الحذاء السّياسي من شجر الدّر إلى “أبو علي المحاميد”

حذاء أبو علي محاميد في مواجهة الضابط الروسي

في تناصٍ جميل مع النص القرآني الكريم كتب محمود درويش ذات يوم :(هذه آياتنا فاقرأ، باسم الفدائي الذي خلقا من جزمة أفقا) ليعلي من شأن الفدائي الفلسطيني الذي كان يقاتل لتحرير أرضه ورغم الالتفاتة الأدبية المبكرة من قبل الشّاعر لرمزية الحذاء، ورغم اكتساب الحذاء عبر التّاريخ أبعاداً رمزية مختلفة إلاّ أنّه لم يكتسب قيمة واهتماماً عالمياً إلا بعد تسجيل هدفه على الرّئيس الأمريكي الأسبق. وقد استخدم الحذاء رمزياً لترسيخ فكرة السّيادة والهيمنة السّياسية من خلال تكريس وجود العسكر إلى الدّرجة التي يصنع فيها الطّغاة الأغبياء تمثالاً له ليوضع في مداخل المدن كما فعل بشّار الأسد في اللاذقية. ولكون الحذاء يمتهن الكرامة ويذلّ المرء، استُخدم في القتل والتّعذيب وقد اخترعت “زوجة عز الدين أيبك الأولى” طريقة الموت العجيبة لملكة مصر زوجة عز الدين الثّانية “شجر الدّر” بقتلها ضرباً بالقباقيب. إلاّ أنّ هذه الرّمزية قد لا تتحقق دائماً فقد يحرّك الحقد والثّارات التّاريخية كوامن الانتقام لدى بعض الطّغاة فنراهم ينتقمون من الأموات في دلالة رمزية جديدة يمكن أن نصطلح لها بـ (حذاء الجبان).

حذاء الجبان

فقد تبقى بعض الشّخصيات السّياسية حتّى بعد الموت بسنوات طويلة مثيرة للذعر والجدل ويتمنّى الأحياء أن تعود للحياة ليستطيعوا الانتقام منها مرّات عديدة. وذلك إن دلّ على شيء فهو يدل على نفسية مريضة وجبانة تعرف جيداً أنّ الميت لا يمكن أن يعود؛ لذا تتفنن في ابتكار أشياء تهين بها ذلك الميت الذي كان “طاغية” أثناء حياته أو “قائداً فذاً” أو “بطلاً أسطورياً” أو محارباً.. وقد يكون كاتباً أو مبدعاً!

يمدّنا التّاريخ بمثال عن حادثة مشهورة وثّقت لشخصية الجبان. عندما دخل الجنرال غورو إلى دمشق داس قبر صلاح الدين بحذائه وقال جملته المشهورة “لقد عدنا يا صلاح الدين.”. لم يكن ذلك التّصرف تصرف المنتصر كما ظنّ الجنرال غورو بل تصرّف الجبان الرّعديد الذي يخدع نفسه بوهم الانتصار على بطل ميت.

حذاء الطّغاة:

بهدف تخليد اسم الزّعيم قام “رودلف داسلر” الذي كان أحد أعضاء الحزب النّازي في الحرب العالمية الثّانية بتصميم حذاء رياضي حمل اسم “ستورم أدرينالين” والذي أخذ تصميمه من شكل الزّعيم النّازي “هتلر”.. شكل تسريحة شعره وشاربه. معنى الاسم الذي حمله الحذاء الرّياضي “مفرزة العاصفة” وهو يشبه الاسم الذي كانت تحمله القوات الخاصة للزّعيم النّازي هتلر. لا أحد يعرف الهدف الحقيقي من تصميم ذلك الحذاء ولو مال الأغلبية لفكرة التّخليد التي تتنافى مع المنطق فالحذاء في هذه الحالة “مُداس” ولا يقوم بمهمته الأساسية عندما كان الطّاغية حيّاً وداس بحذائه العسكري بلدان أوروبا في حرب مُهلكة. الأرجح أنّ مالك الشّركة “النّازي” والذي اعتقل يوماً في أمريكا أراد أن يقدّم فكرة مختلفة تماماً عمّا فسّره رواد مواقع التّواصل الاجتماعي.

حذاء الحريّة

عندما وصل حافظ الأسد إلى السّلطة، قام بجولة على المدن السّورية في سيارة مكشوفة مع مرافقة لم تكن ضخمة في ذلك الوقت لاعتقاده أنّ النّاس ستستقبله بالورود، ربّما حدث ذلك في بعض مدن السّاحل لكن حين جاء إلى محافظة إدلب ماراً بأريحا خرج النّاس في مظاهرة كبيرة ضدّه حاملين صور جمال عبد النّاصر. في ذلك الوقت كان السّواد الأعظم من الشّعب السّوري ما زال يحلم بعودة الوحدة مع مصر. لم تتوقف سيارة حافظ الأسد في أريحا حين وصلت السّاحة المزدحمة وسمع مع مرافقيه هتاف النّاس لعبد النّاصر. تابع طريقه باتّجاه إدلب المدينة، وهناك كانت المفاجأة، لم يرَ مؤيدين بل شاهد حشداً كبيراً يرفض توليه الحكم، وتلقّى أكبر صفعة في حياته حين ضربه أحد المتظاهرين بالحذاء وهو يلقي كلمته على شرفة واطئة، مما تسبب في تهميش محافظة إدلب طيلة سنوات حكمه وسُميت مع المناطق المحيطة بها “بالمدن المنسية”، ومورس ضدّ أهلها كلّ أنواع القتل والدّمار كان ذلك سنة 1971 حيث لم يكن هناك تلفزة فضائية ولا أنترنت فلم يسمع أحد بالحادثة التي منحت حافظ الأسد المركز الأوّل في قائمة المصفوعين بالأحذية متقدماً على الرّئيس الأمريكي “بوش” الذي تلقّاها من “منتظر الزيدي” مراسل “البغدادية” في العراق.

حذاء المنتصر

الحذاء الأكثر تأثيراً في وجدان النّاس هو حذاء المنتصر الذي يعبّر عن كرامة وعزة نفس صاحبه، والذي ظهر قبل أيام وهو الحذاء الذي كان ينتعله “أبو علي المحاميد” واضعاً ساقاً على ساق لا مبالياً بالضّابط الرّوسي الذي جلس مقابله للتفاوض من أجل وقف القتال وفكّ الحصار عن درعا التي قاومت ميليشيات الأسد وحزب الله، رافضة الاعتراف بشرعية حكمه.

أبو علي المحاميد المفاوض باسم النّاس المحاصرين لم ترهبه الآلية العسكرية الرّوسية وقوات الأسد الرّديفة، ولم يرَ في الضّابط الرّوسي سوى محتل للأرض لا يجب أن ينحني أمامه مهما كانت شروط فكّ الحصار حتّى وإن كانت استسلاماً. سيبقى حذاءه رمزاً للقوة النّفسية المستمدة من الحق والإيمان بأنّه صاحب الأرض التي ستبقى وسيزول كلّ محتل داسها بحذائه.. وستبقى للشام جنتان صامدتان “إدلب وحوران”.

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر