حكم الزواج بنية الطلاق

انتشرت في الغرب ظاهرة يمارسها بعض الطلاب العرب الذين خرجوا للدراسة للدول الغربية، وهي: أنه يتزوج بغربية بنية الزواج المؤقت، أي أنه يتزوجها وينوي طلاقها عند تركه للبلدة التي يتعلم فيها، وبدون إعلام من تزوجها، لتفاجأ بعد انتهاء مهمته كعمل أو دراسة في هذه البلاد أنه طلقها، ومضى إلى حال سبيله، ويجري نفس الأمر من بعض الرجال الذين تحكمهم ظروف جدت في حياتهم من حيث الهجرة من بلدانهم؛ سواء اختيارا أو اضطرارا، لغرض مؤقت مرهون بانتهاء أزمته أو مهمته، فيتزوجون بنية الطلاق.

وقد استند معظم من يقوم بهذا العمل على فتوى أفتى بها مشايخ من الدول العربية، بناء على أقوال وآراء من المذاهب الفقهية التي يستند إليها هؤلاء عند الفتوى. وسوف أبدأ أولا بذكر أقوال الفقهاء في الموضوع، ثم أعقّب على ذلك بموقفنا من الموضوع، فهو أمر ناقشه الفقهاء في كتبهم الفقهية المذهبية، بل وفي كتب الفتاوى قديما وحديثا، كما رأينا ذلك عند ابن تيمية رحمه الله في فتاويه وغيره.

المذاهب الفقهية والزواج بنية الطلاق:

اختلفت المذاهب الفقهية في مسألة أن يتزوج رجل امرأة بنية الطلاق[1]، أي يتزوجها إلى مدة وفي نيته طلاقها، وفرق بعضهم بين أن يخبرها بنيته، وبين أن ينوي في نفسه فقط ولا يخبرها ولا يخبر وليها وأهلها، فالحنيفة يقولون: (لو تزوج المرأة وفي نيته أن يقعد معها مدة نواها، صح؛ لأن التوقيت إنما يكون باللفظ). [2] وقال علي القاري في (شرح النقاية): (أو تزوجها ناويا أن يقعد معها مدة، ولم يتلفظ بذلك في محل العقد، فالنكاح صحيح). [3]

أما المذهب المالكي فالمنقول عن الإمام مالك: (ومن تزوج امرأة لا يريد إمساكها، إلا أنه يريد أن يستمتع بها مدة ثم يفارقها، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز، وليس من الجميل ولا أخلاق الناس). [4]

أما الشافعية فيرون صحة عقد الزواج بنية الطلاق، إذا لم يتوافقا على ذلك، وأضمر الزوج ذلك في نيته أو الزوجة، لكنهم يكرهون هذا الفعل، حيث قال الرملي: (ولا يصح توقيته بمدة معلومة أو مجهولة، لصحة النهي عن نكاح المتعة، وكان نكاح المتعة جائزا أولا رخصة، ثم نهي عنه) [5]، وعلق الشبراملسي في حاشيته على هذا القول بقوله: (“ولا توقيته” “حيث وقع ذلك في صلب العقد، أما لو توافقا عليه قبل، ولم يتعرضا له في العقد، لم يضر، ولكن ينبغي هنا كراهته، أخذا من نظيره في المحلل).[6]

أما الحنابلة فقد منعوا الزواج بنية الطلاق، ولم يجزه منهم سوى ابن قدامة وابن مفلح، في حين أن ابن تيمية له فيه قولان، قول بالجواز، وقول بالكراهة.

تعقيب على موقف المذاهب الفقهية:

أما تعقيبنا على ما نقلناه عن المذاهب الفقهية هنا، وقد رأينا اختلافهم ما بين محرم ومجيز، أو مجيز مع كراهيته لذلك ونفي الخلق الحسن عنه، كما نقل عن مالك، فإن الأحناف الذين قالوا بصحة العقد، فهم هنا حكموا على العقد من حيث الشكل القانوني، وأنه اكتلمت أركانه، وهو ما نراه في مواقف فقهية مختلفة، قد يكون الفعل مرفوضا أخلاقا لكن شكله القانوني صحيح، كخلاف الفقهاء في حكم من خطب على خطبة أخيه، فمن خطب فتاة كانت وقت خطبتها لآخر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، فلو أن الخاطب على خطبة الآخر اكتمل له الأمر وعقد النكاح وتزوج، هنا يفتي الفقهاء بحرمة الفعل، لكنهم يختلفون في صحة عقد الزواج، ومعظمهم على القول بصحته، وهو مبني على خلاف أصولي بينهم: هل النهي يقتضي الفساد؟

الموقف من الزواج بنية الطلاق:

وممن حرمه من المعاصرين: العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والدكتور حسام عفانة، والدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في كتاب كامل عن الموضوع، ومن الجهات العلمية التي منعته: مجلس الإفتاء الأوربي في فتوى له، وكذلك مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، فقد منعه، و وآخرون.

وهو ما نراه الأصوب في المسألة، وذلك لعدة أمور، منها:

أولا: إن رباط الزواج رباط مقدس في شرعنا الحنيف ولذا سماه القرآن الميثاق الغليظ فقال: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) النساء:21. والزواج سكن ومودة ورحمة فكيف تتوفر هذه الخصائص في هذا الزواج وقد بدأته على الغش والخداع وعدم الأمانة والأمان، فهذا خروج بالزواج عن رسالته ودوره.

فما يشتمل عليه العقد بهذا الشكل من خداع، وإضمار في النفس ما لو علم أنه لو أعلنه الزوج لرفضته الزوجة، أو رفضه وليها وأهلها، والأصل في الحياة الزوجية: الوضوح والشفافية، وإذا كان الشرع الحنيف قد جعل البركة في البيع مرهونة بصدق البيعين، فقال صلى الله عليه وسلم: “‌البيعان ‌بالخيار حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما”.[7]

لذا لا يليق بالمسلم أن يعيش بهذه الأخلاق، ولا يجوز له أن يتزوج بنية الطلاق، وبخاصة أن كثيرا من الشباب المسلم في الغرب يفعل هذا الأمر مع الغربيات مما يشوه صورة الإسلام، ورضي الله عن صهيب الرومي الذي أوقفه المشركون وقد خرج للهجرة ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له إلى أين تذهب يا صهيب؟ قال: أهاجر إلى المدينة، فقالوا: جئتنا صعلوكا لا تملك شيئا، وساوموه على ماله، وكان يستطيع أن يكذب وقد أباح له الشرع هنا الكذب على الأعداء، ولكنه وازن بين مصلحته الشخصية وبين صورة الإسلام وصورة المسلم، فدلهم على موضع ماله، ووجدوا المال بالفعل في نفس المكان الذي حدده لهم. وهكذا يا أخي بعيش المسلم بهذه المبادئ فلا يظهر خلاف ما يبطن، إنما ظاهره كباطنه.

ثانيا: لتنافي هذه الطريقة من الزواج مع ما للزواج من قيم ومبادئ وأسس يبنى عليها، فالزواج يقوم على نية التأبيد والاستقرار، أي دوام العشرة، ولذا سمى الله الزوجة سكنًا أي استقرارا، وكذلك فهي مودة ورحمة، فقال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من  أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم: 21، فكيف يكون الزواج رحمة وسكنًا ومودة إن نوى الرجل الطلاق قبل الزواج؟! ثالثا: ما يمثل هذا اللون من الزواج من مهانة للمرأة في النظرة إليها، وكأنها وسيلة لغرض مؤقت، وحاجة سريعة، تنقضي وسرعان ما يلقي بها، وهو ما يتعارض مع ميثاق الأسرة في الإسلام، وهو الميثاق الغليظ، الذي يبنى على التقدير والاحترام، وهو ما لخصه القرآن الكريم بقوله: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) البقرة: 187.

ثالثا: ما يترتب على هذا النوع من الزواج، وبخاصة مع غير المسلمات، أو المسلمة الغربية التي لا يصارحها الزوج في كثير من الحالات بنيته في الطلاق، فعندما تفاجأ بفعله، يترتب على ذلك صورة مشوهة، مما يوقع المسكينة التي تزوجته في مأزق، ويضع الإسلام في قفص الاتهام، والأصل: أن المسلم عنوان لدينه، وسلوك قويم له، سواء في حالة يسره أو عسره، ورضي الله عن سيدنا خبيب حينما أسر عند قريش وطلب من جارية عندهم إذا اقترب موعد قتله أن تخبره، فلما أخبرته، طلب منها موسيا (أي ماكينة حلاقة بتعبيرنا) ليتطيب، فلما أعطته الموسي، دخل عليه ابنها وقد غفلت عنه، ولما دخلت على خبيب وجدت ابنها على فخذه والطفل على حجرة، وظنت المرأة المشركة بخبيب الظنون، فقال لها: أظننت أن أفعل به ما تكرهين؟ لا والله ما يكون لي أن أفعل ذلك أبدا. فانظر لهذا الصحابي الذي سيقتل ظلما، ولو قطع الولد إربا لما عاتبه أحد، ولكنه أبى أن يفعل ما يمثل إساءة لدينه.

فلهذه الأسباب التي ذكرناها، ولأسباب أخرى نتجت واقعيا عن هذا النوع من الزواج: بنية الطلاق، نرى الفتوى بمنعه، رغم وجود آراء فقهية أجازته.


[1] استفدنا من نقل رأي المذاهب الفقهية في الزواج بنية الطلاق من كتاب: الزواج بنية الطلاق من خلال أدلة الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الإسلامية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، حيث استوعب ذكر آراء الفقهاء سواء من المذاهب، أو المستقلين وغيرهم.
[2] انظر: فتح القدير (3/249)، ومجمع الأنهر (1/231) والبحر الرائئق شرح كنز الدقائق (3/108).
[3] انظر: شرح النقاية (1/564)، نقلا عن: الزواج بنية الطلاق للدكتور صالح بن بعد العزيز آل منصور ص: 43.
[4] انظر: المنتقى شرح موطأ مالك للباجي (3/335).
[5] انظر: نهاية المحتاج (6/214).
[6] انظر: حاشية نهاية المحتاج (6/214).
[7] رواه البخاري (2079) ومسلم (1532) عن حكيم بن حزم رضي الله عنه.

المصدر : الجزيرة مباشر