تركيا تودع “محمود أفندي”.. من هو “محمود أفندي”؟!

محمود أفندي

فقدت تركيا والعالم الإسلامي عالما من أبرز علماء الطرق الصوفية المؤثرة على الساحة الإسلامية، وهو الشيخ محمود أوسطي عثمان أوغلو الشهير بـ”محمود أفندي” عن عمر ناهز 93 عاما قضاها في خدمة الإسلام وقضايا المسلمين. فقد عمل جاهدا للحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع التركي، متحديًا برفق ولين سياسات التغريب التي فرضها العسكر على الشعب التركي بعد انهيار الدولة العثمانية، حيث عملوا جاهدين على بث قيم ومعتقدات غربية تخالف في مجملها تعاليم الدين الإسلامي مخالفة واضحة وصريحة، بهدف محو الإسلام من صدور وعقول الأجيال الجديدة في تركيا، وتأهيلها لممارسة نمط الحياة الغربية بكل موبقاتها ومحرماتها دون وجل ولا خوف.

وقد تصدى الشيخ محمود أفندي لهذا التغريب بإرادة من فولاذ رغم حداثة سنه آنذاك، ونذر حياته لمنع تغلغله في النفوس من خلال سعيه لإعداد أجيال مسلمة تحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب وتعلم جيدا أوامره ونواهيه، وتدرس كافة علوم القرآن والحديث النبوي الشريف.

كما اهتم الشيخ محمود اهتماما بالغا بتدريس تلاميذه وأتباعه اللغة العربية وعلومها من نحو وبلاغة وصرف بوصفها لغة القرآن التي يجب على كل مسلم تعلمها حتى يستطيع فهم الإسلام فهما صحيحا.

ومحمود أفندي هو قائد أكبر جماعة صوفية عرفتها تركيا خلال القرن العشرين، وهي الجماعة المعروفة باسم “جماعة إسماعيل أغا” نسبة إلى الجامع الذي انطلقت منه في منطقة الفاتح بمدينة إسطنبول، كما تعرف أيضا باسم مؤسسها محمود أفندي وتنسب إليه، تقديرا لما بذله الرجل من جهد، وما تكبده من عناء على مدى سنوات طويلة في سبيل تأسيسها واستمرارها في أداء مهمتها لتحقيق أهدافها.

قصة شراء الشيخ لمسجد إسماعيل أغا في منطقة الفاتح

ولد محمود أفندي عام 1929 في مدينة أوف التابعة لمحافظة طرابزون الواقعة على البحر الأسود لأبوين ملتزمين دينيًّا، مما ساهم في تكوين شخصيته الدينية المحافظة، ثم حفظ القرآن وهو صغير، وتعلم اللغة العربية وفنونها، ودرس علم الكلام والتفسير والفقه وأصوله، والقراءات وعلوم القرآن والحديث، كما برع في تعلم اللغة الفارسية.

حاز إجازة في العلوم النقلية والعقلية وهو في السادسة عشرة من عمره، وبدأ التدريس في بلدته والقرى المحيطة بها، ثم خصص ثلاثة أسابيع سنويا لجولة في المدن التركية لتعليم الناس، ومساعدتهم على حل مشاكل حياتهم اليومية وفق منظور الشريعة الإسلامية.

ترك الشيخ محمود مسقط رأسه واتجه إلى إسطنبول عام 1953، مصطحبا زوجته وهي ابنة خاله التي أنجب منها ثلاثة أبناء ولدين وبنتًا، ليقيم في منطقة الفاتح، بجوار جامع إسماعيل أغا الذي باعته الحكومة آنذاك لأحد التجار بوصفه مستودعًا، ليستخدمه الرجل في تخزين بضاعته من خضراوات ومواشٍ، وهو الأمر الذي أحزن الشيخ كثيرا فاشترى المسجد من الرجل، وكان له صديق مفت يسمى علي حيدر، فطلب منه محمود أفندي إحياء هذا المسجد، لكن علي حيدر رفض ذلك نظرًا لتجريم الدولة لأي فعاليات لها علاقة بالإسلام، وحظرها إقامة أي شعائر دينية، إلى جانب ما كان عليه المكان من إهمال واضح يجعله غير مناسب لإقامة أي شعائر.

توافد المصلين على المسجد والتفكير في فتح مدرسة لتحفيظ القرآن

لكن الشيخ محمود أقنع الشيخ علي حيدر بالبقاء معه والبدء في تنظيف المكان وتطهيره مما علق به من أوساخ وقاذورات، وإعادته إلى سابق عهده، وترك مسألة المصلين والراغبين في تلقي الدروس الدينية إلى الله، وشيئا فشيئا بدأ الناس يتوافدون على المسجد الذي نال إعجابهم واستحسانهم، حتى وصل عدد المصلين به إلى حوالي خمسة عشر مصليا.

وهنا بدأ محمود أفندي التفكير بجدية في فتح مدرسة لتعليم القرآن وعلومه لمختلف الأعمار، ومن أجل ذلك الغرض، قام بزيارة جميع منازل المنطقة ومحالها التجارية وأسواقها، مسلّمًا على الناس ومعرّفًا نفسه بأنه “محمود” وأنه جاء فقط لزيارتهم “حبًّا في الله”، وهو ما جعل قلوب الناس تهوي إليه، ويتعلق به الكثير منهم، فبدؤوا يتوافدون على المسجد لرؤيته وحضور دروسه، أو يرسلون أبناءهم للتعلم وحفظ القرآن على يديه.

وشيئًا فشيئًا أصبح له الكثير من التلاميذ والمريدين، الذين تخرجوا على يديه، الحافظين للقرآن، الدارسين لعلومه، وبدأ يرسلهم إلى العديد من المدن والقرى التركية لتعليم أهلها أمور دينهم، وتعريفهم بما أحل الله لهم، وما نهاهم عنه من المحظورات والمحرمات التي يبيحها العسكر كشرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل لحوم الخنازير، وارتداء الملابس الكاشفة للنساء.

كانت تلك الفترة من أكثر فترات حياة الشيخ محمود نشاطًا حيث استطاع خلالها وضع الأسس المرتكزة على المذهب الحنفي، الذي انطلقت منه جماعته، وضم الكثير من التلاميذ إلى صفوفه التعليمية، ليزداد عدد مريديه وأتباعه ليس في إسطنبول وحدها بل في مختلف ربوع تركيا ومحافظاتها الإحدى والثمانين.

من طرائف محمود أفندي مع تلاميذه

ومن الطرائف في هذه المرحلة أن تلاميذ الشيخ وجدوا صعوبة كبيرة في إيجاد تلاميذ يعلمونهم أو مستمعين لدروسهم، فأرسل بعضهم شاكيا للشيخ، ليرد عليهم قائلا: “كل منكم يبحث عن شجرة في القرية التي هو فيها، ويجلس أمامها ويلقي عليها درسه الذي يريد أن يعلمه للناس، والله سبحانه وتعالى سيتكفل بإيصال صوتكم ودعوتكم إلى الناس”. وبمرور الوقت بدأ الناس يقبلون عليهم، ويستمعون إلى دروسهم، ليتعلموا أمور دينهم ودنياهم، بل أصبحوا حريصين على حضور حلقات الدرس وحفظ القرآن. والآن يفتخر تلاميذ محمود أفندي كلما سمعوا الرئيس أردوغان يتلو آيات من القرآن الكريم في المناسبات العامة والاجتماعات الجماهيرية، وذلك لأن محفّظ الرئيس أردوغان هو من تلاميذ الشيخ محمود أفندي، وهو الشيخ كمال أفندي.

معاناة محمود أفندي على أيدي العلمانيين الجمهوريين

لقد واجه الشيخ محمود خلال مسيرة حياته الكثير من العقبات والمعوقات، وتعرض للاضطهاد والظلم على أيدي العلمانيين من الجمهوريين وأتباعهم، ومن ذلك الحكم عليه بالنفي إلى مدينة أسكي شهير وسط الأناضول، ثم اتهامه بالضلوع في حادث اغتيال مفتي أسكودار عام 1982، إلا أن المحكمة برّأته من تلك التهمة بعد محاكمة استمرت عامين ونصف عام.

لم تتوقف محاولات الجمهوريين التخلص من الشيخ خصوصا مع ذيوع صيته واتساع جماهيره وزيادة عدد محبيه ومريديه، ففي عام 1985 تم اتهامه بتهديد علمانية الدولة المنصوص عليها في الدستور من خلال ما يلقيه على طلابه والمستمعين إليه، لتتم إحالته إلى محكمة أمن الدولة، إلا أن المحكمة حكمت ببراءته.

لم يتوقف العلمانيون عن الكيد للشيخ عند هذا الحد، بل امتدت مؤامراتهم إلى أقاربه وتلاميذه، إذ اغتيل صهره وتلميذه الشيخ خضر علي مراد أوغلو داخل مسجد إسماعيل أغا عام 1998، واغتيل صهره وأكبر طلابه ومعيد دروسه الشيخ بيرام علي أوزتورك أثناء إلقائه محاضرة داخل مسجد إسماعيل أغا عام 2006، كما تعرض الشيخ محمود نفسه لمحاولة اغتيال بإطلاق الرصاص على سيارته عام 2007، ليتم نقله سريعا إلى المستشفى وقد لاحقه المتآمرون هناك في محاولة لإنهاء مهمتهم التي باءت بالفشل، فحاولوا إطلاق الرصاص عليه لكنه لم يصب بأذى.

وتستمر مسيرة الشيخ محمود في تحقيق أهدافها

لقد نجح الشيخ محمود في مسعاه، واستطاع بجهوده الفردية وبمساعدة عدد من علماء المسلمين في تخريج جيل جديد من الأتراك المتمسكين بثوابت دينهم، الحافظين للقرآن، الذين يتولون اليوم بهمة ونشاط مهمة تعليم وتحفيظ مئات الآلاف من التلاميذ القرآن وعلومه لتستمر مسيرة الشيخ في تحقيق أهدافها، وقطف ثمار ما زرعه في القلوب والصدور، إسلامًا نقيًّا صحيحا لا يتغاضى عن ظلم، ولا يقبل المنافقة ولا المداهنة، ولا يسعى لتحقيق مصلحة دنيوية خاصة، ونفوسًا طاهرة نظيفة مفعمة باللين والتقوى لا تغرها الحياة المادية، ولا تستهويها المباهج الذائفة الزائلة.

و يقدرعدد المنتسبين إلى الجماعة اليوم بالملايين، لذا فهي تملك ثقلا كبيرا وتأثيرا عظيما في مجريات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تركيا، وهو الأمر الذي يدركه السياسيون الذين كانوا لا ينقطعون عن زيارة الشيخ وطلب الدعاء لهم بالتوفيق خصوصا في أوقات الأزمات والاستحقاقات الانتخابية.

رحم الله الشيخ محمود أفندي، وجعل ما قدمه للإسلام والأمة الإسلامية في ميزان حسناته، وأثابه المولى عز وجل على كل ما لاقاه من معاناة، وما قدم من تضحيات في سبيل الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع التركي.

المصدر : الجزيرة مباشر