القرضاوي وفقه المستقبل: كيف نكتشف اتجاهات الرأي العام؟!

الشيخ يوسف القرضاوي

شكلت وفاة الشيخ يوسف القرضاوي فرصة مهمة لاكتشاف اتجاهات الرأي العام، ومعرفة أشواق الجماهير لوحدة الأمة الإسلامية.. فباستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية عبرت الجماهير عن حبها للشيخ، وتقديرها لعلمه واجتهاده وجهاده، وشوقها إلى المشروع الحضاري الذي يمثله.

من يمتلك شجاعة الاعتراف؟!!

كما يوضح تحليل مضمون الرسائل التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي أن كل وسائل الإعلام التي يمتلكها الطغاة، واستخدموها في الهجوم على الشيخ القرضاوي قد فشلت في تشويه مشروعه الفكري والحضاري والعلمي، والاتجاه السياسي الذي يمثله.

لذلك يجب أن يمتلك الإعلاميون الشجاعة لمراجعة علمية لدور الإعلام ووظائفه، وللإجابة المبدعة عن سؤال مهم: هل تعبر وسائل الإعلام عن الجماهير، وما خطورة التبعية للسلطة على الإعلام؟

الصورة تزداد وضوحا!

تعبير الجماهير عن حبها للشيخ القرضاوي على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يوضح لنا الصورة، ويوفر لنا الكثير من الحقائق التي يمكن أن نفكر في بناء المستقبل على ضوئها. لعل من أهمها: أن الطغاة أنفقوا الكثير من الأموال على وسائل إعلامية تم استخدامها في تشويه الإسلام بشكل عام، والمشروع الحضاري الذي كان الشيخ القرضاوي واحدا من أهم قياداته والمنظرين له.

لكن بالرغم من كل ذلك أوضحت وفاة القرضاوي أن الجماهير تشتاق إلى هويتها الإسلامية، وتحترم جهاد كل الأحرار الذين حملوا راية هذا المشروع الحضاري.

وكانت خسارة الطغاة واضحة، فوفاة الشيخ القرضاوي تبرهن على أن مصير الذين يحاربون الإسلام هو الهزيمة، وأن هناك رأيا عاما يتشكل حول أهمية دور الإسلام في إنقاذ البشرية.

من مؤشرات هزيمتهم!

الحرب التي شنها الطغاة باستخدام وسائل الإعلام على الشيخ القرضاوي كانت نتيجتها الهزيمة. فقد أوضحت وفاته أن الجماهير تشتاق إلى الإسلام لتبني في ضوئه مستقبلها، وتحتاج إلى علماء الإسلام لقيادتها في كفاحها لتحقيق الحرية والتقدم والاستقلال الشامل.

وربما يكون من أهم تجليات ثورة الاتصال زيادة قدرتنا على قياس اتجاهات الجماهير، رغم أنف الطغاة الذين يمنعون إجراء استطلاعات الرأي العام، فمن يريد أن يعرف آراء الناس الحقيقية يمكن أن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي؛ فيقرأ الرسائل ويتابع التعليقات، لكن عليه أن يفهم، ويتخلى عن العناد، ويحرر بصيرته من الخوف من الطغاة.

الأمة تحتاج إلى علمائها!

وفاة القرضاوي توضح أيضا حاجة الأمة إلى علماء يدركون وظيفة العالم ويلتزمون بشروطها. فالعالم هو الذي يصون كرامة العلم، فلا يركع للطغاة، ولا يخاف إلا من الله وحده.

والطغاة يريدون أن يختفي هذا النوع من العلماء، لذلك يقومون بسجنهم أو نفيهم من الوطن. وهناك معركة طويلة وممتدة بين الاستبداد والعلم؛ ذلك لأن الطاغية يدرك دائما خطر العلم الذي يجعل الناس يفهمون قوتهم وقدرتهم على الكفاح من أجل الحرية، وهو يريد أن يفرض الجهل على الناس لتغيب عقولهم، فيرتضون العبودية، ويستسلمون للفقر والذل.

العلم ومعركة الوعي

إن العالم الحقيقي هو الذي يقود معركة الوعي، ويوضح للجماهير حقوقها في الدفاع عن حريتها وكرامتها؛ لذلك كان من الطبيعي أن تحب الجماهير القرضاوي بقدر حاجتها وشوقها إلى علم نافع يحرر الإنسان من الخوف والذل والهزيمة، فقد كان القرضاوي أستاذا لعلماء لا يخافون إلا من الله وحده.

ربط الشريعة بالحياة

ولقد جمع القرضاوي بين العلم والعمل، فقدم الكثير من الأعمال العلمية التي ساهمت في زيادة وعي الناس بوظيفة الإسلام في تحرير البشرية.

ولقد وفرت وسائل الإعلام للشيخ القرضاوي مجالا جديدا لتوعية الجماهير، وكان برنامجه “الشريعة والحياة” على قناة الجزيرة مصدرا مهما للمعرفة التي أدت إلى زيادة شوق الناس إلى الإسلام الذي يجعل لحياة الإنسان معنى وقيمة، ويحفظ كرامته، ويحمي دينه وعقله وماله وعرضه ونفسه ونسبه وذريته.. وما أشد حاجة الناس إلى ذلك بعد أن أذل الطغاة الناس، ولم يحترموا لهم حرمة أو كرامة.

لذلك كان الناس ينتظرون البرنامج الذي يربط الشريعة بحياتهم واحتياجاتهم وآمالهم بأسلوب سهل تفهمه الجماهير.

وحدة الأمة الإسلامية

من أهم المجالات التي قدم الشيخ فيها إنجازات علمية ودعوية وحدة الأمة الإسلامية. فقد أوضح في الكثير من الكتب والخطب والبرامج أن وحدة الأمة الإسلامية حقيقة بمنطق الدين والعلم والتاريخ والجغرافيا والواقع.

لقد أوضح القرضاوي أن الغرب يعرف جيدا حقيقة أن المسلمين أمة واحدة، ويتعامل مع هذه الحقيقة ويخطط استراتيجيا لكي لا تتحول إلى واقع.

ولكنه تنوع وثراء

أدرك القرضاوي من خلال رحلاته أن: الغرب ينظر للأمة الإسلامية باعتبارها ذات عقيدة واحدة، وقيم مشتركة، ومبادئ ثابتة، وحضارة عظيمة، وأن المسلمين يواجهون تحديات تهدد وجودهم.. لذلك لابد من أن ينتفضوا يوما دفاعا عن حقهم في الوجود.

والقرضاوي يرى أن هذه الأمة ذات شعوب متعددة تتنوع فيها الأجناس واللغات والأوطان، لكن ذلك في فقهه لا يشكل مشكلة، فالإسلام يذيب الفوارق بين الشعوب، ويحول هذا الاختلاف إلى تنوع وثراء.

حقوق المواطنة

يرى الشيخ القرضاوي أن الإسلام هو الجامع العقدي للأمة الإسلامية، أما الحضارة الإسلامية فإنه يستظل بظلها غير المسلمين الذين يكون لهم مع المسلمين حقوق المواطنة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إلا ما هو من شؤون الدين والعقيدة، فإن الإسلام يتركهم وما يدينون به.

مفهوم الوسطية عند القرضاوي

كان القرضاوي من أهم العلماء الذين شرحوا مفهوم الوسطية الإسلامية، وأوضحوا أنه يتميز بالثراء، ويشكل أساسا لنهضة الأمة. حيث يرى أن الوسطية هي منهاج النبوة: منهج وسط لأمة وسط، منهج يتميز بالتوازن، فهو يوازن بين الروح والجسد، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين المثال والواقع، وبين النظر والعمل، وبين الغيب والشهادة، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الفردية والجماعية.

التوازن بين العقل والشرع

بهذا المفهوم يتحقق التوازن المطلوب في الحياة الإنسانية بين العقل والشرع، فتنطلق عقولنا تتأمل في السماوات والأرض، ونبتكر ونعمر الأرض في ضوء المبادئ الثابتة التي أكرمنا الله بها.

وعندما فهمت الأمة الوسطية استخدمت العقول في بناء الحضارة، وتحركت قلوبها بشجاعة الإيمان. وفي ضوء ذلك تم الربط بوعي بين الدين والعلم والحياة والحضارة، فانطلق العقل في ضوء الدين، وتحرك القلب ليفجر طاقات الإنسان وقدراته ومواهبه.

وهذا أهم ما تحتاج إليه البشرية اليوم بعد أن أرهقها طغيان المادة. وبهذا يستعيد المسلم دوره الحضاري في قيادة البشرية وتحريرها من الاستبداد والاستعمار والرأسمالية، ويحقق لها التوازن الذي يليق بحياة الإنسان بوصفه مخلوقا كرمه الله.

فقه المستقبل

في ضوء ذلك يمكن أن نبني المستقبل الذي ينطلق فيه المسلمون ليستعيدوا مجد حضارتهم التي يحتاج إليها العالم الآن.

ينقل الدكتور محمد عمارة في كتابه عن القرضاوي قوله: نحن نريد فكرا مستقبليا يرنو دائما للغد، ولا ينحصر في الحاضر، فهذا هو منطق الإسلام في القرآن وسنة النبي صلي الله عليه وسلم.. فالمتدبر للقرآن الكريم يجده منذ العهد المكي يوجه أنظار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، والمهزوم قد ينتصر، والضعيف قد يقوى، والدوائر تدور، سواء كان ذلك على المستوى المحلي أم العالمي.

الخروج من المحنة

يقول محمد عمارة -تعليقا على هذا النص- هكذا اتسع معنى الفقه، ورحبت ميادينه في المشروع الفكري للشيخ يوسف القرضاوي. فالفقه في هذا المشروع الفكري، ليس الفقه التقليدي، بل هو إحياء فكري لمختلف الميادين التي يمكن أن يفقهها فقهاء الإسلام.. إنه سبيل الخروج من فكر المحنة إلى فكر العافية، وفقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الأولويات.. فكر تحرير الأرض الإسلامية، والانتصار لكل قضايا تحرر الإنسان المستضعف.. فكر الانتصار للأقليات المسلمة المكونة لربع الأمة الإسلامية، فكر الحرية السياسية والديمقراطية الملتزمة بالأصول القطعية للإسلام، فكر الحوار مع الآخرين.

القوة الإعلامية للأمة

وفي ضوء فهمي لهذا الفقه انطلقت لأتعلم علم الإعلام والاتصال، ولأطور نظرياته بهدف بناء قوة الأمة الإسلامية الإعلامية، فلقد أدركت أنه عندما تمتلك الأمة هذه القوة يمكن أن تنقل للآخرين هذا الفكر الذي يساهم في نهضتها وبناء صورة إيجابية لها في كل أنحاء العالم، ويشكل أساسا لدورتها الحضارية القادمة.

إحياء “إسلام أون لاين”

لذلك فإنني أدعو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -الذي أتشرف بأنني أحد أعضائه- إلى تبني مشروع إعادة موقع “إسلام أون لاين” ليحمل فكر الوسطية الإسلامية إلى قادة الرأي المسلمين في العالم لينقلوه إلى البشرية، وليوضحوا للعالم أن الإسلام يمكن أن ينقذ البشرية ويبني مستقبلها.

لقد كان إغلاق هذا الموقع خسارة للأمة الإسلامية، فلقد ساهم في توفير مضمون إسلامي عن قضايا الأمة. لذلك فإن إعادة الحياة إلى هذا الموقع يمكن أن تساهم في بناء أساس القوة الإعلامية والاتصالية للأمة، ويمكن تطويره بأفكار جديدة تجذب الجماهير، وتبني صورة إيجابية للإسلام.

ووفاءً لشيخنا يوسف القرضاوي فإنني أدعو الأمة إلى العمل لإعادة هذا الموقع الذي يمكن أن يشمل داخله منصة تعليمية تساهم في إعداد الدعاة وتأهيلهم لمرحلة جديدة من التاريخ يقوم فيها الإسلام بدور مهم في كفاح الشعوب ضد الاستبداد والطغيان والاستعمار.

وهذا الموقع “إسلام أون لاين” يمكن أن يشكل نموذجا للكثير من المواقع بكل لغات العالم. فبناء المستقبل يحتاج إلى كفاح بأساليب جديدة، وإلى دور العلماء في زيادة وعي الشعوب بحقوقها في الحرية والكرامة.

المصدر : الجزيرة مباشر