الدين.. الملاذ الآمن عبر العصور

هل يريد الآباء الذين يدافعون عن (المجتمع المثلي) من الناحية السياسية أن يصبح أبناؤهم من المنتمين لهذا المجتمع؟

تتكرر على مسامعنا في الآونة الأخيرة شكاوى تتعلق بابتعاد الشباب عن الدين. وهذا مقلق للغاية للآباء الذين يريدون أن يروا أبناءهم متدينين، ومقلق كذلك للأجيال التي تولي أهمية كبيرة للدين.

يريد كل جيل أن يكون الجيل التالي له مثله أو حتى أفضل منه، وهذا هو حال البشرية منذ البداية. وينبغي ألا نستهين بعدد أولئك الذين يريدون لأبنائهم أن ينشأوا نشأة دينية وأن يتبعوا قواعد الدين الحنيف، حتى وإن كانت صلتهم هم أنفسهم بالدين غير قوية، إذ يعتقد المرء أن التدين يوفر الحماية للأبناء ويقيهم من العادات السيئة.

إنها ليست فكرة جائرة على الإطلاق، إذ يتم التحقق من صحتها بصفة مستمرة من خلال التجربة. فأنا أعرف بروفيسورًا علمانيًا إلى أقصى درجة، ويكاد يكون من الملحدين، وقال لي ذات مرة إنه يريد إرسال أبنائه إلى المدارس التي تقدّم تعليمًا دينيًا، خاصة بسبب هذه المخاوف، دُهشت تمامًا في البداية. لكننا نفهم بشكل أفضل اليوم مدى شيوع وحقيقية أن يرى الوالدان الدين ملاذًا آمنًا لسلامة أبنائهم وحمايتهم من مخاوف المستقبل.

في الواقع، تمكنت المدارس التابعة لمنظمة “غولن” الإرهابية، من رؤية هذا الشعور، الذي يشعر به كثير من الناس، وإيجاد طريقة جيدة جدًا لتجنيد أبناء الشريحة العلمانية. ونتيجة لهذا الأمر، فإن الاستغلال المأساوي لهذا الشعور قد ألحق ضررًا كبيرًا به أيضًا. وعندما تشكلت لدى أولياء الأمور، الذين يرغبون في أن يكون أبناؤهم أكثر تدينًا منهم، فكرة أن مثل هذه التدابير قد تنطوي على مخاطر أكبر هذه المرة، فإن ذلك مهّد الطريق لنمط حياة أكثر علمانية، بل أكثر توجها نحو التركيز على الملذات لدى الأجيال القادمة.

المجتمع المثلي

والسؤال المطروح هنا، هل يريد الآباء الذين يدافعون عن مجتمع الميم (المجتمع المثلي) من الناحية السياسية، أن يصبح أبناؤهم من المنتمين لهذا المجتمع؟

من الممكن رؤية انعكاس مختلف لهذه العلاقة بين الوالدين والأبناء، لا سيما في الموقف من مجتمع الميم. واليوم، جزء كبير من السياسيين الكبار، الذين يدافعون بشدة عن الحرية والتسامح تجاه مجتمع الميم، لا يريدون أن يكون أبناؤهم أشخاصًا ينتمون لذلك المجتمع، بل يعتقدون أن احتمالية حدوث هذا الأمر يمثل كابوسًا بالنسبة لهم. ويمكن الاطلاع على نتائج عدد من الدراسات الاجتماعية حول هذا الموضوع. ويمكنكم أيضًا أن تسألوا كل السياسيين الذين يتشدقون بالحديث عن الخطاب السياسي لهذه القضية. هل يريدون أن يكون أبناؤهم من المجتمع المثلي؟ هل يريدون أن يتسكع أبناؤهم في هذه الأوساط، ويصادفوهم يومًا ما بتفضيل جنسي مختلف؟

ويُعد هذا السؤال في الواقع اختبارًا جيدًا يوضح مدى صدق أولئك الذين لديهم رأي في سياسة مجتمع الميم. دعونا نضع جانبًا عدم صدق نيتهم في تمهيد شتى الطرق للوضع الذي لا يريدون فيه أبدًا رؤية أبنائهم. وقد تتسبب هذه اللامبالاة وعدم الاتساق بشأن الأجيال في انتشار الشعور بانعدام المعنى لدى الأجيال الجديدة حتمًا.

مواقف الأجيال الجديدة من الدين

إن الشائعات حول ما إذا كان الشباب قد ابتعدوا بالفعل عن الدين أو ما إذا كانوا قد طوروا موقفًا دينيًا مختلفًا ليست مؤكدة، بل مختلفة إلى حد ما. وفي الواقع، لا توجد دراسات اجتماعية حول هذا الموضوع بمقاييس جيدة أو معايير سليمة وكافية. ويمكننا حتى أن نجد دراسات تُظهر العكس تمامًا. وفي دراسة أعدتها شركة البحوث التركية “كوندا”، ثمة بيانات تُظهر أن الأجيال الجديدة في الواقع أكثر تدينًا من والديهم.

ومع ذلك، فهناك حالات كافية لتكون موضوع شكاوى. وهناك أمثلة كافية لإثارة الانطباع بأن الشباب إما ابتعدوا تمامًا عن الدين، أو أنهم منغمسون في مذاهب دينية كالربوبية. وفي الواقع، تُشهد أحداث كافية لحدوث مثل هذه الأمثلة، إن وجدت. ومن بين أهم الأسباب لحدوثها، عدم موثوقية الأشخاص ذوي المظهر الديني أو الملتزمين.

التمثيل السيئ للدين هو دائمًا أكبر عدو للدين

نادرًا ما يتحمل الناس عمومًا مشقة الوصول إلى حقيقة الأمر عندما يرون تمثيلًا سيئًا. ومن الممكن أن تكون الانطباعات والتأثيرات الأولى، كافية لتكوين رأي ما.

وقد حدثت الانتفاضة الكبرى الأولى للشباب الشيعي، الذين نشأوا في المدارس الحسينية على أمل السيطرة على كل العراق باسم المذهب الشيعي، ضد ملالي الشيعة قبل عامين. وقد ثار هؤلاء الشباب، الذين تربوا على خدمة ولاية الفقيه بفدائية غير مشروطة، على استغلال رجال الدين الشيعة لثروة العراق باسم المذهب الشيعي ولصالح إيران، رافعين شعار “الوطن أولًا”. وهذا الاعتراض يعني أيضًا أن هؤلاء الشباب يريدون حكومة خالية من تأثير الدين على العراق. ولا شك أنه لم يكن من الضروري أن يكون للمذهب الشيعي مثل هذا التمثيل الأجنبي في البلاد.

طرق نقاشات رجال الدين التي تشبه السيطرة على السوق تدفع الشباب بعيدًا عن الدين أيضًا

عندما ننظر إلى الوضع الحالي للنقاشات في تركيا اليوم، لا سيما بين بعض علماء الدين وبعض المنتسبين للطرق الدينية، نرى أن لهذه النقاشات أيضًا جانبًا يصد الشباب عن الدين بدلاً من أن يجذبهم إليه.

هل سيكون هؤلاء قادرين على تحليل النزعة الغريزية العدوانية لبعض علماء الدين الذين يحاولون التشهير بعالم دين آخر كرس حياته لشرح تعاليم القرآن، والسنة النبوية، والإسلام الصحيح، وكان له تأثير إيجابي للغاية على الشباب، إما بسبب فكرة طرحها او كلمة قالها إثر زلة لسان؟ لماذا لا يعطون الأولوية لنقل رسالة الإسلام التي يؤمنون بها حقًا؟

ما هو ذلك الحب، وما هي تلك الإثارة التي يشعرون بها حيال عدم إظهارهم لاجتهاد ومثابرة عالم دين، كرس حياته للخدمة في هذا المجال، وبذل جهودًا حثيثة من أجل إخراج الكثير من الشباب من مستنقع الربوبية أو الإلحاد أو العلمانية، أمام أعداء الإسلام الحقيقيين؟

هل تعتقدون أنه بإمكانكم ترسيخ إجاباتكم الخاصة بدلاً من الشكوك، والترهات، والأسئلة، التي ستشكلونها في أذهان الآلاف، بل عشرات الآلاف من الشباب الذين تأثروا بشكل إيجابي بالشخص الذي قمتم بالتشهير به وإقصائه بسبب كلمة قالها أو فكرة طرحها؟

علينا أن نعي تمامًا أن الشعور بانعدام المعنى لدى الشباب، بل لدى البشر من مختلف الفئات العمرية، ما هو إلا ردة فعل عكسية للغيرة المفرطة؟ ينبغي أن نضع هذا الأمر أيضًا نصب أعيننا.

إذَن، ما ماهية هذا الصراع؟ هل هو صراع للاستحواذ على السوق؟ وما ماهية هذا السوق؟ هل هو سوق سلعته الدين؟

المصدر : الجزيرة مباشر