أوربا تودّع عصر الرفاهية!

مؤسس بنك الطعام في ألمانيا

 

ثمة تغيرات جذرية حدثت في حياة الأوربيين بعد موجة كورونا والحرب الأوكرانية، فقد كشفت كلتا المأساتين عن الاختلاف، وعدم فاعلية النظم الصحية والاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير في القارة العجوز.

في النظام الصحي، كشفت كورونا عن قصور كبير في المستشفيات وأجهزة التنفس الصناعي، مما يعني عدم القدرة على مواجهة أي وباء قادم، أو أي نوع من الأمراض أو الإصابات الجماعية التي قد تنتشر لأي سبب في القارة.

أما النظم الاجتماعية، فقد عانت من ضغوط وإرهاقات أزمات الهجرة التي تضرب القارة في موجات لا تتوقف، ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتتسبب في اختفاء السلع والمواد الغذائية الأساسية، وهو مؤشر يدل بوضوح على أن نظام الأمن الغذائي الأوربي هو الآخر في تدهور وليس آمنًا!

حياة الأوربيين ستتغير إلى الأبد

لم يكن أحد أيضًا يعرف قبل الحرب الأوكرانية كذلك أن أوربا لاتمتلك قرارها السياسي، ولا مصيرها في الطاقة والأمن الغذائي.. فالدولتان الكُبريان الولايات المتحدة وروسيا تؤثران بقوة في توجهات القارة السياسية والاقتصادية، فأمريكا ضغطت على أوربا للسير وراءها في مقاطعة روسيا وحصارها رغم احتياجات الأوربيين الشديدة للتعاون مع موسكو في مجالات الطاقة والغذاء، مما أشعل الأسعار وكشف عن اعتماد الأوربيين الكبير على مصادر الطاقة الروسية، والمحاصيل والمنتجات الزراعية التي توقفت بسبب الحرب.

كل تلك المعطيات تؤكد أن حياة الأوربيين المرفهة نسبيًّا بالنسبة للشعوب الأخرى ستتغير إلى الأبد، فهنا في ألمانيا لم يكن أحد يصدّق أن متاجر رابع أكبر اقتصاد في العالم تخلو من الزيت والدقيق منذ بدء الحرب الأوكرانية حتى الآن، فما بالك -إذَنْ- بالدول الضعيفة اقتصاديًّا.

المسؤولون الألمان لم ينفوا هذه الحقيقة، وانظر إلى ما صرّح به وزير المالية كريستيان ليندنر في مقابلة له مع صحيفة بيلد، إذ يقول “الحرب الأوكرانية ستجعلنا جميعا أكثر فقرًا من ذي قبل، نظرًا لأنه سيتعين علينا دفع المزيد من المال مقابل الطاقة المستوردة”!

رغم أن كثيرًا من الدول الأوربية اعتمدت حزمة مساعدات لتعويض شعوبها عن حجم الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، منها مثلًا تخفيض ضرائب الطاقة أو صرف منح عاجلة للأطفال أو الموظفين في الدولة أو حتى تخفيض أسعار المواصلات الداخلية. فألمانيا -على سبيل المثال- ستقدّم بدءًا من مطلع شهر مايو/أيار المقبل، تذكرة شهرية موحدة للمواصلات الداخلية بسعر 9 يوروهات ولمدة 3 أشهر، للتخفيف من استخدام السيارات، وتجنب أسعار البنزين المرتفعة، كل تلك المساعدات بالتأكيد هي لفترة محددة بالنظر إلى العبء المالي الكبير الذي ستتحمله الدول!

المجاعة قادمة

إن أكثر ما يضرب الرفاهية الأوربية في مقتل هو ارتفاع نسبة التضخم بشكل مرعب، فقد قفزت الآن إلى 7.3% في ألمانيا، وهي كذلك نسبيًّا في دول أوربا الأخرى، وهو الأمر الذي سيدفع الحكومات الأوربية إلى وضع أسس جديدة من أجل الرفاهية، تأخذ في الحسبان التداعيات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية التي باتت أمرًا واقعًا في عالم اليوم.

فألمانيا -مثلًا- تتوقع خسائر فادحة في حالة توقف واردات الطاقة الروسية، وحتى إن تم البحث عن مصادر أخرى لتوريد الطاقة فإن موجة ارتفاع الأسعار لن تنكسر بسبب أن المُورّدين الآخرين سيكونون أكثر تكلفة من مُورّدي الطاقة الروسية، لكن ومع كل هذا التشاؤم، فإن فريقًا من المتفائلين يأملون استمرار تدفق الغاز الروسي، وهذا قد يضمن نموًا اقتصاديًّا ألمانيًّا هذا العام بنسبة تصل إلى 1.8%. أمّا النمو المعتمد على الطاقة المتجددة التي تستثمر فيها ألمانيا الكثير من الأموال الآن، فلن يكون جاهزًا قبل 5 أعوام على الأقل.

قد تحدث بالفعل مجاعة في دول تعتمد بشكل كبير على واردات القمح والزيت الروسية والأوكرانية، مثل بعض الدول العربية والأفريقية، فروسيا من أكبر مصدّري القمح ومنتجي الأسمدة في العالم، بينما تأتي أوكرانيا في المرتبة الخامسة. بالإضافة إلى استحواذ روسيا وأوكرانيا معًا على نسبة كبيرة من سوق تصدير زيت عباد الشمس في العالم كله، وربما يؤدي هذا الخلل في تصدير الدولتين من المنتجات الغذائية بشكل غير مباشر إلى حدوث مجاعة في الدول التي تستورد غذاءها!

تكتلات اقتصادية متناحرة

من المؤكد أن عصر الرفاهية الأوربية قد انقضى إلى غير رجعة مع دخول العالم في بداية حرب باردة جديدة، وبدء تشكّل تكتلات اقتصادية جديدة متصارعة، وليست متعاونة كما كانت من قبل. التكتلات الجديدة لا تبعد عن التوجهات السياسية، فالولايات المتحدة المنسجمة اقتصاديًّا وسياسيًّا مع الدول الأوربية وكوريا واليابان في وحدة ضد الصين وروسيا المتحدتين في حلف اقتصادي واحد.

كل تكتل بالتأكيد سيسعى إلى ضم حلفاء اقتصاديين له في غضون السنوات القادمة، وإلى أن يهدأ الصراع وتحدث انتعاشة اقتصادية فإن عصر الرفاهية لن يعود إلى سابق عهده، خاصة إذا عرفنا أنه في حالة ظهور متحور جديد لفيروس كورونا في غضون الشهور أو السنوات القليلة المقبلة،  فإن الحال سيعود كما كان عليه في ذروة تفشي الوباء، أما إذا توسعت حروب العالم ودخلنا فعليًّا في الحرب العالمية الثالثة، فلن نتحدث هنا عن رفاهية بل عن عودة الإنسان إلى العصر الحجري.

المصدر : الجزيرة مباشر