صعود اليمين المتطرف .. الدلالات والمآلات

ماكرون

 

كثيرةٌ هي المخاوفُ التي تعصف بالغرب كلِّهِ، ولاسيما أوربا، وكثيرةٌ -كذلك- الأزماتُ الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والجيوسياسية، التي بدأت تتنامى بصورة مفزعة؛ ولذلك كلِّهِ أسبابٌ ليس هنا موضع الحديث عنها، إنّما السؤال هنا: هل نجحت الأحزاب اليمينية المتطرفة في استثمار تلك الأزمات لإنتاج وإنضاج خطابٍ شعبويّ يلامس هموم الفئات المهمشة؛ لتصعد على أكتافها إلى عروش أوربا، التي كانت وما زالت تتعالى بخطابها الليبراليّ المتجاوز لمرابض الفاشية؟ الذي يبدو في صفحات الأحداث المتسارعة أنّ الأمر صحيحٌ، وأنّ الخطبَ الذي كان بالأمس كابوسًا مفزعًا صار اليوم واقعًا مروعًا؛ فما هي دلالات ذلك وما هي مآلاته؟ وكيف يمكن أنْ نرى العالم غدًا؟

اليمين المتطرف .. ما حقيقته؟

ليس من السهل وضع تعريف محدد لليمين المتطرف؛ لكونه تَوَجُّهًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متعددَ الوجوه، ولكنَّ السمةَ الغالبة على المكونات والأحزاب المنضوية في إطاره هي ذلك الخطاب الشَّعْبَوِيّ التَّعْبَوِيّ، الذي يدندن دومًا حول وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد ما تدعوه (الفئة الأصلية)، وحول واجب الحفاظ على الهوية الوطنية، وتشترك هذه المكونات في بعض السمات الرئيسية، كالنزعة القومية، والشعور بالتميز العرقيّ، والاعتزاز المبالغ فيه بالهوية الوطنية والثقافية وربما الدينية، إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يشكل تهديدا على تلك الهوية.

وفي كثير من الأحيان يكون لدى تلك الأحزاب بواعث دينية؛ لذلك لعبت الرموز المسيحية في ألمانيا دورًا كبيرا في المظاهرات التي شارك فيها أعضاء حركة “بيغيدا”؛ احتجاجا على سياسات “إنغيلا ميركل”، حيث رفع المحتجون صلبانا بألوان العلم الألماني؛ اعتراضا على سياسة “الباب المفتوح” التي فتحت الباب أمام اللاجئين السوريين، بينما يقرر بعض المختصين بدراسة هذه الظاهرة مثل “توباياس كريمر” أنّ الأمر يتعلق -قبل كل شيء- بمعارضة الإسلام ورفض المهاجرين.

تَمَدُّدٌ أفقيٌّ ورأسيٌّ

وإذا كان التمدد الأفقيّ مفزعًا، فإنّ التنامي الرأسيّ أكثر فزعًا، فصعود اليمين في السويد والمجر وإيطاليا، وقُرْبُ صعوده في فرنسا والنمسا وألمانيا وهولندا، صاحَبَهُ ارتفاعٌ في اللهجة المتطرفة لدى كثير من هذه الأحزاب، فجورجيا ميلوني معروفةٌ بشدة العداء للمهاجرين، ليس أَدَلَّ على ذلك من معارضتها لفتح إيطاليا أبوابها لسفينة “أكواريوس”، وعندما استثمر “ماكرون” موقفها هذا للدعاية ضدها؛ خرجت في الفيديو الشهير لها، ولَقّنَتْهُ درسا لا يُنسى، وحليفُها “ماتيو سالفيني” هو الذي أعلن في وقت سابق أنّه سينقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى القدس، أمّا المجريّ “فيكتور أوربان” فقد أعلن بمنتهى العنصرية: “نحن على استعداد للاختلاط مع بعضنا البعض، لكننا لا نريد أن نصبح شعوبا مختلطة الأعراق”، بل إنّه يرى أن مشكلة الهجرة مرتبطة بشكل كبير بالثقافة المسيحية التي يقول إن الدفاع عنها أضحى “التزاما سياسيا”، وأصرح وأوقح من هؤلاء جميعا تصريح “خيرت فيلدرز” زعيم حزب الحريات اليميني الهولندي: “لا للإسلام لا لرمضان “!

السبب الأبرز

صحيحٌ أنّ الأمم تسافر اليوم قافلةً صوب ثقافاتها وهوياتها الحضارية -كما تنبأ صمويل هنتجتون- وأنّ من لوازم ذلك تنامي النَّزَعات والنَّعَرات مع خُفُوت الليبرالية، لكن ذلك المصير الحتميّ كان يمكن أن يتأخر كثيرًا لو أنّ الحكومات نجحت في تحقيق ما وعدت به؛ فمن الطبيعيّ أن تتكون لدى الشعوب أيديولوجية مناهضة، وبحسب “هارولد لاسكي” فإنّ الثورة التي هبت في غرب أوربا ثم في شرقها -بشكل معاكس- كان سبب نجاحها هو عدم قدرة الحكومات على الإجابة عن الأسئلة التي تبلورت قبل تلك الثورات.

وهذا الصعود لليمين يُعَدّ ثورة بكل المقاييس، وإن سلكت طريق الديمقراطية، ولا عجب فقد كان من الانتقادات التي وجهها “فريد زكريا” للديمقراطية “غير التحررية” أنّها مُختزلة في دَمَقْرَطَةِ الأحزاب والانتخابات، بما يسهل امتطاء ظهرها، فقال في كتابة (مستقبل الحرية): “فإنّ الطريق الملتوي يتمثل في صعود دكتاتوريات على أكتاف ديمقراطية وانتخابات صحيحة”.

لقد تمكنت الرأسمالية من ترويض الديمقراطية وركوب مَتْنِها، ليس فقط في أوربا ولكن في أمريكا كذلك، يقول “روبرت برنارد رايش” في كتابه (الرأسمالية الطاغية): “من بين جميع أمم العالم يُعْتَقَدُ أنّ أمريكا هي خير مثال لفكرة أن الرأسمالية والديمقراطية تسيران جنبًا إلى جنب، ولكن في السنوات التي انقضت … لقد انتصرت رأسمالية السوق الحرة بينما ضعفت الديمقراطية”؛ وبحدوث ذلك تَنَامَى الخوفُ والتشاؤمُ، أمّا الحكومات المتتالية فلم تفلح في تقديم أجوبة مقنعة على الأسئلة المطروحة، ويبدو أنَّ الأمر -كما تنبأ جيوفاني سارتوري- على هذا النحو: “مخطط الرحلة ليس قابلا للعكس”.

مخاوف لها ما يبررها

إذا كان دفءُ الليلةِ -بحسب تعبير بيغوفتش- سَبَبُهُ شمسُ النهار السابق؛ فإنّ الوحي الذي خَفَتَ نورُهُ في تلك الجهات قد بقي للناس فيها دِفْئُهُ؛ يعتقد الكثيرون أنّ القانون الطبيعيّ الذي ورثته أوربا عن الرواقيين يُعَدُّ من فتات الموائد الرِّسالية، والحكيم هوكر- بحسب ما نقله جون لوك- “يرى أنَّ المساواة التي منحتها الطبيعة للإنسان هي الأساس الذي يقوم عليه التزام الناس بتبادل الحب، أن يحب الإنسان لأخيه الإنسان ما يحبه لنفسه ويرغب في أن يندفع عنه الضر الذي يرغب في اندفاعه عن نفسه”، هذه الروح التي ورثتها أوربا عن فكر الإنسانيين، أخذت في التراجع عنه وعن جميع ما بني عليه من قيم إنسانية، ومن حقوق وحريات.

ومع تراجع أحزاب الوسط واليسار أمام اليمين المحافظ ثم أمام اليمين المتطرف تتزايد المخاوف ويزداد التشاؤم، لكنّ المسيرة ماضية، مما سيشكل خطرا مباشرا على القِيَمِ الإنسانية، بل وعلى الحضارة المعاصرة بكل ما ورثته عن عصر النهضة وعصر التنوير، وفي المقابل سيكون صعود اليمين -الذي سيهدد المهاجرين بالرحيل أو بحياة ملؤها الاضهاد والتنكيل- سيكون سببًا في توفير هامش من الحرية للأمم المستضعفة؛ علها تشق طريقها نحو الحرية؛ لأنّ هذا الصعود سيؤدي حتما إلى استدعاء الموروث المذهبي، الذي سيسكب على الصراعات التي تتزايد اليوم- بين القوى الإمبريالية- مزيدا من الزيت؛ (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

المصدر : الجزيرة مباشر