حكم الزواج الأبيض

الشيخ يوسف القرضاوي

تحدثنا في مقالنا السابق عن الزواج بنية الطلاق، وبينّا خلاف الفقهاء فيه، والرأي الذي نميل إليه من منعه، وهو حالة زاد من ظهورها تغيّرُ ظروف الناس بالذهاب إلى بلاد غربية للعمل أو الدراسة.

والفقه الإسلامي في قضايا الأحوال الشخصية متجدد، لأن قضاياه كثيرا ما تستحدث، حسب المستجدات التي تفرضها الحياة على الأفراد والمجتمعات، ففي الآونة الأخيرة جدت أمور في منطقتنا العربية والإسلامية، جعلت ألوانا من الزواج تستحدث، كزواج المسيار، وطلاق المرأة من زوجها رسميا، ثم العودة إلى عصمته عرفيا، وذلك لرغبتها في الانتفاع بمعاش الوالد المتوفى، بحكم الحالة الاقتصادية التي يعيشها الناس في مصر.

وكذلك ما نشأ عن الحالة السياسية في بلادنا العربية من تضييق على المواطنين، ومطاردة للمعارضين السياسيين وغيرهم، فمثل هذه الحالات اضطرت كثيرين للسفر إلى بلدان غربية، ولا يمكن لأحد أن يستقر فيها متمتعا بميزات تحافظ على بقائه ووجوده في هذه البلدان إلا بإقامة رسمية فيها.

بعض أصحاب تلك الحالات يحصل على لجوء سياسي، وهذا لا إشكال لديه، لكن هناك حالات لا تدخل في هذا الباب، أو تعجز عنه، ولذا ظهر لون جديد من الزواج تمكن تسميته بالزواج الصوري، أو الزواج الأبيض، وهو لون من الزواج لا تكون فيه المعاشرة بين الزوجين، أو الحياة الزوجية، بل هو عقد صوري يتم بين طرفين، بهدف إيجاد إطار قانوني يمنع عنهما الضرر أو يحقق لهما بعض المصالح.

فتوى القرضاوي

وقد كنت أقلب في أوراقي وأضابيري، فعثرت على فتوى لشيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، لم أرها منشورة في كتبه، أو مجموعة الفتاوى التي صدرت عنه في كتابه: (فتاوى معاصرة) الذي صدر في أربع مجلدات كبار، وقد كانت تلك الرسالة جوابا عن سؤال من الدكتور فريد شكري أحد علماء المغرب، وأحد تلامذة الشيخ، حيث سأله عن هذا اللون من الزواج، الذي يسمى بالزواج الأبيض، فكانت إجابة شيخنا كالتالي:

“إن الزواج الذي تعرفه الشريعة الإسلامية ليس له ألوان، ليس فيه أبيض وأسود وملون. إنما هو زواج واحد، له أركانه وشروطه، وأحكامه وآثاره، على كل من الزوجين. وهو الزواج الذي يظللهما بالسكينة والمودة والرحمة كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم: 21.

وهو الذي يجعل كلا من الزوجين للآخر كما قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} البقرة: 187.

وتترتب عليه الحقوق المتبادلة بين الزوجين {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} البقرة: 228.

وهو الذي يقصد منه الإنجاب، وبقاء النوع، وعمارة الأرض، كما يحب الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} النحل: 72.

هذا هو الزواج الذي شرعه الإسلام، أما الزاوج الذي تسأل عنه، وهو زواج المسلم من امرأة غربية، من أجل تسوية الوضعية القانونية، للحصول على الإقامات، والامتيازات الاجتماعية، وسائر الحقوق الأخرى.. فليس هو الزواج الإسلامي المشروع. ولا يجوز أن يُتّخَذ هذا العقد العظيم الذي سماه الله ميثاقا غليظا في كتابه -وهو نفس الاسم الذي وصف الله به عهد النبوة، فقال عن النساء: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} النساء: 21، وقال عن النبيين والرسل الكبار: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} الأحزاب: 7- أداة للوصول إلى تلك الامتيازات.

قد يجوز ذلك في حالة واحدة من باب أحكام الضرورات، في حالة المسلم الذي يضطهد في وطنه، ويضطر للخروج منه مطاردا ملاحقا، فهنا قد تلجئه الضرورة إلى هذه الحيلة، ليفر بها من السلطة الغاشمة، ويؤمن نفسه في أرض الغربة، فهذه ضرورة تقدر بقدرها، ولا ينبغي التوسع فيها، وقد قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة: 173، بشرط ألا يضر أحدا بعمله هذا.

فإذا كانت القاعدة الشرعية: أن الضرورات تبيح المحظورات، فهناك قاعدة أخرى تكملها وتضبطها، وهي: أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.

المصدر : الجزيرة مباشر