ألمانيا أول دولة صناعية خالية من الطاقة النووية مطلع العام الجديد!

البوندستاغ (البرلمان) الألماني

مع آخر أيام العام المنقضي، تحديدا يوم الجمعة 31 ديسمبر/كانون الأول، أوقفت ألمانيا العمل في 3 مفاعلات نووية أخرى، وهي نصف القدرة النووية المتبقية لديها في الوقت الحالي، على أن توقف آخر ثلاثة مفاعلات متبقية قبل نهاية عام 2022.

إذن أصبحت ألمانيا بذلك أول دولة صناعية كبرى تحسم الأمر، ففي سنة 2011 قرر البوندستاغ (البرلمان) وقتها بأغلبية كبيرة التخلي النهائي عن استخدامات الطاقة النووية بحلول العام 2022.

وجاء هذا القرار بعد فترة وجيزة من كارثة انفجار محطة فوكوشيما اليابانية في مارس سنة 2011، عندها قررت الحكومة الألمانية الاتجاه إلى استخراج الطاقة الآمنة لتجنب الكوارث، وبدأت بإغلاق المفاعلات السبعة عشر المنتشرة في أراضيها واحدا تلو الآخر.

انفجار تشيرنوبل

عرفت ألمانيا قبل ذلك التاريخ -وتحديدا سنة 1986 عندما انفجر مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفيتي السابق- حجم الكارثة التي يمكن أن تدمر أي بلد يعتمد على إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية، أيضا تشكّل وقتها في كل البلدان الأوربية صوت معارض قوي ضد الخطر النووي. وفي ألمانيا وصل عدد المعارضين من الشعب إلى الثلث رافضين إقامة أي مشروعات نووية مستقبلية في البلاد، بجانب مشكلة أخرى كبيرة وهي أماكن دفن النفايات النووية. ففي ألمانيا يقومون بالدفن في أعماق بعيدة بباطن الأرض تكلف الكثير من الأموال، أو تُرسَل إلى الدول الفقيرة للدفن هناك مقابل المال، وهو الأمر الذي كان يرفضه دائما ناشطو البيئة.

ستخسر ألمانيا بإيقاف هذه المفاعلات نحو 4 غيغاوات، أي ما يعادل الطاقة التي تنتجها 1000 توربينة هواء، وهو ما يستدعي من الحكومة تعويض هذا النقص بشكل عاجل، فهل ستنجح في ذلك وسط متغيرات سياسية وأزمات عالمية وتهديدات بتوقف إمدادات الغاز الروسي على خلفية الخلاف مع روسيا بشأن الأزمة الأوكرانية؟ لن يكون أمام ألمانيا إلا التسريع في الخطة الطموحة للطاقة المتجددة التي وضعتها من قبل، وهي الانتهاء من بناء 1500 توربينة رياح كل عام مقابل 450 في الأعوام الماضية. بالتأكيد لن تكون هناك مشكلة، فألمانيا لديها إمكانات هائلة في هذا المجال، لكن قد يكون العائق الوحيد هو المعارضة الشعبية والاحتجاجات على التوسع في إنشاء التوربينات الهوائية وألواح الطاقة، لآنه يأتي على حساب الشكل الجمالي للمدن، وأيضا المحاصيل الزراعية التي يتم استبدال ألواح الطاقة الشمسية بها.

خطوة رائدة

لا شك أنه قبل عقدين من الزمن بدأت ألمانيا خطوات رائدة في مجالات الطاقة المتجددة، فأعطت أولوية قصوى لها، وتوسعت في تشييد المحطات الأرضية التي تغطت بألواح الطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء على حساب المَزارع التي تنتج الحبوب، وتحول قرويون إلى إنتاج الطاقة بدل الزراعة، وقد رأيت إحدى المَزارع التي تبلغ مساحتها 11 ألف متر مربع، وكيف تحولت إلى إنتاج الطاقة عندما تم نشر الألواح الزرقاء علي كامل المساحة، بينما أخبرني كثير من القرويين بأن عائد الطاقة الشمسية أكبر بكثير من عائد الإنتاج الزراعي والألبان.

ستلاحظ ذلك عندما تسافر بالقطار عبر الربوع الألمانية، آلاف المزارع مغطاة بألواح الطاقة الزرقاء، حتي إن بعض المواطنين الآن يطالبون الحكومة بالتدقيق في إعطاء التصاريح حتي لا تضعف ألمانيا زراعيا. المشكلة أن الطاقة النظيفة هذه لن تكفي ألمانيا، وحتى يتم الاكتفاء الذاتي منها ستعتمد جزئيا على الوقود الأحفوري لتغطية العجز بعد توقف العمل في تلك المفاعلات. وهنا يجب الإشارة إلى أن الوقود الأحفوري سيتسبب -بلا شك- في ارتفاع نسبة ثاني اكسيد الكربون، مما يتعارض مع الخطة الحكومية التي قالت إنها ستعمل على انخفاض نسبته خلال عامَي 2022 و2023، لكن الطموح لدى الحكومة الجديدة يرى أنه يجب لنسبة الكهرباء المستخرجة من الطاقة المتجددة أن تبلغ 80% في غضون السنوات القليلة المقبلة.

المغامرة

هل هي مغامرة ألمانية قد تُعرّض الحكومة لسخط شعبي في حال ارتفاع أسعار الكهرباء؟ بالتأكيد هذا الأمر قد نوقش، خاصة أن خبراء الطاقة أكدوا أن أسعارها ستستمر في التصاعد مما يشكل أعباء على دخل المواطنين، على الأقل في الوقت الحالي. لكن وزير الاقتصاد وحماية المناخ الجديد (روبرت هابيك) يقول إن امدادت الطاقة في بلاده ما زالت مضمونة، وإن الوقود الأحفوري متوافر، وهو البديل حتى تستطيع ألمانيا تعويض الكمية المفقودة من مصادر الطاقة المتجددة البديلة للطاقة النووية.

في الوقت الحالي، يوجد على مستوى العالم 439 مفاعلا للطاقة النووية تنتج نحو 16% من إنتاج الكهرباء العالمي. ومع أن هناك دولا حذت حذو ألمانيا إلا أنها تراجعت، مثل السويد التي قررت التخلي عن المفاعلات سنة 1980 بعد إجراء استفتاء شعبي لكنها تماطل الآن في تنفيذ القرار، وأكثر الدول التي تعتمد على الطاقة النووية في العالم هي فرنسا، التي تملك 60 مفاعلا تنتج 77% من الطاقة الكهربائية في البلاد.

معروف أن حكومات الدول التي تستخدم المفاعلات وضعت قوانين دقيقة تحدد نظم العمل فيها من أجل سلامة الناس، كما وضعت شروطا خاصة جازمة لمنح تصريحات بناء المفاعلات، وكذلك معايير للأمان، وتهتم بالمراقبة الدائمة. في الإطار ذاته، تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بتقديم المشورة لجميع البلدان التي تريد إدخال الطاقة النووية، ومن حقها التفتيش في مختلف الدول عن المواد الذرية التي تمتلكها.

لكن، رغم كل ذلك فإن مخاطر استخراج الطاقة النووية تبقى معروفة للجميع، وحسنا فعلت ألمانيا طالما لديها القدرة على تعويض تلك الطاقة بأخرى آمنة ونظيفة.

المصدر : الجزيرة مباشر