هل يفلت قتلة “شيرين أبو عاقلة” من العقاب؟!

شيرين أبو عاقلة (صورة أرشيفية)

 

في مقطع من فيلم “قائمة شيندلر” الذي أُنتِج عام 1993 وحاز 7 جوائز أوسكار، راح ضابط السجن النازي الذي يشرف على أحد معسكرات الاعتقال المخصصة لليهود إبان حكم هتلر يتثاءب من الملل، فراح يبحث عن وسيلة لقتل الوقت، أمسك ببندقيته المزودة بتليسكوب، وراح يراقب السجناء المحتشدين في ساحة المعسكر، وفجأة ضغط على الزناد وهو يضحك بشكل هستيري، فقد قتل أحد السجناء، فقط ليخرج من الملل الذي يشعر به.

القتل بالطريقة التي صوروها في أفلامهم

تذكرت على الفور هذا المقطع وأنا أشاهد جثة شيرين أبو عاقلة وهي منكفئة على وجهها، وقد ظهرت كلمة صحافة على سترتها الزرقاء التي لا تخطئها العين، فهل كان أحدهم متعطشًا للدماء فأطلق رصاصة الغدر التي قتلت شيرين، وقتلت معها الصحافة الحرة البريئة، لا لشيء إلا لروح الإجرام التي تملكت الجندي القاتل، والملل الذي يشعر به، بالضبط كما فعلها الضابط النازي في أجداده من قبل.

عندما عُرض هذا الفيلم الهوليوودي عن قصة رجل الصناعة الألماني شيندلر الذي أنقذ 1100 يهودي من القتل في معسكرات الاعتقال، أحدث تعاطفًا مع ما حدث لليهود آنذاك.. فكيف -إذن- تدور الأيام دورتها، ويقتل أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي بدم بارد امرأة بريئة بالطريقة ذاتها التي جاءت في أفلامهم؟ هل هو الغباء أم الإجرام؟ أم هي غطرسة القوة العمياء مع صحفية لاتملك غير صوتها في نقل الحقيقة التي تدخل أيضًا في نطاق عملها مراسلة لقناة الجزيرة؟

ستيفن سبيلبرغ اليهودي الذي أخرج هذا الفيلم الكبير لتصوير معاناة اليهود في ظل الحكم النازي.. هل يستطيع إنتاج فيلم لتصوير معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، والأسلوب الممنهج في طرق قتلهم بدماء باردة، أم إن ازدواج المعايير سيغلب على السينما الهوليوودية ويمنعه من ذلك؟

الجنازة توحد المسلمين والمسيحيين

لحسن الحظ، قد لا نكون في حاجة إلى فيلم لإثبات ذلك، وسط انتشار مقاطع الفيديو التي تصور الحقيقة على مواقع التواصل الاجتماعي،  فعالم الرقمية الجديد الذي يسود العالم الآن يستطيع نقل الحقيقة أكثر من أي فيلم. هكذا ظهر مقطع فيديو مقتل شيرين ابوعاقلة الذي أحدث دويًا هائلًا في العالم استنكارًا لقتلها دون وجه حق، وهي المراسلة البريئة التي اشتهرت بالتواضع والصوت الهادئ، ونقل الحقيقة كما ينبغي أن تُنقل.

شيرين أبو عاقلة التي وحدت المسلمين والمسيحيين في موتها، وشهد تشييعها إحدى أعجب الجنازات في التاريخ، فالمسيحيون يصلّون عليها وفق عقيدتهم، والمسلمون يترحمون عليها ويقرؤون الفاتحة ويهتفون “الله أكبر” أثناء سير الجنازة. خمس وعشرون سنة ونحن نتابع تقاريرها من الأراضي المحتلة دون أن نعرف انتماءها الديني إلا يوم جنازتها، وهو أكبر دليل على انتمائها الصادق إلى تراب وطنها فلسطين. لذلك، كرّمتها السلطة الفلسطينية بمنحها وسامًا، وتنظيم جنازة عسكرية لها، والعزم على ملاحقة الجناة في المحاكم الدولية.

الجناة يفلتون من العقاب!

تكرار قتل الصحفيين واعتقالهم والتنكيل بهم في منطقة الشرق الأوسط تكرر كثيرًا، المنظمات الدولية ولجان حقوق الإنسان والأمم المتحدة تندد كثيرًا بذلك، لكنها لم تكن قادرة في أي وقت على إيقاف هذه الاعتداءات المتكررة، والجناة يفلتون من العقاب دائمًا، ولجنة حماية حقوق الصحفيين في نيويورك تكرر إعرابها عن القلق في كل مرة عن عدم قيام سلطات البلدان التي يُقتل فيها الصحفيون بإجراء تحقيقات جادة في وقائع قتلهم، مما يؤدي إلى إفلات الجناة من العقاب دائمًا.

تقارير منظمة اليونسكو تقول إن 87% من وقائع قتل الصحفيين منذ عام 2006 حتى الآن لم يُمَط عنها اللثام، بينما تتصاعد وتيرة اعتقال الصحفيين والتحرش بهم والاعتداء الجسدي، والتضييق والترهيب، بما في ذلك عند تغطية الاحتجاجات الشعبية في كل دول العالم تقريبًا.

رغم أن إسرائيل لا تتورع عن قتل الصحفيين الفلسطينيين، فإن لجنة حماية الصحفيين في نيويورك أصدرت لائحة بأسماء الدول التي يتعرض فيها الصحفيون للقتل دون تعرّض الجناة للملاحقة من السلطات، حيث أتت الصومال على رأس القائمة، وفي المركز الثاني جاء العراق، وفي المركز الثالث سوريا، ولم يأتِ ذكر إسرائيل هنا!! وهذا ما يطرح سؤالًا عن قضية ازدواج المعايير مرة أخرى لدى المؤسسات الغربية؟ فهل سيكون ذلك سببًا لإفلات قتلة شيرين من العقاب؟!

إذا لم تغيّر قضية مقتل شيرين أبوعاقلة طريقة الدفاع عن الصحفيين المهددين، فإن حرية الصحفيين ستظل مهددة في ظل عدم توافر الأمن لهم!!

ما العمل إذن لإيقاف قتل الصحفيين؟

لجنة حماية الصحفيين في نيويورك حققت في 270 حالة قتل لصحفيين وقعت في أنحاء متفرقة من العالم. وكانت النتيجة أن معظم حالات القتل كانت لصحفيين محليين نشروا تحقيقات عن قضايا متعلقة بالفساد، الكثير منهم خُطف قبل أن يُقتل، وفي حالات قليلة فقط -وفق بيانات لجنة حماية الصحفيين- تم كشف ومساءلة الأشخاص الذين يقفون خلف هذه الجرائم.

ما العمل إذن لإيقاف قتل الصحفيين وتفعيل طرق العمل على حمايتهم؟

منظمة اليونسكو هي المُخوَّلة بضمان حرية التعبير وسلامة الصحفيين في جميع أنحاء العالم، وهي تفعّل خطط عمل الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحفيين، وفي العام الجاري، تكون قد مرت الذكرى السنوية العاشرة على بدء قيامها بهذا الدور، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فلا ضمانات كافية لإيقاف اعتقال الصحفيين وتعذيبهم وقتلهم حتى الآن!!

بالتأكيد، تدين المنظمة بصورة منهجية كل جريمة قتل تُرتكب في حق الصحفيين، وتدعو السلطات إلى إجراء تحقيق كامل، وهي تُجري دورات تدريبية للصحفيين والعاملين في مجال القضاء، وتعمل مع الحكومات على إعداد سياسات وقوانين داعمة، وتقوم بإذكاء الوعي على صعيد العالم من خلال فعاليات مثل اليوم العالمي لحرية الصحافة، لكن تبقى كلها “مناشدات ورجاء وتمنيات”. فهل حان الوقت -فعلًا- بعد مقتل شيرين أبو عاقلة لإجراءات أشد صرامة تجاه مَن يغتالون الصحافة والصحفيين؟!

المصدر : الجزيرة مباشر