وثيقة لم تنشر تحكي تفاصيل تنظيم 65 والعنف

الصفحة الأولى من الوثيقة التي جاءت في عشر صفحات

لا تزال هناك مراحل تاريخية من مسيرة جماعة الإخوان لم تلق تغطية بحثية أو توثيقية بما يكفي، أو بما يعطي صورة صحيحة أو أقرب إلى الصحة، وذلك راجع لعدة أسباب ليس مجال التفصيل فيها الآن، وحينما كنت أرتب مكتبة شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي، كانت هناك أوراق قديمة تتعلق بتنظيم الإخوان وتاريخه، ولما سألته: ماذا نفعل بها؟ قال: تخلص منها، فلا حاجة لي بها! فاستأذنته في الاحتفاظ بها، فأذن.

وبينما كنت أقلب هذه الأوراق وجدت بينها رسالة في غاية الأهمية، تعد وثيقة مهمة، تتعلق بتنظيم 1965، الذي أعدم بسببه الأستاذ سيد قطب ورفاقه، وتم التعذيب والتنكيل الشديد بمن سجنوا وقتها، ثم بعد نكسة 67 واتت أحد أصدقاء القرضاوي من الإخوان فرصة أن يكتب إليه رسالة، فكتب هو ومن معه رسالة خاصة إليه، ولخوفهم من أن تقع الرسالة في يد الأمن، كتبوها قبل إرسالها خارج السجن بالآلة الكاتبة، حتى لا يعرف صاحبها.

قلبت الرسالة، فوجدت فيها تفاصيل عن تنظيم 65، وقصته، وموقف سيد قطب منه، وموقف الهضيبي مرشد الجماعة، وكيف علم به الأمن، والحديث عن إخوان جندهم الأمن للعمل معه، والتجسس على إخوانهم في السجون وخارج السجون. وميزة هذه الرسالة أن بها تفاصيل بالأسماء والأحداث، وتفاصيل أخرى تفيد في دراسة الإخوان سابقا وحاليا. ولطول الرسالة وضعتها كاملة، للأمانة العلمية، ولم أضف إليها سوى عناوين توضحها، ورغم ركاكة بعض عبارات الكاتب، وأخطائه اللغوية والإملائية، تركت معظم ما فيها كما هو، وها هي الرسالة:

أعداد مجملة عن الإخوان في السجن

“أخي: أكتب إليك من خلف الأسوار التي مضى علينا ونحن خلفها أكثر من أربعين شهرا تقريبا، أخي، وحضر إلي أخي، وأعلمت باتصالك به وسؤالك عني، وأسعدني ذلك كثيرا، وآليت أن أكتب لك. أخي: معي هنا شباب طيب كريم خاض المحنة حتى الآن نظيفا طاهرا، ونحن حتى الآن حوالي 586 معتقلا من الإخوان، وحوالي 60 سجينا من القناطر، وحوالي 715 سجينا في ليمان طره، من الأحكام الجديدة 65.

وطبعا ما زال في سجن قنا حوالي 50 سجينا من أحكام 54، وقبل أن أتوه في ما أحب أن أرويه لك، أبلغك حب وتحيات وأطيب تمنيات الأخوة، التي لا حدود لها من الإخوة الأحبة محمد طه هداية، علي حتحوت، برهامي حشيش، جمال عثمان، محمد عامر عوض، وهم بخير والحمد لله، ثابتون على الحق، راضون، بل سعداء بقضاء الله وقدره، وقد سرهم كثيرا أن يعرفوا أنني سيمكنني الكتابة إليك، وإيصال تحياتهم وحبهم ودعائهم لك.

ملخص لكيف تأسس تنظيم 65 وتخطيطه للعنف

أخي طبعا لعلك علمت بالكثير مما حدث لنا، ولكني أحب أن ألخص لك، وأستعرض معك الفترة الماضية، طبعا تعلم أن أفرادا كانوا يقومون بنشاط في الدعوة إلى الإسلام، وفي التذكير، وكان في ذلك دور طيب نرجو أن يقبله الله، وتطور الأمر، وبدأوا يقومون بعملية تجميع وتنظيم على مستوى القطر، وكان ذلك منافيا لتعليمات الأستاذ المرشد، وحاولنا نصحهم ما استطعنا، ولكن للأسف لم يستمعوا للنصيحة، ولا حتى لتعليمات الأستاذ المرشد.

ولعل عذر مجدي في ذلك أن من كانوا معه أفهموه أن المرشد موافق، ولكنه لا يستطيع أن يقول لكل من يذهب إليه ويستفسر منه إنه يعلم بأمر التنظيم وإنه موافق عليه، ولذلك استمر في طريقه دون أن يتوقف، وتطور الأمر أكثر فأكثر، وتحولوا إلى التفكير في القيام بأعمال العنف، وكان لـ (…)[1] في ذلك دور، وحمدت الله أن علمت بالأمر في ذلك الوقت واستطعت أن أوقف الصلة التي كانت بين مجدي والإخوان في الخارج عن طريق (…)، حيث أبلغناهم أن الأستاذ المرشد يرفض هذا الاتجاه تماما، وأن التنظيم ليس نابعا من قيادة الجماعة، ولكنه مجموعة من الشباب المتحمس المندفع، وأن هذا العمل نتيجة تفكيرهم الفردي، وأنهم مخالفون لأوامر الأستاذ.

تنظيم مرصود من أجهزة الأمن

واستمر التنظيم ورفضوا أن يحلوا أنفسهم، واستمروا في محاولة ضم أفراد لهم حتى من غير الإخوان، وبدأت تصرفاتهم وتحركاتهم تصبح واضحة مكشوفة، وكنت أخطر مجدي بذلك بين الحين والآخر، فكان يذكر حينا أن هناك نشاطا روحيا وأن له به صلة، وكان غيري يفعل ذلك مع أفراد آخرين ممن كانت لهم صلة بالتنظيم لدرجة أنني قلت لمجدي إنني أكاد أوقن بأن التنظيم تعلم به أجهزة الدولة، وأنهم يتتبعونه وينتظرون اللحظة المناسبة ليضربوا الجماعة ضربة قاضية قاصمة، ولا يجوز له أو لغيره أن يتصرف تصرفا تدفع الجماعة كلها ثمنه، ويتحمل أفراد الجماعة جميعا مسؤوليته، وإن هذا خروج على طاعة قائد الجماعة.

موقف سيد قطب من التنظيم والعنف

المهم لم يذعنوا واستمروا، وشاء الله أن يخرج الأستاذ سيد (قطب) رحمة الله عليه من السجن، واتصلوا به، وطلبوا منه أن يتولى رعايتهم والإشراف على تنظيمهم، وعلى تربية أفرادهم، وأعطوه فكرة عن أنهم منتشرون بين الإخوان على مستوى القطر وأن عددهم حوالي 300 فرد، وأن عندهم أسلحة، وبعض المتفجرات، وأنهم في سبيلهم للحصول على كميات أخرى من السلاح، وذلك للقيام بعمل عنيف لتغيير الحكم، وكان ذلك في مارس 65.

حيلة سيد قطب لإبعادهم عن العنف

وذهب الأستاذ سيد رحمه الله إلى الأستاذ المرشد وأخبره، فطلب منه الأستاذ ألا يوافق، وأن يطلب منهم الانتهاء عن هذه الأفكار، وأن يذوبوا في وسط أفراد الجماعة، وأن يحلوا تنظيمهم، وشاء الله أن يرى الأستاذ سيد رحمة الله عليه رأيا آخر غير رأي الأستاذ، ولعله ظن أنهم ما داموا قاموا بكل هذا فليس من السهولة أن يطلب منهم ذلك فينتهوا فورا، ووجد أنهم ربما رفضوا أو أشعروه بالموافقة بينما يظلون في طريقهم، وفي ذلك خطورة عليهم وعلى الجماعة، فآثر أن يسير معهم وفعلا وافق، وابتدأ معهم بأن طلب منهم أن يتوقفوا عن التفكير في أي عمل عنيف، وأن الاعتقاد أن تحقيق الدولة المسلمة أمر يسير وقريب، وأنه يجب أن ينتهوا عن أي أعمال أو تدريبات على الأسلحة لأنه سيضع لهم برنامج تربوي.

خطة المباحث لتوجيه ضربة للإخوان

وشاء الله أن يتم اعتقالنا بعد ذلك بشهور قليلة، واعتقادي أنه كان هناك عيون لأجهزة الأمن داخل التنظيم، وأعتقد أن اكتشاف التنظيم تم رغم أنف الدولة، وأنهم كانوا الجهاز الذي له (صلة وعين داخل التنظيم) يفضل أن ينتظر حتى يتورط التنظيم في بعض التصرفات العنيفة، ثم يقبضوا علينا، فإن ذلك كان يعطيهم فرصة أكبر وكاملة لسحقنا تماما، وأن تتم عمليات قتل بالجملة لنا وشاء الله غير ذلك.

وقد علمت من مجدي في السجن الحربي أنه فعلا في الشهور الأخيرة قبل الاعتقالات كانت فيه محاولات كثيرة من بعض الأفراد داخل التنظيم لإقناعهم ببعض عمليات النسف والتدمير، ولكنهم عارضوها ورفضوها. على كل حال هذا ما أعتقده، وعندي اقتناع كامل به، وتوجد قرائن كثيرة على صحته، وإن كان ليس هذا مجال سردها.

اعتقال الآلاف وتعذيبهم وتعرية النساء

وقد قامت الدولة باعتقال ما يزيد على 30-35 ألف فرد من الإخوان ومن له صلة بهم، حتى نساء الإخوان، اعتقل منهن عدد يربو على المائتين تقريبا وفيهم من عذب عذابا أليما لم يعذبه كثير من الإخوة الرجال، وحلقت شعورهن، وعريت أجسادهن، وأرغموا بعضهن على البقاء عاريات أمام عساكر الحربي ومخبري المباحث الجنائية العسكرية وضباطها، عندما رفض أزواجهن الاعتراف.

وطبعا عندما تكشف أن هناك تنظيما اكتشفته المباحث العسكرية تضايقت المباحث العامة، وأرادت أن تسبق في الكشف عن خباياه فأصبحت تنافس المباحث العسكرية في عمليات التعذيب والحصول على اعترافات كاذبة، حتى تنقذ كرامتها على حساب آدمية وكرامة أجساد الإخوان، فأصبحت عمليات التعذيب تمارس بالجملة في معتقل القلعة ومعتقل أبو زعبل، وفي ديوان المباحث العامة بواسطة المباحث العامة، وفي السجن الحربي وفي مقر الشرطة العسكرية بعابدين بواسطة المباحث العسكرية، وفي الحقيقة كانت هذه المحنة نوعا جديدا علينا، قاسينا فيها أضعاف ما قاسينا في 48 وفي 54، أنواع التعذيب البدني والنفسي وكميته واستمراره وتواصله، شيء رهيب.

من ماتوا تحت التعذيب ودور أسرة محيي الدين

وطبعا استشهد في هذه التحقيقات ما يفوق الثلاثين فردا، أذكر منهم الإخوة: بدر القصبي، أحمد شعلان، زكريا المشتول، عبد الحميد البرديني، وهم من أول من استشهدوا على يد المباحث العامة وجمعيهم كانوا قد أمضوا عشر سنوات في السجن، ولم يجاوز ما أمضوه في الحرية قبل الاعتقالات أكثر من سبعة ثمانية أشهر إلا بدر القصبي وكان قد خرج قبل الاعتقال بما يزيد على سنتين تقريبا.

ثم الإخوة: محمد عواد مدرس (أول اعتقال)، وأحمد منيب أمين مكتبة جامعة أسيوط، حامد البعل مدرس، إسماعيل الفيومي شاويش في الحرس الجمهوري، رفعت بكر ابن أخت الأستاذ سيد قطب رحمه الله، سيد جردين ناظر مدرسة ومات بعد التعذيب والتحقيقات بهبوط مفاجئ في القلب، والأخ عبد السلام القرش مدرس، انفجار في المخ، أبو السعود كانون مدرس، والشيخ حامد شريت وأصيب بالعمى من الضرب والجهد وسوء التغذية، علي سعود مدرس ومات بإهمال العلاج أثناء عملية زائدة دودية في مستشفى ليمان طره، أخ آخر لا أذكر اسمه مات نتيجة توقف الكليتين عن العمل بعد ضربه بالحذاء الميري في الحوض، الأخ إبراهيم عبد الستار الأسرج -إسكندرية ملاحظ في شركة غزل ومات بعد شلل كامل على إثر شتيمة أحد الضباط، والأخ الدكتور محمود عز الدين عاص مدرس في جامعة أسيوط، وآخرين رحمه الله جميعا وجمعنا بهم في الجنة إن شاء الله. (من الذين ماتوا من التعذيب في الحربي الأخ محمد علي عبد الله مدرس من كفر شكر، أوصت عليه عائلة محيي الدين فعذب بلا سبب حتى مات).

استمرار التعذيب بعد التحقيقات

وانتهت فترة التحقيقات بكل ما فيها من تعذيب وتفليق، وكي بالنار والكهرباء، وإغراق في البكابورتات، وبيات في المياه داخل زنزانة، وضرب شوم وكرابيج، ونتج عن كل ذلك أن عرفوا معظم أو كل أخبار وأسرار التنظيم، بل واضطروهم إلى أن يعترفوا بأشياء أكثر من الحقيقة حتى تكون مكافأتهم من جمال عبد الناصر سخية، وكنا نظن أن الأمر سينتهي بعد ذلك، وتستمر الاعتقالات عدة أشهر قليلة ثم يفرج عنا، كما حدث في سنة 54، ونقضي الفترة الباقية لنا في حياة عادية داخل الحربي، أو أي معتقل آخر.

ولكنا فوجئنا بأنهم يستخدمون معنا أساليب العلم الحديث في غسيل المخ، الإرهاق المتلف، والتجويع والإذلال، فمن يوم 25/1/1966 بدأت طوابير الجري تبدأ من السادسة والنصف أو السابعة على  الأكثر في السجن الحربي ما لا يقل عن 5-6 ساعات يوميا جريا، مع الضرب بالكرباج، باليد، بالعصا، بالقلم، الزحف على البطن على الركب، ثم الجوع المهين المذل، لدرجة أن كان بعضنا يضطر إلى أن تسول كسرة الخبر وبقايا الجبن من مائدة العساكر بالسجن، فيمنع ويضرب أحيانا، وترمى إليه بعد أن يضرب أحيانا أخرى، وكان بعضنا يضطر إلى سرقة الطعام من المخزن، وطبعا هو طعامنا سرقه العساكر، فجعنا، فاضطررنا إلى سرقته.

هل تتصور خمس ساعات جريا معناه إيه؟ وخاصة من حولهم العساكر وفي أيديهم الكرابيج يضربون بها بسبب وبدون سبب، يضربون بها إذا رأوك تتكلم مع جارك ويضربون إذا اختلت خطواتك مع خطوة جارك ويضربون إذا سقطت مغمى عليك من الإرهاق حتى تفيق وتعاود الجري، ويضربون بها لمجرد أنهم يريدون أن يضربوا، هل تتصور أناسا في هذه الظروف، جوع وخوف وقلق، وإيذاء بدني وإذلال نفسي وإرهاق، وجري ما لا يقل عن 50 كيلو يوميا، أنا مثلا نقص وزني 50 كيلو أو أكثر دون مبالغة في خلال الفترة من 22 أغسطس حتى مايو 66، اعتقلت وأنا وزني 116 كجم، ووصلت أبو زعبل حوالي 65 كجم، كنت أصبحت أرفع من يوسف ندا، هل تتصور إلى متى استمرت هذه الطوابير، حتى 5 يونيه 67، أي حوالي سنة ونصف متواصلة.

قصة الأسر القرآنية

المهم رأت إدارة الحربي في 15 مايو 66 حيث تبقى فيها فقط الإخوان المقدمون إلى المحاكمة، سواء بتهمة التنظيم المسلح، أو بتهمة إحياء جماعة الإخوان، وقد أدخلوا فيها كل من أثبتت التحقيقات أنه كان يدفع تبرعات أو يجمعها أو يوزعها على أسر المسجونين، أو الذين ثبت من التحقيقات أنهم كانوا يلتقون سويا، حيث أسموهم: الأسر القرآنية، وكانت المجموعة تذهب إلى المحاكمة وتعود من المحاكمة لتكمل اليوم جريا، حيث ينتهي الجري قبل المغرب بحوالي ساعة أو على مزاج الشاويش، يتخللها حوالي نصف ساعة للإفطار وأخرى للغداء.

برامج غسيل المخ

ثم ابتدأت برامج توعية سياسية وفقهية في أواخر سنة 66 حيث أحضروا الشيخ الدكتور فتح الله بدران (عم شمس بدران)، والدكتور محمد وصفي أستاذ علم نفس واجتماع، وعقيل مظهر ضابط جيش سابق ومدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة، وحتى في أيام التوعية كانوا يستمعون للمحاضرة وقبلها طابور وبعدها طابور كالعادة، تماما، ويا ويلهم لو ناقش أحدهم المحاضر، أو عارض كلامه، طبعا لا بد من تعليقه أي: ضربه علقة سمينة بالكرابيج، وهو مقيد اليدين والرجلين ومعلق في الهواء على بار حديد، وطبعا نتج عن ذلك بعض المواقف الضعيفة لقلة من الإخوان، وبعض المظاهر التي فيها شيء من إعطاء الدنية، ولكن والحق يقال إن المجموعة عموما كانت مشرفة للغاية ربما أكثر من المحن السابقة.

تجنيد إخوان للتجسس على المعتقلين

ولعل أحد أسباب ذلك أن نسبة كبيرة منهم من الشباب المملوء بالعاطفة والحماس، الذي تملأ نفسه ومخيلته صور البطولة في عصر النبوة، وصدر الإسلام، وزاد ضغط إدارة السجن الحربي عليهم، وحاولوا استغلال الإخوة الذين بدأت تبدر منهم بوادر الضعف، وبدأوا يستعدون لإثارة الشكوك فيما بينهم، والعمل على إيجاد جواسيس من بعضهم على بعض، ومحاولة عمل اختبارات لهم في المحاضرات، وبدأ الإخوان تتصارع بينهم الآراء عن الموقف الأمثل، وماذا يفعلون، ولكن الله أنقذهم من كل ذلك فوقع العدوان، فألغيت البرامج، وتم ترحيلهم يومي 16، 17 يونيه إلى ليمان طره لمن حكم عليه بأكثر من عشر سنوات، وإلى القناطر لمن حكمه عشر سنوات فأقل.

وفي آخر يناير 68 صدر قرار بأن تطبق عليهم اللوائح العادية، أي يسمح لهم بالزيارات، وبكتابة الخطابات، وطبعا كما هو متوقع، مع استمرار الإرهاب وطول المدة، تبدأ بعض الانهيارات النفسية، وفي ذات الوقت يقابلها من الناحية المضادة مزيد من التشدد، وطبعا تبدأ المباحث في استغلال ذلك ومحاولة الدس بينهم، وأن تضرب بعضهم ببعض.

وقد سمعنا منذ أيام قليلة أنه تم ترحيل 16 فردا من سجن القناطر، و22 فردا من ليمان طره إلى سجن قنا على أنهم من المشاغبين وقادة الفكر فيهم، والأكثر تشددا، وطبعا هي عملية نفسية فقط، بمعنى أنهم رحلوا بعض التعبانين ليزدادوا تعبا ويكون في ذلك مزيد من مضايقة زملائهم، وتركوا بعض المشاغبين لعله مجرد ترك لهم في مكانهم، وذلك طبعا أريح من قنا، على الأقل بالنسبة لإمكانية اتصالهم بأهلهم، لعل ذلك يجعلهم يتخذون خطا جديدا يجعل الإدارة ترضى عنهم، وأنا أتوقع إن شاء الله أن في عملية الترحيل خيرا كبيرا، حيث سيلقون إخوانهم الكبار أحكام 54 في سجن قنا، وسيكون في ذلك الخير لهؤلاء الشباب من ناحية صقلهم وتعميق وتأصيل مفهوم الإسلام في نفوسهم إن شاء الله، وصدق الله تبارك وتعالى حين يقول: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}.

تقسيم الإخوان حسب الأحكام

هذا بالنسبة للأحكام، وبالنسبة للباقي فقد تجمعنا في معتقلي أبوزعبل وطره، وكنا في مايو 66 قد تناقص عدد المعتقلين إلى حوالي 3800 معتقل، 200 في طره وهم الذين لم يسبق اعتقالهم، والذين سبق اعتقالهم، والذين حصلوا على أحكام بالبراءة في 54، أما في أبوزعبل فأولا الذين دخلوا التحقيقات سواء كانوا من فئة الذين لم يسبق اعتقالهم، أو سبق. ثم الذين صدر الحكم عليهم في 54 بإيقاف التنفيذ، أو بأحكام السجن والأشغال هؤلاء ثلاث فئات أحكام 5 سنوات – 10 سنوات، وأكثر من ذلك أي مؤبد، وهم الذين خرجوا بعفو صحي بعد أن أيدوا نظام الحكم وتورطوا (معظمهم) في أعمال التجسس على إخوانهم أيام السجن.

وبعضهم ظل بينه وبين المباحث تعامل، وتعامل بعد خروجه، وكنت أنا في معتقل أبوز عبل، وكان معي ممن نعرف سيد سنتيت وحسن طه الحضفيري ويحيى عثمان (كان غير مشرف)، ومحمد شرف، ثم لحق بنا محمد طه هداية بعد انتهاء محاكمته وصدور الحكم عليه بسنة مع إيقاف التنفيذ، وهو صورة طيبة ومشرفة من الشباب النظيف الجاد المتحمس لدينه عن فهم وعقل، وحامد صفرا طه وهو صورة للشاب الصغير النزق المغرور الذي ليس عنده أصالة فكرية، وكان غير مشرف.

ضابط كان على صلة بالإخوان نفذ فيهم مذبحة 57

وفي الحقيقة يا أخي قاسينا من متاعب كثيرة في هذه الأيام، فقد أحضروا عبد العال سلومه الضابط الذي سبق أن دبر مقتل الإخوان المسجونين (21) أخا في يونيه 57 في ليمان طره، والذي كانت له اليد الطولى في إيذاء الإخوان داخل السجون وتفتيشهم وإثارة الفتنة والوقيعة بينهم، وإثارة الخلافات الفكرية والمناقشات والاختلافات والخلافات، مستغلا في ذلك صلة سابقة بالإخوان، وبعض أفراد الإخوان كان له بهم صلة قديمة.

المهم جاء هذا الرجل واستعان ببعض أفراد الأحكام المؤيدين، وبدأت عملية تجسس وإرهاب، وموجة من إشعار الجميع أنهم تحت رقابة، وأن الإفراجات قريبة، ولكن لمن يظهر مفاصلة للجماعة وتبرؤا منها، وتأييده للحكومة، ثم بدأت مرحلة محاضرات، وللأسف أعدها أفراد الإخوان (أصحاب) الأحكام الذين كانوا من خيرة شباب الدعاة، ثم تحللوا في السجون، وكانت المحاضرات سبابا وتهجما وتجريحا للجماعة وقياداتها، والشخصيات الكبيرة فيها، وتشويها لتاريخ الجماعة، وكانت فترة قاسية أن نضطر للاستماع، وأن نصمت فلا نستطيع دفاعا.

تأييد عدد من الإخوان لعبد الناصر في السجن

بل يبدأ البعض في محاولة إظهار التأييد الكامل لهذا اللغو والافتراء، بل ويزيد البعض فيتطوع بإعطاء الدنية من نفسه، وتهتز النفوس، ويضطرب الإيمان في القلوب، ويعمل إبليس عمله، ويستمر هذا حوالي 5 شهور، تتوقف فيها الإفراجات، وتعود العقول للعمل، وتعلم أن كل شيء بقدر، وأن الأمر بيد الله، فتهدأ، ويعاودنا شيء من الطمأنينة، والقائد يحيك المؤامرات والدسائس، وينشر الرعب والإرهاب.

ويشاء الله أن تأتي النكسة، فترتفع رؤوسنا، وتتردد كلمة العود إلى الله، وإلى الدين، على ألسنة جمال عبد الناصر ووزرائه والكتاب والأدباء والمفكرين، وتأتي قضية شمس بدران وما فيها من المخازي، وكما لعلك قرأت يقول أحد الضباط إن الذي حدث لمصر عقاب من الله لما فعلته الدولة بالإخوان المسلمين، وتخرج دفعات من الإخوان، وبحمد الله النسبة الغالبة بخير، ثابتة على دينها، وفهمها، الذين خرجوا والذين ما زالوا معتقلين، نحن الآن 586 معتقلا منا حوالي 115 أمضوا ثلاث سنوات في السجن ثم خرجوا من السجن إلى المعتقل كزملائهم الذين كان قد حكم عليهم بسنة وسنتين، وآخر دفعة كانت 306 يوم 7/10/1968م،

عائلتا الهضيبي وقطب في السجن

ومعنا الأستاذ الهضيبي، وأولاده الثلاثة، مأمون المستشار، وكان محكوما عليه بالسجن سنة، وإسماعيل المحامي وأمضى ثلاث سنوات في السجن، وأسامة أكبر أبنائه المهندس، وهو معتقل فقط، ومعنا زوج ابنته الكبرى الأستاذ أحمد ثابت، وابن عمه وزوج شقيقته وهو ليس من الإخوان، وابنه، واثنان آخران من عائلة الهضيبي، وحوالي ستة من أصهارهم وأقاربهم.

ومعنا الأستاذ محمد قطب، وابنا أخته، وطبعا لعلك علمت أن زوجة الأستاذ الهضيبي وبناته الثلاث كن معتقلات في أول الاعتقال، وكذا شقيقة الأستاذ صلاح شادي، والأخت أمينة قطب، وأن حوالي 15 سيدة من الأخوات ولدن في المعتقل حيث كن حوامل.

أخي الحبيب، ونحن بخير ونرجو فضل الله، وننتظر نصره، ونحتسب ما نلقى لله تبارك وتعالى، ونرجو أن يطهرنا بهذه الأيام، ويرفع درجاتنا، ويعزنا بعز دعوتنا، ويرفع راية الإسلام، وأن يتوفانا مسلمين.

تجنيد إخوان سابقين للتجسس على إخوان الخارج

أخي الحبيب، وندعو لكم ونرجو أن تكونوا على العهد، ذاكرين، متذكرين، مذكرين، هذا وقد علمنا أن المباحث سمحت لبعض الأفراد بالسفر إلى الخارج ممن كانوا في الإخوان، ومن واقع الأسماء التي وصلتنا نحس أن وراء ذلك عملية تجسس عليكم، فإن الأسماء التي وصلتنا حولها شبهات، بل يكاد يكون يقينا أنها تتعاون مع المباحث، ولذلك نرجو أن تكون القاعدة عندكم في الحذر الشديد، إلى أن يثبت غير ذلك، وخاصة إذا كان من أصحاب الأحكام القديمة”.

انتهت الرسالة، ولكن مضمونها، وما ورد فيها يحتاج إلى تناول، وتحليل، فلا تخلو فقرة منها من معلومة مهمة، أو موقف يحتاج إلى تحليل، وضمه إلى مواقف أخرى، تتضح بها أمور غامضة عن هذه المرحلة، ولكن نكتفي هنا بذكر الوثيقة، وما ورد فيها كاملة، دون شرح، أو تحليل، أو تعليل.

—————-

[1] حذفت اسم الشخص المذكور بين الأقواس، لأنه حي إلى الآن، وربما أضر به ذكر اسمه، في أمر ملتبس كهذا، فليس الهدف من نشر الوثيقة إلحاق الضرر بأي أحد حيا كان أو ميتا، ولن يفيد أو يضر ذكر الاسم الآن.

الصفحة الأولى من الوثيقة التي جاءت في عشر صفحات
الصفحة الأخيرة
المصدر : الجزيرة مباشر