الحياة الشخصية للمفكر الإسلامي: الدكتور محمد عمارة

صورة من قريب يرسمها نجله د. خالد عمارة

د. محمد عمارة

طلب مني كثيرون أن أكتب عن الجانب الإنساني للمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة رحمه الله، وفي اعتقادي أن هذا الجانب على درجة من الأهمية لسببين:

الأول أننا لكي نفهم أو نتفهّم آراء وأفكار أي مفكر أو عالم أو فقيه أو فيلسوف يجب أن نفهم شخصيته وملابسات حياته والمؤثرات التي تعرّض لها وأسلوب تعاطيه مع كل هذه المتغيرات حتى نستطيع استخلاص فهم حقيقي لأفكار هذا الكاتب أو ذلك المفكر وفتاواه وكتاباته والمؤثرات التي دفعت هذا الكاتب أو ذلك المفكر لما قدمه من أفكار.

الثاني لأن كثيرين من المعجبين بفكر الدكتور محمد عمارة يريدون مزيدًا من التفاصيل عن حياته الشخصية ومعرفة كيف كان يتعامل مع أسرته وكيف كان يربي أبناءه وأحفاده، ويريدون أن يتخذوه قدوة في طريقة حياته وطريقة تربيته.

وفي الحقيقة، فإن والدي -رحمه الله- شخص مختلف عن كثير من الناس الذين أعرفهم وعرفتهم طوال حياتي. شخص مختلف في الأسلوب وفي طريقة الحياة وفي التفكير والطموحات، وسأحاول في هذا المقال أن أتحدث عن بعض النقاط الأساسية التي أرى أنها مفيدة لكل أب وأم ولكل باحث ومفكر يهتم بحياة وأفكار وطريقة المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة.

أعتقد أن هذا المقال يحوي دروسا كثيرة مفيدة لكل أب مسلم وأم مسلمة تبحث عن طرق مبتكرة لتربية أبنائها في هذا الزمن الصعب.

لاحظت اختلاف أبي عن الآخرين منذ طفولتي، لاحظت أنه أب مختلف، وبينما يحكي أصدقائي في الحي أو المدرسة عن آبائهم، كنت دائما أرى أبي مختلفا في أغلب الأمور والتصرفات اختلافا كبيرا.

في طفولتي لم أكن أفهم لماذا هذا الاختلاف؟ أو هل هذا الاختلاف شيء جيد أم لا؟ لكن مع مرور الزمن اكتشفت العمق في حكمة والدي ونظرته للحياة.

جوانب عدة

ولذلك فسأحاول في هذا المقال أن أستعرض -قدر استطاعتي- جوانب وأجزاء من الحياة الشخصية والاجتماعية للوالد الدكتور محمد عمارة رحمه الله.

وفي هذا المقال لن أتعرض للجوانب العادية التي يقوم بها أي أب أو زوج طبيعي ولا نظرة الحب أو التعاطف المتوقعة الذي تؤثر في نظرة الأبناء لأبيهم أو الزوجة لزوجها، لكنني سأحاول أن أنقل للقارئ الجوانب التي قد تخفى عنه ويختلف فيها الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- عن غيره، أو التي قد تؤثر نظرته للحياة والأفكار والآراء.

كذلك سأحاول تقديم بعض الجوانب التي تفرد بها الدكتور محمد عمارة في حياته الشخصية لتكون مفيدة لمن يحب أن يعد الدكتور عمارة قدوة يحتذي بها في تربية أبنائه أو التعامل مع أسرته ومجتمعه.

والدي -رحمه الله- ولد في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين بإحدى قرى دلتا مصر، عاش في مصر وقضى عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في ريف مصر وقرى ومدن الدلتا أثناء عهد الملكية والاستعمار الإنجليزي لمصر.

والخمسينيات والستينيات في القاهرة إبان ثورة عبد الناصر وتحول مصر الى جمهورية والمد القومي العربي، والسبعينيات والثمانينيات في القاهرة مع عصر التحول من مقاومة الاستعمار والاحتلال الصهيوني إلى معاهدة السلام والتطبيع وتراجع الاتحاد السوفيتي وانهيار التجربة الاشتراكية وعصر الانفتاح وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.

والتسعينيات وما بعدها في عصر صعود التيار الإسلامي في مواجهة الاستعمار الأمريكي واضطهاد المسلمين والإسلام تحت شعار مكافحة الإرهاب والتطرف وتوفي في أول سنة 2020 قبل بداية انتشار جائحة فيروس كورونا.

وقبل أن أدخل في التفاصيل، يمكننا فهم شخصية الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- وفهم كثير من مواقفه وأفكاره من خلال معرفة أن الوالد رحمه الله كان لديه ثلاثة محاور وثوابت رئيسية يستعملها في قياس كل شيء. كانت هذه المحاور الرئيسية هي الميزان الذي يضبط به أفكاره وتعامله مع كل مسائل الحياة، سواء كانت مسائل فكرية أو قرارات الحياة الشخصية والأسرية.

المحاور الثلاثة:

العدل

الحرية

الاستقلال

العدل هو البحث عن العدل في كل شيء، نشأ في الريف يرى الفلاح المظلوم في عهد الاستعمار الإنجليزي ويفكر كيف يحقق هذا الفلاح العدل ويحصل على حقوقه، كيف يتحقق العدل للشعوب المظلومة، كيف يتحقق العدل للإنسان في حياته الشخصية ويصل إلى الوسطية والاتزان في قراراته دون تطرف نحو اليمين ولا نحو اليسار. كيف يحقق الإنسان العدل في حياته فلا يظلم الآخرين ولا يتعرض هو للظلم. كيف يضع نفسه مكان الآخرين ويتخيل ظروفهم ويتفهم دوافعهم التي تحركهم ليصل إلى الوسطية والحكمة في اتخاذ أي قرار أو رأي.

الحرية هو البحث عن الحرية وكراهية القيود والكبت، كان على قناعة أن الإنسان بدون حرية هو إنسان منافق يقول غير ما يخفي في قلبه، يعيش في خوف دائم، يفكر بطريقة العبيد الذين تحركهم الخوف من العقاب والطمع في العطايا دون أي اقتناع. كان يرى أن حرية التعبير عن الرأي هي ما تصنع إنسانا حرا متوازنا واثقا من نفسه وما يؤمن به. الحرية في التعبير هي التي تجعل الأفكار تتلاقى وتتحاور وتتطور إلى الأفضل ليصل الناس إلى الاقتناع بالاختيار الصحيح أو الأقرب إلى الصحيح والأقرب إلى الحق. الحرية هي التي تصنع أشخاصا متزنين واثقين بأنفسهم متعاونين مع الآخرين بمحض إرادتهم وتتطور قناعاتهم دون إجبار أو تسلط أو تخويف أو كبت ليتطور معها عملهم وأفكارهم وواقعهم وبحثهم عن حياة أفضل وتواصل أقوى وترابط وطمأنينة.

الاستقلال في عقيدة وفكر الدكتور محمد عمارة ليس فقط استقلال الأوطان السياسي عن الاستعمار الخارجي ولكنه أيضا الاستقلال العقلي والفكري كي لا يقلد الضعيف عادات القوي لمجرد أن القوي يفعلها، لكن يختار ما يناسبه ويعمله ويترك ما لا يناسبه من عادات وتقاليد. الاستقلال العقلي يصنع شخصا واثقا بنفسه وبحضارته وليس مجرد ببغاء ينتظر استيراد الموضات من بلاد الغرب لتقليدها، كذلك الاستقلال عن أي حزب سياسي أو منظومة حكومية قد تؤثر في تفكير المفكر وحياده وحرية رأيه، لذلك كان يحرص طوال حياته على الحياة المادية البسيطة كي يحمي الاستقلال الفكري والمادي على المستوى الشخصي ليضمن حريته وحياد رأيه، تماما كما ظل يدافع عن الاستقلال الفكري والاقتصادي والسياسي والعسكري للأوطان والشعوب.

في هذا المقال سأقدم صورة الحياة الخاصة للدكتور محمد عمارة من جوانب عدة، جانب الأب، الزوج، الأخ، الابن، الجار، الجد، الصديق. كذلك صورة جوانب شخصية الدكتور محمد عمارة المتعددة؛ الفلاح والمثقف والمفكر والأزهري والمصري المسلم والعربي اللسان.

جوانب وصور متعددة حين نجمعها ونربطها معا فقد نفهم كثيرًا من مواقف الدكتور محمد عمارة وتفكيره وأفكاره.

الأدوار

الأب

في هذا المجال لن أحكي عن الصفات العادية لأي أب طبيعي شرقي يرعى أسرته ويحب أبناءه ويحافظ عليهم ويسعى على تربيتهم، لكن سأركز على مواطن التميز والاختلاف التي أعتقد أن الدكتور محمد عمارة كان يختلف فيها عن كثير من الآباء.

وربما أهم اختلافيْن هما: اجتماع الأسرة والتربية على حب الكتب والقراءة والاطلاع

كان الوالد -رحمه الله- يعد واجب الأبوة من أهم الواجبات، وواجب الأبوة ليس الإنفاق بقدر ما هو قضاء ما يكفي من الوقت مع الأبناء، ساعة واحدة في اليوم على الأقل تُوجّه بالكامل للأبناء والحديث إليهم والحوار معهم.

رفض أبي السفر للعمل في الخارج على غير عادة الكثيرين أثناء عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وكان قراره أن البقاء في مصر مع الأبناء والأسرة أهم وأفضل من السفر وجمع المال ليعود بعد سنوات طويلة ويجد نفسه غريبا عن أبنائه، فضلا عن أن اهتمامه بالحفاظ على استقلاليته عن أي مؤسسة أو مصدر إنفاق قد يؤثر في رأيه كان أيضا سببا في رفض السفر للخارج.

اجتماع الأسرة:

منذ الصغر ولدينا عادة بسيطة اسمها إجتماع الأسرة، يتم هذا الاجتماع كل يوم الساعة الخامسة عصرا حول أكواب الشاي ويستمر الاجتماع لمدة تتراوح بين نصف ساعة إلى ساعة يوميا. قبل أن يعود كل فرد إلى عمله أو مذاكرته أو ما يعمل به، كان هذا الاجتماع شيئًا مقدسًا غير مسموح بتجاوزه مهما كانت الأحوال والضغوط أو المشاغل.

في هذا الاجتماع كنا نتناقش في أي شيء وكل شيء، ماذا حدث اليوم في المدرسة؟ أخبار الأسرة، الحياة اليومية، مشاكل صغيرة أو كبيرة، خبر مكتوب في الصحف، كتاب أو مقالة لفتت نظر الوالد ويحب أن يحكي لنا عنها، وأحيانا كنا نرجئ النقاش في موضوع أو مشكلة أو مسألة إلى وقت اجتماع الأسرة.

وكثيرًا ما كان يحدث في إجازة الصيف أن يعطيني الوالد أو يعطي أختى بضعة أبيات من الشعر أو مقال قصير أو آية قرآنية أو حديث نبوي شريف ويطلب منا أن نلقيه بصوت جهوري لنتعلم فن الخطابة والنطق الصحيح وأيضا لنتناقش في محتوى كلمات الآيات أو أبيات الشعر أو الأسطر التي قرأناها.

بالتدريج تحوّل اجتماع الأسرة إلى فرصة للحوار والتعبير الحر عمّا نفكر فيه وأحلامنا وطموحاتنا وما يضايقنا أو يفرحنا، ويضمن وقتا ثابتا للنقاش ومن غير مسموح لأي التزامات أو ارتباطات -مهما كانت- أن تتعدى على هذا الاجتماع الأسري الثابت.

وكثيرا ما تحوّل اجتماع الأسرة إلى دافع وحافز للبحث عن سؤال أو موضوع أو فكرة أو مقالة أو كتاب لنتكلم حوله أثناء الاجتماع وأصبحت أنا وأختي في الإجازات نحب أن نبحث عن أفكار أو كتب أو مقالات لتكون محور حديثنا مع الوالد.

كان الوالد صبورا في الحوار معنا في هذا الاجتماع، يعطينا مساحة كافية لنتكلم قبل أن يبدي رأيه ويتكلم، وحين يتكلم يشرح وجهة نظره بالتفصيل بعد أن يبدأ الكلام بقوله (ربما تكون أنت على حق يا فلان في بعض النقاط ولكن) كانت هذه الطريقة تجعلنا نحن -الأطفال والمراهقين- نشعر بقيمة لما نقول وفي الوقت نفسه لا نشعر بالمقاومة لرأيه أو أنه ضدنا وعلينا الحوار والجدل ضده.

وحين تزوجنا امتدّ دور الأبوة إلى الأزواج والزوجات وتحوّل زوج الابنة إلى ابن له وزوجة الابن إلى ابنة له، ينادونه أبي ويلجأون إليه في كل الأمور للاستشارة وأصبح مصدرًا للثقة والحنان لهم كما هو لكل الأبناء وكل من يتبناهم ويعدهم تحت رعايته.

من ناحية أخرى كان الوالد حاسما وصورة للرجل الشرقي في نظرته لترتيب الأسرة أن لها قائدًا أبًا مسؤولا عن القرارات المصيرية بعد أخذ رأي أعضاء الفريق. ليس الأب الديكتاتور الذي لا يسمع ولا يرحم، وأيضًا ليس الأب المتسيب الذي ليس له رأي ولا يتابع ولا يسيطر على زمام الأمور.

د. عمارة وزوجته مع نجله د. خالد عمارة

البيت المكتبة

كان الوالد يحرص على بناء علاقة الحب بيننا وبين الكتاب، لكل منا مكتبة صغيرة يضع فيها كتبه التي يشتريها بنفسه ويشارك في اختيارها.

كانت القراءة والكتابة وحب الكتب من الأمور المهمة في حياتنا، والرحلة إلى المكتبات ومعرض الكتاب من الرحلات الجميلة التي تربينا على حبها، وكان الوالد حريصا على غرس حب القراءة والورق والاطلاع والبحث عن المعلومات في قلوبنا منذ الطفولة.

منذ نعومة أظفارنا يشتري لنا الكتب والقصص والمجلات ويقضي الوقت معنا في مطالعة هذه القصص حتى يكون لدينا حب وألفة بيننا وبين الورق والكتب والقراءة والبحث والعلم. لم يكن يهتم أننا أطفال قد نفسد هذا الكتاب أو ذاك أو نقطع هذه الورقة أو تلك أو هل المعلومات كبيرة أو معقدة بالنسبة لمستوى عقولنا الصغيرة. المهم أن نحب الكتاب والكتابة والاطلاع. وبالتدريج كبر معنا حب واحترام الكتب وهواية القراءة وحب العلم والتعلم والاستكشاف والفضول والبحث عن الإجابات والسؤال كيف ولماذا ثم البحث عن الإجابات في أمهات الكتب.

هذا جعل القراءة والعلم والاطلاع والبحث بالنسبة لنا متعة وليس مجهودا أو واجبا ثقيلا سواء كانت قراءة من أجل الدراسة والبحث أو من أجل المتعة والهواية، وسواء كانت قراءة اليوم من كتاب ورقي أو من على أحد المواقع على الإنترنت.

لم يكن لدينا شيء اسمه ممنوع السؤال أو الاعتراض على فكرة أو رأي، لكن عليك أن تبحث عن الإجابة وقد يساعدنا الوالد ببعض المراجع أو الكتب أو نصيحة ببعض المصادر التي قد نجد فيها الإجابة عن هذه التساؤلات، لكن كنا دائمًا نجد التشجيع على السؤال والاعتراض. المهم هو أن يتبع هذا السؤال بحث عن الإجابة في مصادرها الصحيحة وتحمّل جزء من مسؤولية البحث.

يعني ليس فقط الكسل والتوقف عند مرحلة الاعتراض والسؤال، لكن المشاركة في البحث عن الإجابات وبذل مجهود في البحث والتعلم والمعرفة.

أبي -رحمه الله- أب شرقي كلاسيكي يجمع بين الحنان الشديد ربما أحيانا لدرجة البكاء وبين الحزم والحرص على قيادة المركب إلى بر الأمان.

كان الوالد -رحمه الله- يترك مساحة كبيرة من الحرية لنا، فهو ليس الأب المسيطر الذي يراقب أبناءه ليل نهار ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ولا هو الأب المهمل الذي لا يدري شيئا عن أولاده ولا يقدم أي نصيحة أو تربية وكل ما يفعله هو الإنفاق والعمل بصفته مصدرا للدخل.

أتذكر جيدًا أن كثيرا من القرارات في حياتنا لم يكن أبي يجبرنا عليها، فقط يلعب دور الناصح الحكيم ودور القدوة. مثلا لا أتذكر أن أبي أمرني بالصلاة أو الذهاب للمسجد، لكنني كبرت فوجدته يصلي ويذهب للمسجد فصليت وذهبت إلى المسجد. لم يأمر أختي بلبس الحجاب، لكنها قررت ذلك عن اقتناع من خلال الحوارات والكلام والمنطق.

لأن والدي -كما قلنا في المقدمة- يعد الحرية شرطًا أساسيًا في الحياة لكل إنسان يحترم نفسه، ومن يتم إجباره على فعل شيء أو الاعتقاد بشيء غير مقتنع به فهو يعيش حياة المنافق الخائف المكبوت، بينما الإنسان الحر الواثق من ذاته يحترم نفسه ولا يقبل عليها الضيم أو الهوان، ومن يحترم نفسه لا يأتي الدنيّة ويرى نفسه أعلى وأكبر من أن ينزل إلى مستوى الخطيئة أو يلوثه الفساد.

وكانت أمي تساعد الوالد في المتابعة والتواصل والحفاظ على هذه الروابط بين أفراد الأسرة، فبينما كان والدي هو المحرك كانت أمي هي الرابط والمحور الذي ينقل الحركة والطاقة بين أفراد الأسرة ويضمن التلاحم والتواصل بيننا، كانت تحرص على صورة الأب القدوة الجميلة التي تحترمها وتزرع احترامها في قلوب أبنائها.

لذلك كانت متابعة الوالد لنا عن بعد لكنها قريبة جدًا في الوقت ذاته عن طريق الحوار والحديث المستمر والاحترام المتبادل الذي يبني أبناء واثقين بأنفسهم قادرين على تحمّل المسؤولية وليسوا عالة على أهلهم متقلّبين هيستيريين.

أبناء يعدون أنفسهم شركاء وجزءا من فريق الأسرة يتحملون مسؤولية قرارات يتخذونها في حياتهم بعد البحث عن النصيحة والرأي الحكيم، وليسوا أطفالا مدللين ينتظرون الرعاية ويطلبون ويأخذون دون عطاء ولا مسؤولية أو يجبرهم آباؤهم على فعل أشياء هم غير مقتنعين بها لمجرد الخوف من عقاب أو الطمع في جائزة.

الرسائل

ماذا تفعل حين تريد أن تطلب من أبيك طلبا ولكن تهاب أن تقوله له، أو وقعت في مشكلة أو موقف محرج وتريد أن تبلغ أباك به، أو تتمنى أن يشتري لك شيئا ما. قد تستعمل الأم وسيطًا، أو تحاول إبلاغ والدك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة -من خلال المناورات- وتوصيل رسائل غير مباشرة عبر الحركات والتصرفات وتنتظر من أبيك أن يفهم الرسالة.

لكن عندنا كانت وسيلة التواصل في مثل هذه المواقف هي كتابة رسالة ووضعها على مكتب الوالد، أن تكتب رسالة تعبّر فيها عن طلب ما أو اعتذارك عن مشكلة ما أو شكواك من شيء ما أو أنك تتمنى أن يشتري الوالد هدية لك أو جائزة.

كانت الرسائل المكتوبة وسيلة لتفادي الإحراج، وكان الوالد يشجعنا على التعبير عن أنفسنا بالكتابة، وأحيانًا كنا نتفنّن في الكتابة بإضافة أبيات من الشعر أو رسم صورة بجانب الكلام لمساندة ما نقوله أو تقوية حجته أو إثبات أحقية الطلب الذي نطلبه.

وكثيرًا ما كنا نجد أبي يدخل علينا ضاحكا وفي يده الرسالة ويتحدث معنا عن فحواها أو حتى عن بعض الأخطاء النحوية، ثم يجيب علينا وجهًا لوجه أو يعطينا الرد مكتوبًا وهو يبتسم.

كما أننا كثيرًا ما كنا نقوم بعمل ما يسمى (مجلة الحائط) نعرض فيه مقالات أو رسومات أو معلومات تحت عنوان واحد ونعرضها على الوالد والوالدة في نوع من تفريغ طاقات الكتابة والتعبير أو طلبًا للاهتمام والتشجيع بعد أن عرفنا أن الكتابة طريق قوي إلى قلب وعقل أبينا وأمنا

ساعدنا هذا اعتياد وضع أفكارنا في صورة مرتبة ومكتوبة والتعود على كتابة المذكرات والانطباعات، على الألفة مع الورقة والقلم منذ الصغر.

الأفكار لا الأشخاص

مثل كل الأطفال نخطئ ونصيب، ويسعى الأب والأم لتربيتنا بطريقة سليمة وكان ذلك من خلال الحوار. حين يخطئ أحدنا يجلس الوالد معنا ويتحدث عن الخطأ، ليس في صورة اللوم للمخطئ ولكن لمناقشة الخطأ في حد ذاته، يعني نقد الأفكار أو الأفعال وليس الأشخاص. بطريقة الكلام العام مثل سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كان يراجع خطأ أحدهم فيتكلم بصيغة عامة بطريقة (ما بال أحدكم يفعل كذا وكذا)، دون أن يحدد شخصا بعينه أو ينتقد الشخص ولكن ينتقد الفعل أو الفكرة أو التصرف.

ولذلك فإنني كنت أتعجب حين ينتقد والدي مثلا بعض الأفكار في المسيحية أو العلمانية أو السياسة فينطلق أحدهم ليتهمه بكراهية المسيحيين أو أنه ضد العلمانيين أو ضد الحكومة، بينما يناقش الوالد الفكرة لكنه لا يكره الأشخاص، تمامًا كما يناقش الفعل لكن لا يكره الفاعل.

ولذلك -أيضًا- كان لأبي أصدقاء من كل الأطياف الفكرية والعقائد والفلسفات والمناصب السياسية وغير السياسية، يتناقش معهم في دينهم أو عقيدتهم أو توجههم السياسي ويختلف أو يتفق معهم، لكن ذلك كله لم يؤثر مطلقا في حب والدي وصداقته لهم وتعاطفه معهم وقت الشدائد ومساعدتهم وقت الأزمات والفرح لهم حين يحقق أحدهم نجاحًا أو يرزقه الله بشيء ما.

درج المكتب

لم يكن للوالد أي طموحات مادية أو مالية. عاش طوال عمره حياة بسيطة من دون الاهتمام أو السعي وراء المال أو شراء المقتنيات. عشنا في شقة صغيرة متواضعة بحي متواضع مع شعور بالرضا والشبع ونحن سعداء بذلك فخورون به. عشنا أيامًا طويلة بأموال قليلة وأيامًا كثيرة بأموال كافية تفيض عن حاجتنا. في كل الأحوال لم يكن المال هدفًا بل مجرد وسيلة، شيء نستعمله ونمسكه بأيدينا لكن لا يتسرّب حبه إلى قلوبنا. إذا رزقنا الله المال لا نفرح وإذا نقص المال لدينا لا نحزن. كان الدخل لدينا غير مستقر ولكن نفقاتنا أيضًا لم تكن كثيرة وطلباتنا وطموحاتنا المادية لم تكن كبيرة.

كان الوالد يضع كل المال المتوفر فيما يسمى (درج المكتب)، وهو رف صغير في المكتب الذي يستعمله والدي للكتابة والاطلاع. وكان الدرج مفتوحًا أمام الجميع، ويمكننا أن نأخذ منه ما نحتاج وقتما نشاء، كل المطلوب فقط هو إخبار الوالد بأننا سنأخذ مبلغ كذا من المال، نخبره -فقط- لمجرد تنظيم الأمور.

كان هذا يزرع فينا شعور ثقة الوالد فينا وشعور المسؤولية وفي الوقت نفسه الشعور أن المال ليس هدفًا ولكنه مجرد وسيلة ومن ثم لا نفرح حين يزداد ولا نحزن حين ينقص.

من ناحية أخرى لم يقترض الوالد أي مال في حياته من بنوك أو يتعامل في ربا أو ما يشبه الربا من شراء أشياء بالتقسيط. كان شعارنا الدائم هو أننا نشتري ما نملك ثمنه وطموحاتنا في الشراء محدودة وأن امتلاك الأشياء والماديات لا يدخل السعادة إلى القلوب وأن الجوع الرأسمالي الذي يغذي النزعة الاستهلاكية يصنع كائنات لا تشبع من السعي وراء الشراء وحب التملك لمحاولة سد فجوة من الجوع الذي لا ينتهي والشعور بالنقص الذي لا ينفد.

أن العلم والعقل والدين أمور يجب أن نسعى للاستزادة منها ونستمتع بها لأنها تغذي العقل والروح، أما السعي وراء المال والممتلكات والماديات فلا يؤدي إلى سوى المزيد من الجوع والتعاسة.

لذلك كان الوالد لا يحبذ الهدايا أو أي شيء يقدمه له صاحب منصب أو أي مؤسسة على سبيل الهدايا، ويخاف أن يؤثر هذا يوما ما في استقلالية رأيه وحرية تعبيره عن أفكاره من باب الحياء أو الإحراج.

تعلمنا أنه يجب أن تظل الأموال في أيدينا لا في قلوبنا، والشبع في عيوننا بغض البصر وأرواحنا بالدين وقلوبنا بالمحبة وعقولنا بالعلم.

الإصرار

كان الوالد يؤكد أن التغيير والإنجاز لا يكون بالقفزات الكبيرة المفاجئة، لكن بالعمل المستمر في خطوات صغيرة متكررة. المثابرة والإصرار والاستمرارية تغير العالم وليس القفزات المفاجئة التي يسمع عنها الناس في القصص والحواديت.

كان يؤكد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى ثلاثة عشر عامًا يعد جيل النخبة من الصحابة الذين أسسوا الأمة الإسلامية قبل الانتقال إلى المدينة المنورة.

كان يؤكد أن نصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين لم يكن وليد لحظة شجاعة أو حماس مؤقت، لكن نتيجة بناء سنوات وسنوات.

الأفعال الصغيرة والعادات الصغيرة المتكررة هي ما تصنع التغيير وتحقق النجاح. وهذا يتوفر لمن لديه إصرار ووضوح رؤية وصدق نية، نية لوجه الله تعالى مع يقين بالنصر واستمرار في العمل مثل خلية النحل وأعشاش النمل، تكبر بالتدريج بفضل أعمال صغيرة متكررة.

وأن الذكي لا يستعجل النصر، لكن فقط يصبر ويثابر ويستمر في العمل ويستحضر النية وسيحقق الله أحلامه ولو بعد حين.

لذلك كان يؤمن بقدرتنا على تغيير العالم طالما كان لدينا الإصرار والاستمرارية. تغيير العالم بالفكرة التي ستتحول إلى كلمة وهذه الكلمة الصادقة الأمينة ستقنع الناس وتصل إلى عقولهم وقلوبهم لكي تتغير أفعالهم، ومع تغيير الفعل يتغير الواقع ويتطور للأفضل وتنهض الأمة ويزول الظلم ويحل العدل.

الزوج

كانت علاقة الوالد الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- بزوجته علاقة فريدة من نوعها، ظل طوال حياته يعترف بفضلها عليه ووقوفها بجواره في سنوات البناء والبداية، ويكرر دائمًا أنها الزوجة الأصيلة والأم الحنونة.

كانت العلاقة بينهما علاقة شراكة وصداقة عميقة. تتحمّل ظروفه ويتحمّل ظروفها لأن الرصيد بينهما كبير وعميق. كانت علاقة تسامح وترابط، تجمعهما أهداف وأحلام. أهداف تتعلق بالأبناء وأهداف تتعلق بخدمة الأمة والإسلام وأهداف تتعلق بالنجاح والتقدم وتحقيق الأحلام المشتركة.

كانت أغلب -أو ربما كل- أحلامهما تتعلق بأمور أسرية وعلمية. لم تكن الماديات محورًا مهمًا في طموحاتهما. ربما كان هذا اتفاق منذ البداية أو توافق طباع، لكن الأكيد أن المادة واقتناء الممتلكات لم يكن من أحلام الوالد ولا الوالدة.

كانت الوالدة ترى في زوجها أنه رجل متميز وتحب دائما أن تقول ذلك وتشعره أنه يستحق كل نجاح وأنها تقف بجواره في السراء والضراء وأنها تؤمن به وبما يقول ويفكر فيه. في المقابل كان الوالد مستعدًا لتحقيق أي طلب تطلبه ويستطيع تحقيقه في حدود قدراته المادية والحياتية.

بدأت حياتهما في شقة بسيطة بفرش متواضع جدًا يفتقر كثيرًا من أساسيات الحياة، لكن الرضا والاقتناع بأن لديهما أهداف أعلى وأسمى جعل كليهما يؤمن بالآخر ويثق فيه ويتحمل من أجله الكثير.

كانت الوالدة عين زوجها في متابعة الأبناء ورعايتهم، العلاقة بينهما قائمة على شراكة، وكنا -نحن الأبناء- نعرف أن ما نقوله لأمنا سيصل يومًا ما إلى أبينا ولم يكن هذا يقلقنا لأننا كنا نرى أنهما شيء واحد، ونرى أن الأسرة كلها كيان واحد مترابط لا يحتاج إلى شك أو ريبة أو خوف بين أعضائه أو إخفاء لأسرار.

ومثل كل الأسر الشرقية المترابطة كانت الأدوار واضحة، يمكن أن تعمل الأم وتخرج وتحقق ذاتها لكن تظل الأسرة والأبناء عملها الأول ومهمها الأسمى والأعلى قيمة في تحقيق الذات، وعلى الأب العمل والكد والإنفاق والمشاركة في رعاية الأبناء وتوفير الوقت والجهد لرعاية الأسرة.

كانت العلاقة الزوجية ودور الزوج والأب عند الدكتور محمد عمارة ليس في كمية المال الذي يقدمه، لكنها في الوقت والجهد والمشاركة في تربية الأبناء والتواصل مع الزوجة والأولاد.

كان دور الأب ليس فقط الإنفاق، لكن أيضًا المشاركة في التربية العقلية ورعاية تكوين الأبناء ورعاية الزوجة عاطفيا وجسديا، فضلا عن المشاركة والمساعدة في كثير من أعمال المنزل إذا اقتضت الحاجة.

ربما لو كان علينا وضع عنوان واحد لعلاقة الوالد -رحمه الله- بزوجته فسيكون (حسن العشرة)، يتمثّل ذلك في الحرص على شريكة الحياة ومشاعرها وتفهم ظروفها ونفسيتها والعمل على مساعدتها والتعاون معها لتحقيق الهدف المشترك لكليهما: أسرة مسلمة وتربية أبناء مسلمين.

وحسن العشرة يعني الثلاثة أعمدة التي تكلم عنها القرآن الكريم..

المودة: الود أي البدء والمبادرة والسبق بإظهار التعاطف والتفهم والمشاعر والاهتمام والمحبة والتعبير عنها في جميع التصرفات والألفاظ والحركات.

السكن: أن يكون البيت ساكنًا؛ الصوت فيه منخفض، بلا ضوضاء ولا أصوات عالية في الأحاديث، وكذلك مكان للهدوء والسكينة والاستقرار النفسي والعقلي والروحي، بعيدا عن ضوضاء العالم الخارجي. السكن والطمأنينة والاستقرار والأمان. الشعور أن هذا البيت مستقر وآمن مهما حدث في الخارج من ضغوط، ومهما حدث من أزمات أو مشاكل أو ضغوط، يظل الأب صخرة مستقرة سيلجأ الجميع إليها ولن تخذلهم.

الرحمة: وهي المسامحة إذا أخطأ شريك الحياة، والرحمة وقت الأزمات، وتفهم أي مشاعر للألم أو الحزن أو الضغط النفسي الذي قد يمر بها شريك الحياة، سواء بسبب مشكلة حقيقية أو لمجرد تقلبات الحالة النفسية لدى بعض الناس.

كان الوالد حريصًا على تطبيق ما ينادي به ويخاف أن يكون هناك فرق بين القول والفعل في أي شيء من تفاصيل حياته بما في ذلك أسرته وزوجته وأولاده.

ولذلك كان ينادي بالمرأة المسلمة القوية التي تقف بجوار زوجها ولا تخاف عالم الرجال وتتكامل مع زوجها، ويرفض صورة المرأة السلعة الرأسمالية المستهلكة التي تبيع جسدها أو تجري وراء الموضات وتخدم صاحب الشركة ومدير المؤسسة، بينما ترفض أن تخدم أو تساعد زوجها. في الوقت ذاته، يرفض أن تكون المرأة مكسورة الجناح فارغة العقل تعيش في التفاهة وراء الأبواب وأمام الشاشات تتابع المسلسلات أو مواقع التواصل -كما الحال اليوم- تخاف مواجهة المجتمع وتشعر دائمًا أنها أقل وأضعف.

كان الوالد يرى أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- مثالًا للمرأة القوية سيدة الأعمال التي وقفت بجوار زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنجبت له البنين والبنات، إنها مثال يحتذى في كل العصور، كما يرى والدي -رحمه الله- مثال أم عمارة وهي التي وقفت تدافع عن الرسول في غزوة أحد وقتما هرب الرجال، ومثال أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- التي كانت تروي لنا أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعلم المسلمين دينهم، هن المثال الطبيعي للمرأة التي تعمل بجوار زوجها في الحقل والتجارة وتساعد أسرتها دون تبرج وتفلّت أو تنازل عن الدين أو الهوية ومن دون غياب ترتيب الأولويات فتعرف أن أسرتها أهم عندها من صاحب المؤسسة ومدير الشركة، وأن أكبر شرف للمرأة هو أن تربي جيلًا مسلمًا واعيًا قويًا وأن تكون ربة منزل، وليس كما تقدم لنا حضارة الغرب من تقليل من قيمة المرأة التي تعمل في بيتها مقابل تضخيم صورة المرأة التي تعمل خارج منزلها، وتحويل كل شيء مقابل ثمن ومال وسعر حتى المشاعر والعقائد والأحاسيس البشرية مقابل مرتبات وأجور.

وكان طعام الوالد يسيرًا، لم يكن الأكل من هواياته ولا مصدرا للمتعة. يأكل أشياء متاحة وبكميات متواضعة ولا يشتهي الكثير من الأكلات المعقّدة. لم نسمعه يشكو من نوعية طعام تقدمه أمي أو يطلب شيئًا خاصًا، كان يرضى ويحب أي شيء تقدمه أمي وتضعه على المائدة، ما جعل مهمة الطبخ والطعام في بيتنا مهمة سهلة على الجميع.

الابن

توفي جدي -رحمه الله- وكان عمري عشر سنوات وتوفيت جدتي بعده ببضع سنوات، وكانت علاقة أبي بوالديه علاقة الابن المميّز، ربما لأنه الابن الوحيد المتعلم والذي كان أبواه يفتخران به في القرية.

من ناحية أخرى، كان أبي الابن البار طوال حياته، وما زرعه فيه أبوه من أفكار الفلاح الأصيل ظل معه ويعتز به وبجذوره وقريته.

كان الوالد يعيش في عوالم عدة في الوقت نفسه، يتنقل بينها بسهولة شديدة ويتقن لغة وطريقة تفكير كل هذه العوالم. عالم الفلاح في القرية الصغيرة في دلتا مصر، وعالم المثقف الذي يعيش في القاهرة، وعالم المفكر الإسلامي العالمي الذي يهتم بقضايا الأمة الإسلامية وقضايا العالم. كان يتنقل بين العوالم الثلاثة من دون مجهود، ويتقن مصطلحات كل عالم من العوالم الثلاثة.

وحين توفي جدي وجدتي، قرر الوالد بناء بيت لنا في قريتنا ليستمر الاتصال بيننا -نحن الجيل المولود في القاهرة- وبين قريتنا في دلتا مصر، وما زلنا حتى اليوم نرتبط ببيتنا في قريتنا ونزورها بانتظام ونعرف أهلنا جيدًا.

الأخ

للوالد إخوة كثيرون كلهم رجال فيما عدا أخت واحدة، وعلاقة الوالد بإخوته علاقة مساندة استمرت طوال العمر، يقف بجوار إخوته وقت المحنة، كذلك هم يقفون بجوار أخوهم وقت المحن والأزمات، واستمرت هذه العلاقة بالدفء ذاته والتسامح إلى أن تُوفّي الجميع رحمهم الله.

حتى في حالة حدوث مشاكل أو احتكاك بين الإخوة، كان الوالد هو الحكم بينهم بحكم أنه المتعلم، وهو موقعٌ ومسؤوليةٌ تركها له أبوه -رحمه الله- وفي كل مرة كان التسامح والترابط يغلب على أي شيء آخر أو مصالح أخرى فيتنازل الأخ لأخيه ويتغافل الأخ عن سهو أخيه، لأن الأولوية دائمًا للأسرة والترابط الأخوي وأن يضحي الفرد ببعض الأمور في سبيل العائلة. في المقابل، تقف العائلة سندًا للفرد في الأزمات والمحن ما يعطي شعورًا بالانتماء والطمأنينة للجميع أنه ليس وحده في هذا العالم.

كان الإيثار والاستعداد للتضحية في سبيل مساعدة الإخوة والأسرة سمة واضحة جدًا في علاقة الوالد -رحمه الله- بأسرته وإخوته وأهل قريته.

الصديق

للوالد كثير من الأصدقاء من كل الفروع الفكرية والأديان والأعراق. كان الوالد -رحمه الله- على المستوى الشخصي يحب الناس كلهم ويتوقع منهم الخير.

كانت القاعدة عنده هي أننا في دوائر تتسع بالتدريج ولا تتقاطع، ويجب البحث عن المشتركات بيننا قبل البحث عن الاختلافات، ودائمًا سنجد المشتركات أكثر بكثير من الاختلافات بيننا، فيقول: أنا فلاح بالقاهرة في مصر، أتحدث العربية ومسلم وإنسان.

وبالتالي أبحث عن المشتركات بيني وبين الآخرين -وهي كثيرة- قبل أن أبحث عن الاختلافات والفوارق، فأنا أحب وأساعد الفلاح الذي يزرع في الصين لأنه بشر مثلي وفلاح مثلي ولم يؤذني أو يحارب ديني وعقيدتي

وأحب جاري المسيحي لأنه يعيش معي في القاهرة، ويتحدث العربية مثلي، ومصري مثلي طالما لم يؤذني في ديني ولا عقيدتي

وأحب أخي المسلم لأنه مسلم مثلي، وبشر مثلي، ويتحدث العربية مثلي، ويشاركني طموحاتي وأحلامي، ولم يؤذني

والصداقة تعني الاحترام المتبادل وتبادل الأفكار والآراء من دون حجر على فكر أو تعصب لرأي، فكانت تنعقد في بيتنا ندوات ثقافية كثيرة، يحضرها أصدقاء من مصر وجميع أنحاء العالم، ويتم تبادل الأفكار وعرض الآراء بدون تعصب أو كراهية، ويشارك في هذه الندوات أصدقاء الوالد من شتى الأطياف الفكرية سواء إسلامي أو علماني أو غير مسلم أو ملحد أو غير عربي أو غير مصري.. إلخ.

من ناحية أخرى الصداقة لا تعني الدخول في خصوصيات البيت، فكان بيتنا دائمًا حرمًا مغلقًا لا يصل إلى أعماقه إلا أهله؛ فالصداقة لا تعني أن تكشف أسرار بيتك وخصوصيتك للآخرين. كان الوالد -رحمه الله- يقدّس الخصوصية ويهتم بها سواء لأنه رجل شرقي أو لأنه يحب أن تظل حياته الخاصة وحياة أسرته بعيدة عن أعين الغرباء.

ولذلك كانت نشاطاتنا العائلية لا تتضمن كثيرًا دخول الغرباء أو الأصدقاء، وحتى الأصدقاء المقربين كانت لهم مساحة من الاقتراب لكن في حدود لا تتعدى الخصوصية، وكان الجميع يعرف ذلك ويتفهّمه.

وكان الوالد -رحمه الله- يحسن الظن بالناس دائمًا، كلّ الناس، يتوقع الخير من الناس، ويفسر أي خطأ أو أذى على المحمل الجيد ويفضل أن يكون متسامحًا يعيش بقلب سليم خال من الحقد على أن يتذكر الإساءة أو يتوقعها ويعيش بقلب أسود يحمل الكراهية والهم والشك نحو الجميع.

وكان أبي متواضعًا في ملابسه لكن يهتم بشدة بالنظافة الشخصية، له طقوس في النظافة الشخصية لا يتنازل عنها مهما كان، وكانت ملابسه عادية لكنها نظيفة يحرص على تناسقها مع المكان الذي يذهب إليه. يلبس الجلباب في قريتنا والعباءة في محاضراته والبدلة الغربية وقت السفر ولم يكن يهتم بالموضات، ولكن يرتب لنفسه الزي المناسب للحدث، المهم عنده في الملابس البساطة والنظافة وتناسق الألوان.

وكان يحافظ على ملابسه بطريقته الخاصة، يطويها بنفسه ويحرص على النظام الشديد في كل متعلقاته الشخصية سواء المتعلقات المرتبطة بمكتبه وكتبه وأدوات عمله أو المتعلقات المرتبطة بملابسه والنظافة الشخصية.

الجار

كان الوالد دائمًا في مكان سكننا يهتم جدًا بمشاعر الجيران ومساعدتهم، حسن الجيرة من الأمور شديدة الأهمية عنده. طبعا في المقابل، كان الوالد يحظى باحترام شديد من جميع الجيران، يلجأون إليه في الأزمات أو حين يحتاجون إلى رأي أو مشورة، لا يبخل عليهم بالوقت أو الجهد أو المساعدة. كان جيراننا من أطياف مختلفة منهم المسلم والمسيحي، منهم المتعلم وغير المتعلم، منهم الفقير والغني، كلهم يشعرون بالحب والاحترام للوالد، وكذلك كان يحبهم ويساعد الجيران في أي موقف أو أي أزمة.

لا ينطبق هذا على الجيران في بيتنا بالقاهرة وحدهم، لكن أيضًا على جيراننا في بيتنا بقريتنا، وكثيرًا ما كان حرص والدي على حسن الجيرة يجعله يتنازل عن بعض الأمور أو يتطوع ويرهق نفسه في بعض المسائل المالية أو العملية لمساعدة الجيران والحفاظ على حسن الجوار.

كان الوالد شديد التواضع في التعامل مع الجميع، يُظهر الود والبشاشة للجميع بغض النظر عن مستوى التعليم أو طريقة التفكير أو القدرات المادية.

وبما أننا عشنا في حي متواضع ومنطقة شعبية، فقد كان كثير من جيراننا بسطاء، لم يشعر الوالد أبدًا أنه مختلف عنهم. كان الجيران يلاحظون ويعرفون أهمية الوالد وارتفاع مكانته العلمية بحكم كثرة الزوار من أنحاء العالم كافة. لكن كثيرين منهم لم يعرفوا كثيرًا من التفاصيل عن الوالد من الناحية العلمية أو الفكرية. كان بالنسبة لهم رجلًا محترمًا عالي المقام حكيمًا، يلجأ إليه الجميع لإستشارته والاستئناس برأيه، وهو لا يبخل على أحد بأي صورة من صور المساعدة والمشاركة.

الجد

الوالد له العديد من الأحفاد، وعلاقته بهم كانت تشبه إلى حد كبير علاقته بنا وبمتابعة تربيتنا على حب الكتاب والاطلاع. هذه العلاقة التي تعلمنا منها الكثير. ورغم أن العديد من الأحفاد سافر إلى بلاد بعيدة ليستكمل دراسته، إلا أن ارتباط الأحفاد بالوالد -رحمه الله- لم ينقطع وكان التواصل الأسبوعي بينهم لا ينقطع ويعد من القواعد التي تُكسر مهما حدث.

وعلاقة الوالد بأحفاده علاقة صداقة عميقة، وكان يحرص على فهم لغة أحفاده وأسلوب تفكيرهم ويتحدث معهم ساعات طويلة، ولم يكن هذا الحديث حوار الجد مع أحفاده بقدر ما هو حوار المستمع المهتم بفهم ما يدور في عقل أحفاده. هذه العلاقة جعلت الأحفاد يثقون بشدة في جدهم ويعدونه صديقًا وليس مجرد رجل مسن من جيل سابق أو شخص حكيم يستمعون لنصائحه على مضض.

تعوَّد الأحفاد أن يحكوا لجدهم تفاصيل ألعابهم وحياتهم وأصدقائهم، ويستمع إليهم الجد باهتمام ويسأل عن مزيد من التفاصيل ليفهم ويتفهّم طريقة تفكيرهم، وفي المقابل يعلّق تعليقات تفيدهم في بناء شخصيتهم ونصائح من خبرته في الحياة، وبالتدريج أصبح الأحفاد يثقون في رأي جدهم ويسألونه النصيحة ويناقشون معه قضايا تشغل عقولهم أو عقول أصدقائهم في المدرسة أو الجامعة، سواء كانت قضايا ثقافية أو قضايا الحياة اليومية أو حتى لعب الأطفال، وكالمعتاد كان الحوار -والسؤال يتبعه- بحثًا عن الإجابات في الكتب والمراجع والأبحاث وصولًا إلى إجابة موثوق بها.

وبالتالي فقد كانت قصص الأحفاد وحواراتهم مع الوالد -رحمه الله- تتضمن كثيرًا من الأمور والتفاصيل الصغيرة والكبيرة، وبمرور الوقت أصبح الوالد صديقًا لهم وناصحًا أمينًا يتبادلون معه الأفكار والنصائح من دون شعور أن هناك حاجزًا بينهم سواء من ناحية السن أو طريقة التفكير.

الإنسان

كان الورع والتقوى والزهد والتدين طبع الوالد -رحمه الله- في كل جوانب حياته الشخصية والعامة، وكان الحرام والحلال يتحكم في كل شيء يراه من حوله، وكذلك الالتزام الديني والعبادات والاعتماد والتوكل على الله جزء محوري في كل قرار يتخذه وكل تصرف يُقدم عليه.

فضلا عن مساعدة المحتاجين وعمل الخير، كان الوالد -رحمه الله- على يقين أن الله ينجي عباده الصالحين، وكان هذا اليقين مصدرًا للطمأنينة له ولنا وقت المحن والأزمات، والتوكل على الله واليقين في نصره جعل الوالد دائمًا متفائلًا مطمئنًا مهما حدث.

واليقين في نصر الله لا يعني استعجال النصر، فالله ينصر عباده الصالحين ولو بعد حين، وكل ما علينا هو الأخذ بالأسباب وترك النتيجة على الله، والله وعدنا إما ثواب الدنيا والآخرة أو ثواب الآخرة، أي أننا في جميع الأحوال سيتحقق وعد الله لنا طالما حرصنا على العمل الصالح والأخذ بالأسباب.

كان الوالد ضد التواكل وانتظار الغيبيات من دون الأخذ بالأسباب، كما أنه كان ضد من يعتقد أن الأسباب وحدها كافية لتحقيق النصر والسعادة والراحة والتوفيق في الدنيا.

كان الوالد يرى أن هدف في الحياة الدنيا ليس السعادة والضحك، ولكن الطمأنينة والرضا، لأن الطمأنينة والرضا هي ما تبحث الروح عنه وسط ضوضاء الحياة وصخب الدنيا.

كان الوالد يحب المشي وكان يمشي بانتظام لمدة لا تقل عن ساعة يوميًا، وفي أواخر حياته كان يمارس هواية المشي داخل المنزل عن طريق الذهاب جيئةً وذهابًا مدة ساعة، وهي عادته منذ الصغر، وحين كان رهن الاعتقال في عهد عبد الناصر كان يتمشّى داخل الزنزانة بانتظام، وكان هذا يساعده على الهدوء والتفكير والتأمل.

كانت مدة صمت الوالد طويلة يتأمل ويفكر أو يدوّن بعض الملاحظات التي تخطر بباله، ولم يحب كثرة الكلام إلا فيما يفيد، وكان يحب أن يرتب أفكاره قبل أن يتكلم في صورة نقاط مكتوبة أو ملاحظات.

الإيجابية في الكلام

كان الوالد حريصًا على حمد الله وشكره في السراء والضراء، كان دائمًا إيجابيًا في التعبير عن كل شيء وأي شيء، لا يشكو ويرى الشكوى لغير الله ضعف ومذلة، وأن الرجولة تتضمّن عدم الشكوى والتذمر والبكاء للبشر.

أن المؤمن يتحدث بصيغة التفاؤل واليقين في النصر والتوفيق ولو بعد حين، عليه العمل وعلى الله النتيجة. يرى أن الصبر فعل إيجابي يتضمن الأخذ بالأسباب دون استسلام أو يأس من فرج الله.

كانت يضايقه صورة المسلم الكئيب الذي ينتظر الموت ويترك الدنيا لأعدائه ليستمتعوا بها، بينما يختبئ في المسجد، لا يأخذ بالأسباب، على أمل أنه بهذا الهروب إلى المساجد ربما يرحمه الله ويدخله الجنة بعد موته.

أو صورة المسلم المتواكل الذي ينتظر حدوث المعجزات دون الأخذ بالأسباب وعمل ما في استطاعته، أو صورة المسلم الذي يشكو ليل نهار من دون أن يفعل أي شيء ولو كان بسيطًا في حدود قدراته لتحسين الواقع.

أو صورة المسلم المستسلم للظلم تحت شعار أن هذا قدر ونصيب مكتوب ولا يأخذ بالأسباب ويداري جبنه وتخاذله ببعض الشعارات الدينية التي يدّعي فيها الرضا بالواقع المهين في انتظار معجزة خارجية خارقة أو تحت شعار أنه ينتظر القيامة ونهاية الزمان.

كان يردد دائمًا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإيجابية (من رأى منكم منكرا فليغيره..)، ودرجات التغيير التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالفعل لو استطاع المرء، ولو لم يستطع فيكون تغييره بالكلمة والتعبير عن الرأي، ولو لم يستطع فيكون بالقلب ورفض الخطأ والاكتفاء بالنفس وهذا أضعف الإيمان، وقول الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

الموضة

كان الوالد -رحمه الله- بسيطًا في كل شيء، وكان ضد النزعة الاستهلاكية التي تروّج لها الرأسمالية في كل شيء، ضد أن تشتري شيئًا جديدًا لمجرد أنه موضة جديدة أو موديل جديد، أو أن تستغني عن شيء يعمل جيدًا أو يمكن إصلاحه لمجرد أنه أصبح قديمًا أو كما يقولون “موضة قديمة”.

كان هذا في كل تفاصيل الحياة من ملابس إلى أجهزة ومستلزمات -بل حتى في الطعام- كان يرى أن التخلص من بقايا طعام صالح يدل على الإسراف وعدم تقدير قيمة النعمة، لذلك لم تستهوِ الوالدَ المراكزُ التجارية أو المحال التجارية والمطاعم أو المباني الفخمة والمبالغ في زخرفتها، كان يفضل الطبيعة والبساطة والهدوء والبعد عن الزحام والتزاحم والناس والضوضاء.

د. عمارة ونجله وزوجته في قريته

 

الفنون

كان الوالد يحب الفنون المختلفة من موسيقى أو شعر أو نثر أو رسم أو نحت، بشرط ألا تكون مما ينشر الفحشاء أو يخاطب الغرائز أو يدعو إلى معصية.

كان يرى أن الفنون هي وسيلة قوية لتغيير وتهذيب أفكار الشعوب بشرط استعمالها بالطريقة الصحيحة في غرس القيم الجيدة ومحاربة القيم الفاسدة. وله كتاب مشهور اسمه (الإسلام والفنون الجميلة) يرد فيه على من يدعو لتحريم الفنون على المطلق بكل أشكالها، ويثبت أن الفنون في حضارتنا الإسلامية كانت أدت دورًا مهمًا في بناء الأمة وهوية الشعوب الإسلامية وربط بعضهم ببعض، وفي نشر القيم والعادات والتقاليد الإسلامية بين الشعوب، سواء عن طريق الشعر أو النثر أو الموسيقى الراقية أو النقوش على الجدران أو الأساليب المعمارية إلى آخره من وسائل للإبداع والفنون.

وكان بيتنا يتميز بالهدوء والصمت أغلب الوقت، فالجميع يُفضّل الحديث بصوت منخفض لأننا نقدّس الخصوصية، وحتى لا ينزعج الوالد أثناء الكتابة أو القراءة أو أي فرد في العائلة يفكر أو يبحث أو يقرأ.

من ناحية أخرى، كان في الخلفية دائمًا صوت القرآن الكريم أو في بعض الأحيان صوت الموسيقى الكلاسيكية أو الموسيقى العربية، وكان لدينا في مكتبة الوالد جزء كبير مخصص للفنون والآداب من كل العالم، وكان المقياس دائمًا في تقييم أي فن أو عمل فني أو إبداعي هو: أهذا الفن يحضّ على فضيلة أم يُغري بالمعصية والفساد؟

الأستاذ

كان الوالد يرحب دائما بطلابه، يفتح لهم بيته ومكتبه في أي وقت، لم يمتنع عن استقبال طالب علم في بيته أو مكتبته مهما كانت مشاغله، سعى إلى مساعدة كل طالب على قدر استطاعته.

وفي الوقت ذاته، كان يحرص على اختبار قدرات طلابه وإصرارهم في طلب العلم والتأكد أنهم لا يكتفون بمجرد السؤال والجلوس في مجلس علم، بل أيضًا يبذلون من الجهد والوقت ما يكفي في البحث والتعلم والتعليم الذاتي واستكشاف الكتب والمراجع، فكان يطلب منهم بعض المهام أو يُقيّم استعدادهم لبذل جهد أوسع في البحث عن العلم والمعرفة، وليس مجرد الاكتفاء بإلقاء أسئلة وانتظار إجابات من دون بذل مجهود في البحث والاطلاع.

كان الوالد يساعد كل طالب علم ويطلب منه البحث في مجال ما أو أمر ما لكي يكون تعليمًا إيجابيًا يشارك فيه الطالب بالبحث والتعلم وليس فقط مجرد متلقٍ يستمع ثم ينسى.

وكان يعامل طلابه مثل أبنائه ويتعاطف معهم ومع ظروفهم، ويرى نفسه فيهم ويشعر بكفاحهم ومعاناتهم في طلب العلم ويشجعهم على الاستمرار في طلب العلم، ويرفع من روحهم المعنوية وثقتهم بأنفسهم وبأنه من الممكن أن يحققوا أحلامهم وطموحاتهم؛ فكان لهم المعلم والأستاذ وفي الوقت عينه الصديق الأمين المستمع الموثوق به.

السياسة

كان الوالد طوال عمره يؤمن بأن العلماء والمفكرين يجب أن يبتعدوا عن السياسة ويحافظوا على الاستقلالية الفكرية لهم ومسافة ثابتة بينهم وبين كل التيارات السياسية.

كان يرى العلماء مثل المنارة على الشاطئ تهتدي بها السفن، لكن لا يجب أن يترك عامل المنارة الشاطئ ليقود السفينة ويعمل ربّانًا في البحر، تمامًا كما أن ربّان السفينة لا يصلح للعمل منارة تهدي الحائرين إلى الحق والصواب. ربان السفينة ينفذ مناورات حسب ظروف البحر في قيادة السفينة ويهتدي فيها بنور المنارة على الشاطئ.

كان يوافق ابنَ خلدون رأيه في أن العلماء لا يتقنون السياسة وأن دخولهم عالمَها يضر بهم وبالسياسة.

كان يرى أن السياسة هي فن الممكن بينما العالم والمفكر يقدم للمجتمع الفكر المجرد والتمييز بين الحق والباطل، وبالتالي من يعمل في السياسة عليه أن يتقبّل المناطق الرمادية الكثيرة، بينما من يعمل في العلم والفكر عليه أن يقدم الفرق بين الحق والباطل، بين الأبيض والأسود، وعلى السياسي أن يهتدي بنصيحة العلماء ويرى ويبحث عن كيفية تطبيق تلك النصائح في الواقع.

وكان يرى أن تغيير المجتمعات يكون بالأفكار من القاعدة -من الشعب- وليس من فوق ومن الحكام، وكان يقول ضاحكًا إنه لو عاد الخليفة العادل سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليحكمنا اليوم في زماننا لثار عليه الناس وحاربوه وعدُّوه متشددًا ظالمًا قاسيًا.

ويقول إن الأفكار حين تتسرّب إلى الشعب وجهاز الدولة والملأ والمستشارين المحيطين بالحكام ومراكز صناعة القرار ستتحوّل إلى طريقة في الحكم وأسلوب في الحياة، فالحكام يتأثرون بشعوبهم تمامًا مثلما تتأثر الشعوب بحكامها. وأن الواجب هو أن يقول المثقفون الحق وفي الوقت ذاته يظلون بعيدًا عن ممارسة السياسة.

ولذلك كان الوالد يقول الحق والرأي الواضح من دون خوف وفي الوقت نفس دون انتماء إلى أي تيار.

دخل الوالد -رحمه الله- السياسة لمدة قصيرة لا تتعدى بضع سنوات خلال سنوات الجامعة -أواخر خمسينيات القرن الماضي وأوائل الستينيات- وانضم للتيار اليساري حينها، ورأى أن التيار اليساري يعبّر عن ثلاثة أفكار يؤمن بها: العدالة الاجتماعية في صورة الأفكار الاشتراكية، والحرية في التعبير والتفكير، والاستقلال عن الاستعمار.

لكن رحلة الوالد القصيرة إلى عالم اليسار كشفت له أن السياسة لا تغيّر المجتمعات..

اكتشف هذا التيار يرفع شعارات زائفة لا يؤمن بها ولا يطبّقها، وكانت فرصة لاستكشاف هذا العالم، وجعلت الوالد على يقين أن المفكر يجب أن يحافظ على البعد والاستقلال عن أي تيار سياسي حتى لا يتأثر حياده به، ولأنه -كما قلنا- المفكر عالم في المعمل والمختبر يقدم الأفكار والاختراعات والإبداعات والنظريات ولكن لا يشارك في التطبيق والتصنيع، كما أن التطبيق والتصنيع لا يتقنه العالم والمخترع ولو حاول الدخول فيه فسيؤدي إلى مشاكل وضرر أكثر بكثير من الفائدة.

والبعد عن السياسة لا يعني أن يكون المثقف والمفكر جبانًا، بل يقول رأيه بصراحة من دون خوف مع الحفاظ على الحيادية والاستقلالية.

الشخصية

لكي نفهم شخصية الدكتور محمد عمارة الإنسان -رحمه الله- يجب أن نعرف أنها شخصية لها جوانب متعددة مترابطة مع بعضها: شخصية الفلاح، والمثقف العالمي، والأزهري الشيخ، والمفكر الإسلامي والمصري العربي المسلم، الإنسان الذي يحب الجميع ويسعى للحق والعدل ويحلم بتغيير العالم ونهضة الأمة الإسلامية بالكلمة والفكر، الإنسان الذي ينظر إلى كل ما حوله من خلال ثلاثة أفكار أساسية يرى العالم من خلالها ويبحث عنها في كل تصرفاته: العدل والحرية والاستقلال. يسأل دائمًا كيف ولماذا؟ ويبحث عن الإجابات في أمهات الكتب ومصادرها. الإجابات التي تجمع بين صحيح السند والنقل، بين العقل والمنطق والإقناع، إجابات يستطيع بها أن يواجه العالم كله بالحجة القوية ولا يكتفي فقط بكلمة قال فلان وكتب فلان.

المصدر : الجزيرة مباشر