من طالبان إلى أردوغان. تعدد خيارات الإسلاميين

طالبان هي أحدث الحركات الإسلامية دخولا إلى عالم السياسة والحكم، فقد ظهرت في العام 1994 لتصل بعد عامين إلى الحكم (1996) وتمكث به خمس سنوات قبل أن يزيحها الاحتلال الأمريكي، بينما هناك حركات إسلامية أكبر وأقدم، منها جماعة الإخوان المسلمين تمكنت من الوصول إلى الحكم في مصر بعد مرور 85 عاما ( وإن شاركت فروعها في الحكم في دول أخرى مثل سوريا والأردن واليمن، والسودان والجزائر قبل ذلك بكثير)، ووصلت حركة النهضة وهي امتداد لحركة الاتجاه الإسلامي في تونس إلى الحكم بعد 40 عاما من تأسيسها، كما شكلت حماس الحكومة الفلسطينية عام 2007 في الأرض المحتلة، وهناك جماعات كبرى وعتيقة لم تصل للحكم حتى الآن ومنها الجماعة الإسلامية في باكستان رغم مرور 80 عاما على تأسيسها على يد أبو الأعلى المودودي عام 1941، وهو ما تكرر مع الجماعة الإسلامية المصرية التي تأسست مطلع السبعينات، وتكرر أيضا مع حزب التحرير الذي ظهر للوجود في العام 1953 وامتد نشاطه لعدة دول إسلامية إلخ.

الظروف والملابسات التي أحاطت بظهور حركة طالبان في العام 1994 وأوصلتها إلى الحكم بعد عامين فقط هي ظروف خاصة لا يقاس عليها، فالحركة ظهرت في ظل حالة انفلات وتقاتل بين فصائل المجاهدين الذين تمكنوا من مواجهة الغزو السوفييتي لمدة عشر سنوات حتى أجبروه على الانسحاب، لكنهم بعد انسحابه وجهوا سلاحهم إلى صدور بعضهم البعض، وتسببوا في حالة فوضى عامة وانفلات امني دفع طلاب الشريعة (طالبان) لمواجهة هذه الفوضى وهذا الاقتتال رغم أنهم (طالبان) لم يفكروا بالأساس في العمل السياسي أو  شؤون الحكم، أي أنهم لم يسعوا للحكم ولكن الحكم هو الذي سعى إليهم على غير استعداد منهم.

العيب كل العيب

ليس عيبا أن يتأخر وصول بعض الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم، فالكثير منها لم يركز كل جهده على ذلك، وكان يرى أن الأهم هو تهيئة المجتمع لقبول الحكم الإسلامي سواء شاركوا هم فيه او لم يشاركوا.

وليس عيبا أن تعيد بعض الحركات والقوى الإسلامية النظر في برامجها وخططها لتعطي وزنا أكبر للعمل السياسي على حساب العمل الدعوي والخيري، أو العكس، فكل ميسر لما خلق له.

وليس عيبا لمن قرر الانخراط في العمل السياسي أن يأخذ الوقت الكاف لتجهيز نفسه لأعباء الحكم.

لكن العيب كل العيب أن يقتحم البعض هذا المجال دون استعداد حقيقي له، فينكشف سريعا.

والعيب كل العيب أن يخوض البعض العمل السياسي متصورا أنه سيكون محصنا ضد سموم السياسة بما يحمله من مخزون إيماني فقط دون وعي بطبيعة هذه السموم، وعلاجها.

تجربة الإسلام السياسي في الحكم حديثة العهد نسبيا، نجحت في بعض الدول وتعثرت أو فشلت في أخرى، ولا يعني تعثرها أو فشلها نهاية التاريخ لها، فليست الوحيدة التي تتعرض للفشل، بل سبقتها ولحقتها أحزاب وقوى ليبرالية ويسارية، نجحت حينا وفشلت حينا، والنظر فقط إلى التجارب الفاشلة للإسلاميين هو نصف الحقيقة، بينما نصفها الثاني هو تجارب نجاح –ولو جزئي- رغم محاولات تشويهها أيضا، فمن ينكر نجاح التجربة في تركيا والتي بدأت في العام 1974بمجرد شراكة جزئية مع حزب الشعب الجمهوري تولى بموجبها البروفسير نجم الدين أربكان مؤسس ورئيس حزب السلامة الوطني منصب نائب رئيس الوزراء، ثم تطورت لاحقا ليتولى أربكان رئاسة الوزراء في العام 1996، ثم ليتولى تلاميذه (اردوغان وعبد الله جل وأحمد داوود أوغلو) مناصب رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة منذ مطلع الألفية الثالثة.

ورغم أن التجربة الإيرانية تنتمي للمذهب الشيعي إلا أنها تعتبر جزءا من الإسلام السياسي بشكل عام، وقد نجحت في مواجهة العديد من التحديات حتى الآن  رغم مرور أكثر من 40 عاما،(رغم بعض الملاحظات والانتقادات عليها)، وحتى حركة طالبان التي حكمت لمدة خمس سنوات (1996-2001) رغم حداثة عهدها بالسياسة، وقلة خبرتها إلا أنها نجحت خلال فترة حكمها الأولى في توحيد أفغانستان ولملمة أشلاءها التي فرقها المتحاربون، وفي تحقيق الأمن للشعب الأفغاني، كما قضت على زراعة وتجارة المخدرات، وإن فشلت في ملفات أخرى كثيرة، وكان يمكن لتلك التجربة أن تتطور لولا الغزو الأمريكي الذي أطاح الحركة من الحكم، أما تجربة الإسلاميين في السودان والتي امتدت لثلاثين عاما فأنها خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، وكان نصفها الأول مضيئا بالمشروعات التنموية ونزاهة أهل الحكم، فيما كان نصفها الثاني ملبدا بالفساد والاستبداد الذي تسبب في الغضب الشعبي ضدها، وفي تونس نجحت تجربة النهضة في الحفاظ على المسار الديمقراطي في البلاد لمدة عشر سنوات رغم كل أنواء الثورة المضادة حولها، قبل انقلاب الرئيس قيس سعيد عليه، وفي المغرب استطاع حزب العدالة والتنمية التوافق مع الهامش الديمقراطي المحدود جدا، وهو ما تكرر في تجارب أخرى في الأردن واليمن والكويت والجزائر إلخ.

الرفض الغربي

يردد الكثيرون أن التيار الإسلامي منبوذ عالميا، وغير مرحب به في الحكم، وهو صحيح في مجمله، إذ ليس منتظرا من خصمك أن يرحب بك، بل الطبيعي أن يكرهك، وأن يحفر لك ما أمكنه من حفر، ومؤامرات، وهذه هي سنة التدافع التي ذكرها القرآن” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، ومع ذلك فقد أثبتت التجارب العملية أن الغرب يتعامل دوما مع الأمر الواقع سواء وصل إلى الحكم إسلاميون أو علمانيون، أو حتى عسكر، فلم يمتنع الغرب عن الاعتراف أو التعامل مع حكم الإخوان في مصر، أو تونس أو المغرب، ولو عدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا أن الغرب هو الذي بشر بنموذج حزب العدالة التركي في بداياته، وفي أحدث التجارب فإن الولايات المتحدة وفي عهد أكثر رؤسائها تطرفا (ترمب) اعترفت مسبقا بالحكم الإسلامي في أفغانستان، ووضعت نصا بذلك في اتفاق الدوحة الذي وقعته مع طالبان في 29 فبراير شباط 2020، الحالتان اللتان وقف فيها الغرب ضد حكومة شرعية شكلتها حركة إسلامية هما حالة حماس، ونظام البشير في السودان، لم يكن الرفض لحماس بسبب تصنيف الغرب لها كحركة إرهابية فهو يتجاوز ذلك كما فعل مع طالبان، ولكن بسبب رفض حماس في تلك الفترة الالتزام بشروط الرباعية الدولية، ولم يكن الموقف العدائي من البشير لمرجعيته الإسلامية ولكن بسبب جرائمه في دارفور.

وصلت قوى الإسلام السياسي إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات في معظم الأحوال باستثناء حالات قليلة نتيجة عمل عسكري (حرب تحرير كما حدث في أفغانستان- أو انقلاب عسكري كما حدث في السودان)، وحازت تلك القوى خبرات جديدة في العمل السياسي، وإدارة الحكم، وتنوعت طرق تعاملاتها مع التحديات الكبرى، فمنها الأكثر براجماتية (العدالة والتنمية التركي ونظيره المغربي وحركة النهضة، ومنها الأكثر راديكالية مثل  الحكومة الإيرانية وحركة طالبان، وحماس، والكثير منها بين هذه وتلك، والطبيعي أن تعدد الخيارات يمنح هذه القوى والأحزاب قدرة على التوافق مع بيئته المحلية فما يطلب من حماس تجاه الكيان الصهيوني لن يكون متشابها مع ما يفعله حزب العدالة والتنمية التركي أو نظيره المغربي، وما تلتزم به حركة النهضة في مجال الحريات العامة وحقوق المرأة ليس بالضرورة أن تلتزم به حركة طالبان في بيئتها المحافظة، وهكذا تتفق هذه القوى والحركات في قواعد الدين، والسعي لتطبيقها ولكنها تختلف في الفروع، ومنها الأمور السياسية، ولا مشاحة في ذلك.

المصدر : الجزيرة مباشر