هل اقتبس الإخوان تشكيلاتهم السرية من الشيوعية؟!

طلاب فلسطينيون يرفعون صورة الإمام البنا

هناك شائعة تصاغ بشكل علمي، عن تنظيم الإخوان المسلمين، وبخاصة تشكيلاتهم السرية، مثل: التنظيم الخاص، والأسرة، وبقية التفاصيل التنظيمية، التي أصبحت معروفة للجميع الآن. الشائعة تتعلق بأن حسن البنا قد اقتبس هذه التشكيلات السرية من التنظيمات الشيوعية في عصره، ومسألة استفادة البنا وغيره أو تأثرهم بما يحيط بهم من أحداث أمر لا ينكره دارس، فالإنسان ابن بيئته، وجماعة الإخوان نفسها قامت ردًّا على سقوط الخلافة العثمانية، وما تبعها من تفصيلات على جميع الأصعدة في العالم الإسلامي، لكن لكي نحكم بالاقتباس وليس التأثر في مسألة معينة، فإن ذلك أمر يحتاج إلى دقة علمية، ومسألة اقتباس الإخوان لتشكيل برمته من تنظيم آخر يختلف أيديولوجيا، مسألة تحتاج إلى نظر وأدلة.

السادات هو من أعاد الإخوان

وهذه المسألة لا تختلف كثيرا عن الادعاء بأن من أعاد الإخوان إلى الحياة هو السادات رحمه الله، وهو كلام ربما يصح في طرف منه، لكنه لا يصح في كل القضية، فالتيار الإسلامي عاد إلى العمل العام في عهد المرحوم عبد الناصر نفسه، وهو ما صرح به الأستاذ هيكل في حوارات له مع الأستاذ يوسف القعيد، إذ قال إن عبد الناصر بعد نكسة يونيو قال له: لا بد من أن نعيد الناس للدين، فقد أخطأنا بإبعاده.

هل استلهم البنا التنظيم الخاص من الشيوعية؟

والسؤال الأهم: هل لدى الشيوعيين أدبيات قرأها البنا عن تنظيماتهم، وتشكيلاتهم، فاقتبس منها؟ الحقيقة أننا لا نعلم أن البنا اطلع على مثل هذه الأدبيات، رغم ما ورد عنه من اطلاعه على كثير من أدبيات عصره. وبحكم اطلاعي الشديد على تاريخ الإخوان وأدبياتهم، وتاريخ الحركات الإسلامية، قديما وحديثا، فإني أرى أن هذا القول من باب التساهل في البحث العلمي، أو التسرع، وإن كان لهذا الأمر وجه، حيث تتشابه بعض التفاصيل مع بعضها، وهي طبيعية لكل عمل سري، سواء قام به الإسلاميون أو قام به الشيوعيون، أو قام به أي فصيل، فالعمل السري في كل مكان يلتقي في مساحات، ويفترق في أخرى.

فالعمل السري على مدار التاريخ البشري تشترك فيه أدبيات ومواصفات، فهو محكوم بطبيعته البشرية وليست الدينية فقط، يتفق في أمور، ويختلف في أخرى، يتفق في سريته وخفائه، والحرص على كتمان أمره، ويتفق في قلة عدد مجموعاته، من حيث عدد أفراد كل مجموعة، سواء تتكون المجموعة من فردين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل قليلا، ويختلف في طبيعته هل هو هرمي أم عنقودي، وهو أيضا يرتبط بطبيعة وتكوين العمل السري نفسه، كل هذه الأوصاف موجودة منذ عهد الأنبياء جميعا، ونجد نصوصه في القرآن الكريم، منذ سيدنا موسى عليه السلام، إلى أصحاب الكهف، إلى العصر الحديث، فالعمل السري هو عمل بشري بحت، يشترك فيه المسلم وغير المسلم.

من أين اقتبس الإخوان أدبياتهم التنظيمية؟

لقد عرف حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، فقال “إن الإخوان المسلمين: دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”، وقد قال ذلك في رسالة شهيرة للإخوان بعنوان: رسالة المؤتمر الخامس، وقد كُتبت بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الجماعة، أي سنة 1357هـ – 1938م. وذلك قبل تأسيس التنظيم الخاص بعامين.

أما نظام الأسر الإخوانية، فقد بدأ سنة 1943م، وأصدر فيها رسالة بعنوان “الأسر”، ثم ألحقها بلائحة لها، سماها “لائحة النظام التعاوني”، وذلك بعد تعرضه لضغوط من وزارة الوفد التي شكلها بعد حادثة 4 فبراير 1942م، بتعاون مع الإنجليز، وقد طلب منه الاحتلال الضغط على الإخوان، وقد كان هناك نظام آخر معلن قبل “الأسرة”، وهو نظام “الكتائب”، حيث يجتمع عدد كبير نسبيا من الإخوان للقاء التربوي والروحي والتعبدي.

ونظام الكتائب كما حدده البنا في رسالة “المنهج” يبدو كنظام الأسرة قبل تطوره، وظل نظام الكتائب معمولا به بعد ذلك بضوابط مختلفة، وظل يتطور ويعدل، حتى كتب في ذلك الدكتور عبد العزيز كامل مسؤول التربية في عهد حسن البنا رسالة “آداب الأسرة والكتيبة”، وأعيدت طباعتها سنة 1954م.

أما التنظيم الخاص فقد نشأ سنة 1940م، وقد كان لدى حسن البنا قبل هذا التاريخ: الجوالة، والكشافة، كنشاط رياضي بدني يقوي البدن، لكن معظم الأحزاب والهيئات السياسية كانت لديها أجنحة عسكرية، كالوفد، ومصر الفتاة، والملك فاروق نفسه، وغيرهم. ثم تكون عند الإخوان أيضا ثلاثة أجنحة عسكرية، الأول في الجيش وهو ما كان في بدايات تنظيم الضباط الأحرار، والثاني في الشرطة وكان يعرف باسم قسم الوحدات، والثالث تنظيم عسكري يتكون من مدنيين وهو التنظيم الخاص.

هذه النظرة الموجزة لو تأملناها بدقة في تكوين الإخوان المسلمين وتنظيمهم، من حيث التكوين العلمي، والسياسي، والثقافي، والاجتماعي، وغيره، هذه التركيبة ليست جديدة على تاريخ حركات الإصلاح الإسلامي في تاريخنا، بل معظم ما قام به البنا في الإخوان كان مقتبسا من حركات إسلامية سبقته، ولكنه طور بعض تفاصيله بما يناسب الحالة المصرية والواقع الذي تحياه مصر.

تأثر الإخوان بالدعوة السنوسية

وأقرب نموذج نجد أن البنا والإخوان قد تـأثروا به هو الدعوة السنوسية، وهي نسبة إلى مؤسسها محمد بن علي السنوسي الخطابي الإدريسي، الذي تضلع في الفقه على المذهب المالكي كشأن معظم أهل المغرب العربي، ودرس ومارس التصوف فكرا وسلوكا، وجمع مع ذلك كله ممارسة الجهاد ضد المحتلين والغزاة.

فقد أخذ السنوسي من الصوفية طريقة التربية لتخليص النفوس من آثامها، ووضعها على الصراط المستقيم، ولكنه أضاف إلى ذلك أن التربية ليست فقط تربية الأرواح، ولكن تربية العقول بالثقافة، والأجسام بالتربية الرياضية، والعسكرية الخشنة. فهي حركة، ودعوة، وطريقة، تجمع بين: التصوف، والفقه، والعقيدة، وهي في نفس الوقت تشكيل اجتماعي تربوي، على نمط الصوفية، ودعوات الفتوة والجهاد، متحرر من الأخطاء والانحرافات التي وقع فيها بعض الصوفية. ونتج عن ذلك أن أسس السنوسي دولة حكمت مناطق عدة من المغرب العربي، وكتبت عنه وعن دولته وحركته مؤلفات عدة ألفها مسلمون ومستشرقون.

وعن السنوسي أخذ البنا هذه التوليفة التي تعتمد على شمولية الإسلام، ومحاولة تطبيق ذلك، فمن ينظر في تشكيلات الدعوة السنوسية، ومحاضنها التربوية، سيجدها في تنظيم الإخوان كذلك. فحتى التشكيلات، الأسرة، والنقيب، والكتائب، توجد أيضا في الدعوة السنوسية، وأذكار الصباح والمساء التي يرددها الإخوان، والتي كتب فيها حسن البنا رسالة “المأثورات”، هي أيضا من الوظيفة الزروقية، لأحد أقطاب الفقه والتصوف وهو العلامة زروق، وهو ما كانت تتبناه أيضا قبل الإخوان، الدعوة السنوسية.

كما أخذ البنا عن الدعوة السنوسية بعض الدرجات التنظيمية، فقائد السنوسية يطلق عليه المرشد، وهو نفس اللقب الذي اتخذه الإخوان لأكبر قياداتهم تنظيميا، ومن المصطلحات التي اقتبسها البنا للإخوان الشُّعَب، وهي جمع شعبة، وهو ما يطلق على المنطقة أو الحي السكني، والكتائب جمع كتيبة، وكذلك مسؤول الأسرة الإخوانية، وهي مجموعة من الأفراد يكون لها مسؤول، وهذا المسؤول يسمى لدى الإخوان النقيب، وهو معتمد لدى السنوسية كذلك، وهو مقتبس أصلا من القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة، من قوله تعالى “اثني عشر نقيبا”، ومن نقباء الصحابة في بيعتي العقبة، وعن القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي أخذت السنوسية والإخوان بحسب فهمهم معظم أدبياتهم.

كما أن البنا كان لديه طموح لتكوين دولة، أو تصور للدولة، والدعوة السنوسية سبقته في ذلك أيضا، وكان لديها نفس التصور، بل نفذته بالفعل، وأقامت دولة حكمت وبسطت نفوذها على مناطق عدة، من دول مجاورة، بل كان لها أتباع وأنصار في الجانب الغربي من مصر، وقد كُتبت في ذلك عدة كتب عن السنوسية ودولتها، ومن أبرز قادتها المعاصرين المعروفين، المجاهد الليبي المعروف عمر المختار.

الإخوان ليسوا أول إخوان

وكذلك تسمية الإخوان المسلمين، فهي تتفق أيضا مع تسمية السنوسيين، فالسنوسية تعرف بهذا العنوان “الإخوان السنوسية”، وسمى حسن البنا جماعته الإخوان المسلمين، مع اعتبار حادثة لقائه بالمؤسسين الذين سألوه عن اسم كيانهم الجديد، فقال: ألسنا إخوة، ألسنا مسلمين، نحن الإخوان المسلمون، لكن إطلاق مصطلح الإخوان سبقته إليه جماعات أخرى تسمت بهذا الاسم، منها: السنوسية، وكذلك هناك جماعة تأسست في السعودية في بداية حكم ابن سعود، كانت باسم “إخوان من أطاع”، وكان هناك تنظيم له تفاصيل وقصة طويلة تاريخيا سبق تاريخ الإخوان، باسم: الإخوان.

لست أعني بذلك أن الإخوان نسخة مكررة من السنوسية، بل هي نسخة معدلة منها، فالسنوسية ناسبت بلادا أخرى مجاورة لمصر، مثل: ليبيا، والسودان، ولذا لم تنتقل جماعة الإخوان وفكرها إلى السودان وهي مجاورة إلا في سنوات متأخرة بعد وفاة البنا نفسه، بينما انتقلت إلى فلسطين وسوريا في حياة البنا، وذلك سببه في تصوري أن بقايا الدعوة السنوسية كانت لا تزال قائمة في هذه البلدان، وهي أفكار تتفق تماما مع أفكار الإخوان، وكذلك الحال في شبه القارة الهندية، إذ ليس للإخوان فيها تنظيم لأن الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي رحمه الله كانت على نفس الخط، فهم يعتبرون بهذا المنطق إخوانا مسلمين بالهند.

هذه تفاصيل أحيانا تغيب عن نظر وتأمل من يكتب في حدث تاريخي، ينتزعه من سياقه المحلي والإقليمي والدولي، وينتزعه من السياق الذي سبقه تاريخيا، فالعمل البشري وبخاصة منه الديني والسياسي، ليس مقطوعا عن جذوره وتاريخه القريب والبعيد، وهو خطأ يقع فيه كتاب من الإخوان، ومن غير الإخوان عندما يتناولون تاريخ الجماعة، أو بعض تفاصيله.

المصدر : الجزيرة مباشر