفهمها العدو في حرب كان أبطالها هم الجنود البسطاء الذين ينالون تقديرا شعبيا كبيرا في كل ذكر لهم.

الضمير الشعبي والأسطورة

يقدر دائما الضمير الجمعي للشعوب قصص الوفاء والحب والتضحية، والتراث الشعبي المصري به الكثير من هذه النوعية من القصص التي تمتد آلاف السنين.

القصة المصرية الخالدة للزوجة التي تعرض زوجها للقتل والتمثيل بجثته وألقيت جثته في النيل فطافت إيزيس تجمع جثة زوجها من النيل في مصر كلها من شمالها إلى جنوبها حتى تستعيد الجثة وتقوم بدفنها وتقف بجوار ابنها حتى يستعيد حكم أبيه..

استطاع الوجدان المصري أن ينسج حكاية إيزيس وأوزريس ويتغنى بها رمزا للوفاء والحب واستعادة الحق وإقامة العدل.

وهناك من القصص الذي تحول إلى أسطورة شعبية بين الناس منها (حسن ونعيمة)؛ (فاطمة وعلوان)؛ (ياسين وبهية)؛ (أدهم الشرقاوي) وغيرها..

الرواية الرسمية والرواية الشعبية

تباينت الرواية الرسمية في أغلب الحالات عن الرواية الشعبية لعل أبرز مثال على ذلك كان في القصة الحقيقة للزعيم المصري أحمد عرابي الذي وصفته الأهرام في العدد 1446 بتاريخ 16 سبتمبر/ أيلول 1918 بالعاصي ووصفت عودته ببشرى عودة العاصي عرابي!

أما في القصة الشعبية فالمثال الأقرب كان قصة أدهم الشرقاوي الذي وصم بأنه قاطع طريق وسارق بينما حوله الوجدان الشعبي إلى بطل اسطوري قاوم الظلم وأعاد بعضا من الحقوق الي أصحابها..

أما في قصة ياسين وبهية فكانت الرواية الرسمية أن ياسين ابن ليل وبهية فتاة ليل وأنه كان سارقا لأموال الباشا الإقطاعي وقاطع طريق.

هكذا تجد وصف على الزببق وأدهم الشرقاوي وأحمد بن شبيب وهمام الفرشوطي مثلهم مثل أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة.

لعل السيرة الهلالية واحدة من أهم القصص الشعبية الأسطورية والتي لها آثار في مصر وتونس والجزائر بل وجد لها أثر في أفريقيا.

يمثل أبو زيد الهلالي بطل الرحلة العربية من أرض الجزيرة إلى تونس نموذجا للبطولة الشعبية يقابله في الأسطورة الزناتي خليفة سلطان تونس.

والزناتي خليفة هو السلطان الذي رفض أن يستسلم ويسلم تونس لعرب الجزيرة.

مات الزناتي خليفة وهو يقاتل على أبواب تونس دفاعا عن الوطن وهو في الثمانين من عمره.

لص نجيب محفوظ

في رواية نجيب محفوظ اللص والكلاب التي تحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني بنفس الاسم.. البطل سعيد مهران خدعه كاتب كبير في السجن بكلمات عن العدل والحق في ثروات الأغنياء والظلم الاجتماعي، وعندما خرج وجده قد غير اتجاهاته وأصبح من الفئة التي كان يهاجمها حينما كان سجينا، فيتحول بطل نجيب محفوظ إلى لص يسرق الذين خدعوه.

يوحي نجيب محفوظ في روايته أن سعيد مهران تحول إلى بطل شعبي لدى جمهور كبير من المصريين رغم أنه لص.

الوجدان الشعبي كان لديه احساس بأنه تعرض للظلم وأنه لم يمد يده إلى مال أحد فقيرا كان أم محتاجا.. بل كان يساعدهم دائما.

والبطل الشعبي لدى محفوظ يظهر جليا في أكثر من رواية من روايات سلسلة الحرافيش لعل أبرزها رواية الجوع.. فالبطل أحد أحفاد الناجي الكبير، وكان يأخذ من أموال الأغنياء يساعد الفقراء حتى أن الفقراء اعتقدوا بعودة عاشور الناجي رمز العدالة في وجدانهم.

اللص الشريف تيمة روائية وسينمائية عالمية أيضا فتجدها في سلسلة روبين هود السينمائية.

أما في الوجدان الشعبي فتجد تقديرا كبيرا للأبطال الباحثين عن الحق والعدل والذين يستشهدون في سبيل القيم الإنسانية العليا.

هكذا يصنع الضمير الشعبي أبطاله ويخلدهم في صورة قصة، رواية، موال شعبي وأسطورة شعبية..

ولا تستطيع أي قوة رسمية أو وسيلة إعلامية أن تغير في وجدان الشعوب مهما بلغت سطوتها.. فهي تصنع بطولة زائفة وقصة زائفة تحاول أن تقنع الشعب بها ولكن للشعوب دائما رؤية أخرى.

تجدها في الضمير الشعبي ممثلة في ملايين الدعوات بالرحمة لشهيد أو في آلاف اللعنات لبطل وهمي صنعته وسيلة إعلام بدعم سلطة مستبدة.

المصدر : الجزيرة مباشر